عذراً لطبقة النبلاء حينما أصبح بقاء الكادحين على قيد العذاب وليس على قيد الحياة مادام الصراع من أجل ذلك البقاء هو الوسيلة التي تبرر الغاية في هذه القرية الكونية التي بنيت أركانها وشيدت أسوارها على مبادئ ميكافيللية، وحينها لا فائدة مرجوة من وصول الحضارة إلى نهاية التاريخ ولا أمل في تجاوز التمدن خطوط الطول ودوائر العرض لأنه لا مستقبل مشرق للإنسان في العيش في هذه القرية الكونية بعد أن تحققت توقعات السيد ماك لوهان، لأنها قرية يلفها الظلام والتخلف والعنف والاستبداد من ألفها إلى يائها رغم ثورة التكنولوجيا والاتصالات والأحزمة الضوئية فهي باختصار قرية تسعى لكل شيء إلا مصلحة الإنسان الذي بات يدرك تماماً أنه يعيش فضيحة كونية في عالم مفعم بالريبة ومشتقاتها من الغيرة والتحاسد والوشاية وما أفرزته هذه الأخلاقيات من وصاية وهيمنة واحتكار وأصبحت الثقة في أزمة بدءاً من الثقة بالنفس مروراً بالثقة بالآخر وانتهاء بالثقة بالحكومات والدول والمؤسسات الأممية حتى سقطت مقابل ذلك كل سايكولوجيا الحيلة التي يلوذ بها الضعفاء حرصاً على البقاء ولم تعد تلك السايكولوجيا طوقاً للنجاة فلا العصافير قادرة على التخلص من شباك الصياد ولا الفئران مستطيعة أن تخدع الأسود مما عقد الحياة وتفاصيلها وحولها إلى غابة تمتع بوباء مبثوث في الطرقات على يد بكتيرياء معقدة الخلايا والإنسان في تلك القرية بلا مناعة ولا مصحات في زمن توقف دهشة عند هذه الفاجعة، تدفعه الكوارث وتعصف به النوازل فهو في صعوده وهبوطه أشبه ببندول يتراوح يمينا وشمالا ولكن الساعة التي تقيس التسارع بلا عقارب والتراب الذي كان صالحا للقياس في الماضي قد استبيح وفق المنهج البرغماتي الذي لا يقيم وزنا لأية قيمة، ولا يعترف بالأخلاق والبعد المعنوي للتاريخ.. شعرت بالإحباط المخيف حينما قرأت ما ذكرته وكالات الأنباء في تاريخ 25-10-2006م أن ستة من الجنود الألمان الذين تم التعرف عليهم لاحقاً، يتخذون من جمجمة أحد الأفغان كرة للعب. ومما زادني إحباطاً أننا في زمن حقوق الإنسان الذي تجاهلوا أجراس استغاثاته في أم القارات (آسيا) من تبعات الحياة اليومية ليثبت ذلك التجاهل أن التصحر تجاوز التراب والنبات والغابات والقارات إلى الأدمغة والضمائر والوجدان، ليصيب الحضارات المعمرة في مقتل بخنجر الانقلابات الكوبرنيكية وجنرالات لا ترى إلا نصف الكرة الأرضية على شكل خوذة فولاذية، كما أن الجياع لا يرون في استدارة القمر إلا رغيفا حسب وصف الشاعر الكبير طاغور ولذلك لا أجد حرجاً ودهشة من تقرير جامعة جونز هوبكنز عن عدد القتلى العراقيين منذ بدء الاحتلال والبالغ 650 ألف قتيل.. تحققت توقعات السيد ماك لوهان في القرية الكونية وتحققت مقابلها السوداوية في نظرة فيكتور هوجو صاحب رواية البؤساء للمستقبل، كان يراهن عليها حينما سخر منها معاصروه الذين يبنون أحلامهم الوردية على مستقبل أفضل مما كان بعد الحرب الكونية السالفة باعتباره المجال الحيوي لتحرير الإنسان من خلال التطور العلمي، فأثبت الواقع المظلم وما فيه من التطور التكنولوجي أنه كان أنكى وأظلم من سوداوية هوجو، وبخاصة في ظل مطاردة كائنات بسبب ما تحمله من ألوان وأسماء وعقائد، فلتسقط كل مبادئ الثورات المزيفة وكل مرجعيات المرتزقة وما فيها من شعارات براقة فلا قيمة للعدل ولا الحرية ولا المساواة مقابل اللهو بجمجمة إنسان في جهة وقتله على الهوية في جهة أخرى لأن العنصرية والطائفية والنازية والبلشفية والبعثية والإرهابية ممارسات دكتاتورية وسلوك عنيف، هي مرفوضة عند الأسوياء في أي شكل وتحت أي منطق وفوق أي مسوغ لأن الحضارات التي تبشر بها العسكرتاريا ستكون على حساب كرامة البشر.. وبعد الموت من الظمأ فلا نزل من السماء القطر، ولا عم تلك الأرض الربيع.. يحاربون الشمولية في وطن ما فصار نظامهم يشمل كل الأرض، يحاسبون الأنظمة من أجل حقوق الإنسان فصار الإنسان هو المحاسب لفرض سيطرتهم، لا يمنعهم من اغتصابه وسفك دمه أحد باسم الديمقراطيات الحالمة والخرائط الجديدة حتى أصبح من القدر المؤلم له هذا الجزء من العالم ألا يشعر بمناسبة سعيدة بعد اجتياح الأمراض العضوية والنفسية لجسده وذاكرته حتى أصبح العيش مستحيلا في أوطان مستحيلة، والقرابين تملأ الأزمنة والأمكنة على السواء، وإرهاصات الحروب الأهلية على الأبواب، ولا هدف منها سوى القتال ذاته، وملفات بدأت تفتح لتغيير ما عهدته الجغرافيا بعد وأد شهود التاريخ، وفواتير منذ قرون يتم تسديدها في مقصلة لا تبقي ولا تذر، ورائحة مظاهر التعصب والتطرف والعنف طغت على كل ذلك الأريج. والمواطنون في هذا الشرق الأدرد تائهون بين عنف ظاهر يمتد من صرخات الاغتصاب في أبو غريب إلى صرخة فتاة المحمودية التي اغتصبها أحد جنود المارينز ثم قتلها وقتل ثلاثة من أهلها، وباطن يمارس المجتمع على أفراده حين يتخذ أشكالاً عنيفة لا تقبل الاختلاف في وجهات النظر في هذه المتوالية التي اتخذت نمطاً معكوساً حتى شملت مصيبتنا في آسيا الحيوان والطير والنبات مثلما شملت المتحف والمدرسة والكتاب ليصدق الواقع أنه لا فرق بين الاستعمار الكلاسيكي والمودرن ولا فرق بين التراث الكولونيالي الكلاسيكي وما أفرزته العولمة في بعدها العسكرتاري وهذا ما دفع سارتر لكتابة مقالات عدة عن الاستعمار الجديد، خصوصاً في مقدمته النادرة لكتاب فرانز فانون عن معذبي الأسر. كان على البشرية وهي تتذكر الثورة الفرنسية ومبادئها التي هدمت سجن الباستيل ألا تنسى أن هذه القرية الكونية تحولت إلى سجن أكبر وجدار فاصل ورأت بأم عينيها أكثر من باستيل سري في أوروبا وغيرها، كان عليها وهي تتذكر فكريستوف كولومبس الذي اكتشف الأمريكيتين حتى أصبح ذلك الاكتشاف رمزا لبناء عهود جديدة للإنسان ألا تنسى هدفه من تلك الرحلات إذ نص في رسالته إلى مليكه الإسباني أنه عثر على جنات عدن ومن خلالها يسعى إلى تجهيز حملة صليبية لتحرير بيت المقدس من المسلمين كما كتب. استبشر العالم الحر بعد الحرب العالمية الثانية بمستقبل واعد بما سمي حقبة ما بعد الاستعمار، فكانت حقبة سباق التسلح وتحولت الحروب الجهنمية إلى باردة ليطمئن الإنسان الساذج فأفرزت انقسام العالم إلى معسكرين نوويين تجاوزت طموحاتهما الحربية الأرض إلى الحرب على النجوم، كان كل شيء قد انتهى بالنسبة للإنسان بعد أن أدرك أن تحرير أوروبا من النازية كان شعارا في نصوص ليست أدبية في فقه السياسة تحطمت بموت المؤلف والقارئ في فيتنام وافغانستان وكوبا والعراق، ولو كانت تلك الأدبيات تحمل قيمة إنسانية لعلمت الألمان الستة أن اللعب بجماجم البشر إنما هو تصرف نازي ولكن بشكل مختلف يسوغ الإبادة الجماعية من أجل الإنقاذ وهذا ما جسده حوار شهير دار بين جنرال وجندي فعندما أباد الجنرال إحدى القرى الفيتنامية سأله الجندي عن السبب، وكان قد فرغ للتو من قراءة مذكرات الجنرال باتون، فأجابه الجنرال قائلاً: إنه أباد القرية لإنقاذ سكانها. وربما لو أجري التحقيق مع الألمان لقالوا إنما كنا نلهو بجمجمته لإنقاذ جماجم أخرى، والأدهى من ذلك أن الأطفال والنساء والعجزة شاهدوا تلك المباراة غير المتكافئة، التي لم يكتمل فيها العدد ولم يحضر الحكام، ولكن جمهورها سكان الكرة الأرضية، كانت بلا كأس ذهبية، وانتهت بهدف عسكري لم يحرزه هداف ألمانيا في دورات كأس العالم جيرد مولر ولم يصنعه مبدع الوسط هانس رومينيغيه ولا القيصر بيكنباور، ولم يكن في مرمى البرازيل ولا إيطاليا ولا الأرجنتين وإنما في صميم الحضارات التي تعاقبت على أفغانستان العريقة، كانت الشاشات عاجزة عن إعادته ببطء لأنه أنفذ من سهم يمرق من رميته بسرعة الضوء، ولا يستطيع إعادته إلا أطفالنا حينما يطلب منهم رسم أكثر منظر مقزز ومروع مر عليهم في حياتهم، وما أكثرها، ليشهد مستقبلنا ولادة أجيال تحتاج إلى علاج مما تتعرض له وما تراه مما زاد من معدلات الجريمة والعداوة في مجتمعاتنا، إن اللون والفرشاة بين أناملهم الصغيرة تجاوزا إتقان رسم أنواع الأسلحة والذخيرة والخوذات ومخيمات اللاجئين بينما العالم الآخر يجري مسابقات أطفاله في رسم أبشع صورة مشوهة لنبي الرحمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في تحد صريح للأعراف الدولية ومبادئ هيئة الأمم التي تحفظ كرامة الأنبياء والديانات والمقدسات والشعوب من التطاول، وجاءت الطامة الكبرى على لسان البابا مع تقديري لاعتذاره متجاهلين أن مسلما واحدا على مر التاريخ لم يتخذ جمجمة إنسان يلهو بها بل حفظ التاريخ كثيرا من الجوانب الإنسانية منها أن خليفة المسلمين أمر الجيش الإسلامي بالخروج من سمرقند بعد شكوى أهلها لأن الإسلام دين يرفض الغدر ويحفظ كرامة ذلك الإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، وكانت وصاياه بأبي هو وأمي للمجاهدين ألا يمثلوا في القتلى ولا يشوهوا وجوههم، ولا يقطعوا شجرة ولا يهدموا بئرا ولا يقتلوا مسالما ولا شيخا ولا طفلا ولا امرأة ولا يبدؤوا القتال حتى يقيموا الحجة، مع يقيني التام بالفرق بين الإسلام والتاريخ الإسلامي.. كنت أتمنى من الفيفا أن أصدرت شجباً واستنكاراً يبين أن كرة القدم غاية من غايات الحضارة والثقافة واحترام الإنسان حياً وميتاً وليست وسيلة من وسائل لهو الطارئين والغزاة بجماجم البشر،،،، والله من وراء القصد.