قراءة: حنان بنت عبد العزيز آل سيف(*) معالي الدكتور محمد بن سعد الشويعر - يحفظه الله ويرعاه - رجل عالم بفن القصة علم الجهبذ الصيرفي الخبير، فقد رسم محطات القصة الثلاث من مقدمة وعقدة وحل بلغة تأخذ بالتلابيب وتستحوذ على الإعجاب، في هذه القصص صور خالدة متطاولة لقيم روحية، وهمم ذاتية، ومعاناة نفسية، وقد أبدع الدكتور الشويعر في تصوير كفاح ونضال الإنسان السعودي من خلال أحداث هذه القصص، فهي قصص يعيش القارىء أحداثها بنفسه في صور حيّة نابضة بالفاعلية والحركة والنشاط، وهذه الأحداث استطاع أن يصوِّرها لقارىء كتابه ومتلقي فنه بدقة وتأنٍ من خلال أسلوب تحليلي محاولاً أن يجعل من شخصيات قصصه محاور حية تفسر سلوكياتها، فهو شديد الولع بتصدير اللمسات النفسية والخلجات الشعورية، وهو يصحبك برفقة موهبة قصصية فذة، ويبهرك في عرضه لصور الكفاح والكد والجد والاجتهاد، حيث أصبح لصوته صدى ومدى في رسم القيم والعادات ومكارم الأخلاق، ويتضح بُعد القصص الزمني وإطارها المكاني في أن أحداثها تدور حول الزمان الماضي، فبعضها يصل إلى مئة وخمسين عاماً أو أكثر أو أقل، وأبطال القصة بينهم وبين المؤلف تشابه وتقابل واتفاق في الشخصية الجادة والمكافحة والعصامية، حيث احتوى الكتاب على خمس وثلاثين قصة تناولت في مجملها هموم وآلام الإنسان في أنحاء الجزيرة العربية المترامية الأطراف، وهي قصص واقعية أبطالها نماذج بشرية مختلفة استلهمت مثالياتها من التراث السعودي المجيد، وازدوج فيها التاريخ والدين في جو سحري ساحري التحم فيه الواقع بالخيال. يقول معاليه الموقر في مقدمة الكتاب: (هذه مجموعة قصص كانت تتشر في المجلة العربية والجزيرة والفيصل وبعض الصحف منذ زمن، تحت عنوان: حكايات من الواقع، وهي نافذة تاريخية اجتماعية، تخللت فترة زمنية من بلادنا قبل قيام الملك عبد العزيز - رحمه الله - بتوحيد البلاد ولمِّ شمل أبنائها في مملكة مترامية الأطراف، وصاروا بنعمة الله إخواناً، تحت راية التوحيد، وهي قصص وحكايات تنبىء عن الحالات الاجتماعية، كنافذة تاريخية على حقبة من الحلقات المفقودة من تاريخ بلادنا، يدرك منها القارىء وضعاً سائداً وكيف يتعامل أهله مع واقعهم، ومع هذا لم يتخلوا عن دينهم وشيمهم ومكارمهم.. وكان منهجي فيها عدم ذكر الأسماء، ولا تفاصيل الحوادث بُعداً عن الإحراجات والظنون، لأن كثيرين بعد نشر الحلقات، يطلبون المزيد لأنها تنطبق على أفراد في بيئتهم في مواطن كثيرة من المملكة: حاضرة وبادية، ولأن القصد العبرة وإدراك وضع المجتمعات، والعادات في بلادنا، بإطلالة مع نافذة التاريخ، وما أجمل أن ينبري في كل منطقة من بلادنا، من يلم شعث التراث المروي، في منطقته ثم إخراجه ليكون بعضه مكملاً لبعض، في حلقات منتظمة يجده الأجيال بعدنا مادة تخفف ما هو معهود لدى أوائل المتعلمين في بلادنا، رصيداً حفظوه ممن قبلهم، إن لم يحفظ بالرصد والكتابة فسوف ينمحي من الذاكرة كما نسي ما قبله). هذا وقد امتازت هذه القصص بلغة متينة وقوية، ومما لا شك فيه أن القاص الدكتور الشويعر بذل جهداً جهيداً في انتقاء الألفاظ وتصوير المعاني ليحقق من خلال هذا مستوى عالياً من جمال ورقي التعبير اللغوي، ومن ثم فهذه القصص غنية بإشراقات فنية وإبداعية متألقة. ومن مواطن الجمال اللغوي في هذه القصص قول المؤلف - حرسه الله - تحت عنوان القصة التالية: (ثقة بالله وتوكل) ما مضمونه: (كان هذا درساً للفلاح ولغيره ممن تناقلوا الحكاية رواية ودراية، فشرح الله صدره، وكان عبد الله بعد ذلك موضع تقديرهم، زيادة عما كان له في نفوسهم، وقد جعل الله النماء في عقبة وفرة في المال، وحرصاً على أفعال الخير واستمراراً في فائدة ما أوقف، رغم تغيُّر الزمن وتبدُّل المفاهيم، لأن العمل الطيب تبقى جذوره ندية طرية، مهما تطاول الزمن، وهذا من الصدقة الجارية التي لا ينقطع أجرها، ويبقى أثرها وذلك فضل يؤتيه من يشاء. وسمو لغة القصص وترسلها السهل الممتنع جعل لهذه المجموعة القصصية جواً جذاباً يفوح منه أريج عطر التاريخ السعودي التليد، هذا وقد أبدع في توظيف هذا التاريخ مشوباً بالروح الدينية التي أضفت على الجو العام للقصص روحانية صادقة، وأريحية صافية، وتتسم هذه القصص بالجدة والتشويق والمتعة، وقد اخترت لك أيها القارىء الكريم قصة الرجل العابد الإفريقي فهي صورة من صور العبادة والتوكل والإنابة إلى الله جل جلاله، يقول المؤلف - أدامه الله - تحت العنوان التالي: (العابد الذي لا يُعرف)، (في هدأة الليل على عادة إبراهيم في خلوته الثلث الأخير من إحدى الليالي، بعد أن أدى ما كتب الله، وقدر عليه من الصلاة، كان جالساً في مكانه في الحرم مستقبلاً أحد أركان الكعبة يذكر ربه ويسبح لصلاة الفجر، أبصرت عيناه رجلاً نحيف الجسم، عاري النواشر، أسمر اللون، بل إن سواده يُذكِّر بمؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلال بن رباح، يمشي وهو يهتز من النحافة والهزال، رثّ الثياب، تزدريه العين، ولعله لو خطب لم يزوج، ولو شفع لا يشفع ولا يلتفت إلى مثله أحد.. لم يعره إبراهيم أي اهتمام لما ذُكر من هيئته وصفاته، جاء يمشي الهوينى واتجه إلى الكعبة، وبدأ يطوف أشواطه السبعة تحية للمسجد، والمطاف به نفر قليل يعدون بالأصابع، وهذا الوافد بسواد بشرته يسير مع الطائفين مطأطئ الرأس، منكسر النظر، حتى إذا أكمل أشواطه اتجه إلى مقام إبراهيم، فأدى ركعتي الطواف بوقار وسكينة، ثم دعا ما شاء الله.. قام هذا الوافد ليتعلق بأستار الكعبة، فاختلط سواد بدنه بسواد ثوب الكعبة، ولا يميزه إلا ثيابه الرثة، وصوت دعائه، الذي تشوبه العجمة ولغة الأفارقة في إسقاط بعض الحروف، أو نطق بعضها من غير مخارجها، وجد صوت هذا الداعي يرتفع شيئاً فشيئاً، وهدوء الليل وسكون حركة الناس، كل هذا مما يعين على توضيح كلمات الداعي وبيان نبرات صوته. ومن هنا يتضح لك أيها القارىء أن لكل قصة أنموذجاً وجواً خاصاً بها، فالقصص ملتقى لنماذج إنسانية متنوعة ومتناقضة والخيط الرفيع الذي ينظم هذه الأحداث هو سمة القص والحكاية). *عنوان المراسلة: ص.ب (54753) الرياض (11524)