هذه الذكريات التي أنثر لقرائي شيئاً منها.. ومثلُها ما يفعله الآخرون كالدكتور عبد العزيز الخويطر، والأستاذ عبد الرحمن بن محمد السدحان - ما هي إلا صفحات قليلة جداً إذا قيست بما تمتلئ به خزانة حياة الإنسان، التي تمثل جوانب لا تعد ولا تحصى كثرة وتنوعاً.. مرّت بحياة هذا الإنسان أو ذاك.. وفي المآل هي صورة أو صور من تاريخ هذا الوطن وتنوع مجريات حياته.. وما حفلت به حياته مما يسر أو يغم. وحينما أستل ملفاً من آلاف الملفات التي تنوء بها خزانة الذاكرة.. فإنما أنثر شيئاً من حصادها الذي يكون فيه (الخُنَيز) و(الهيّبان), وتكون فيه سنابل القمح والرز والذرة وطيبات ما يؤكل أو يقتنى. فمثل هذه الصفحات تكشف للذين لم يعاصروا تلك الأزمنة بما هي عليه الحياة والأحياء.. وتعطيهم قدوة في الصبر والتحمل ومكابدة الأيام.. وأن أيام الحياة ليست كلها خضراء مزهرة ولاغبراء مقفرة.. ولعل من جملة الصفحات المضيئة في حياتي، وهي - بحمد الله كثيرة - أن كنت أول إنسان يصدر أول كتاب عن نجد في العصر الحديث. عن الشعر والشعراء في منطقة نجد. *** خطرت لي فكرة تأليف هذا الكتاب حينما رأيت أن نجداً أغفلت من قبل الشعراء والأدباء والمثقفين.. فلم يكتب كاتب سعودي أو غير سعودي عنها شيئاً يذكر سوى لمحات متقطعة من مقال للدكتور طه حسين بعنوان (الحياة الأدبية في جزيرة العرب) شمل جميع أصقاع الجزيرة العربية، وطبع في (دمشق عام 1354ه) وجاء فيما يقارب 45 صفحة من الحجم الصغير. إلا أن عدداً من الكتب التي جمعت قصائد لشعراء الحجاز، وجازان، والمنطقة الشرقية لكن بعض مناطق المملكة العربية السعودية كالحجاز، وجازان، والمنطقة الشرقية - صدرت عنها كتب، ومجموعات شعرية، وتعريفات موجزة بأدبائها. أما (نجد) فلم يلتفت أحد منها أو من المناطق الأخرى ليتحدث عن أدبها وعن أدبائها ويعرّف بشعرها وشعرائها. وحيث إن هذا لم يحدث أخذتني الحمية.. وهي حمية غير جاهلية.. بل حمية إنصاف وربط متواشج مع أدب وشعر الشعراء في جميع أنحاء الوطن أولاً، ثم ربط الكُل بالأدب العربي في جميع أنحاء الأمة العربية ثانياً. ومن هذا الواقع الرئيسي توكلت على الله وبدأت العمل عام 1378ه وقابلت الشعراء الموجودين في الرياض. وكتبت إلى من هم في المناطق والمدن الأخرى. أخبرهم بما عزمت عليه من تأليف كتاب عن شعر وشعراء نجد المعاصرين, وأطلب من كل شاعر أن يمدني بأجمل وأقوى قصائده الشعرية مع استبعاد نوعين من الشعر هما (المديح والهجاء) فهذان النوعان من الشعر لا مكان لهما في كتابي الذي اشتغل عليه. وحدّدتُ عدد القصائد بحيث لا تقل عن عشر قصائد، ولا تزيد على خمس عشرة قصيدة. مع ترجمة موجزة عن حياة الشاعر ونتاجه الأدبي. وما كنت لأطلب من الشعراء أن يمدوني بشيء من أشعارهم لو أنها قد صدرت في دواوين مطبوعة. كانت استجابات الشعراء مشجعة جداً، إذ بادروا بإرسال ما طلبته وخلال أسابيع قليلة توافرت لدي نماذج أشعارهم؛ وتراجمهم. وقد فرغت حينذاك من كتابة (القسم الأول - الدراسة). وقد استغرق مني تأليف الكتاب قرابة سنتين. *** وحين انتهيت منه وجهز للطبع زرت الأمير سلمان بن عبد العزيز في مكتبه بقصر الحكم، وطلبت منه أن يكتب للملك سعود ويخبره عن الكتاب، وعما إذا كان الملك سيوافق على طباعته على حسابه في (مصر) أو (لبنان)؟ كتب الأمير سلمان للملك سعود بهذا الشأن وجاء الرد الملكي بالموافقة على طبع الكتاب (بشرط!) وياله من شرط قاس وبعيد كل البعد عن أن يلامس ذرة من فكري وشعوري. يوافق جلالة الملك سعود على طبع كتاب عبد الله بن إدريس حول شعراء نجد.. بعد تشكيل لجنة لفحصه ونزع القصائد التي لا تناسبنا واستبدالها بالقصائد التي نراها مناسبة. يبدو أن الملك سعود - رحمه الله رحمة واسعة - ظن أن الكتاب مجرد مدائح وهجاء.. وما إلى ذلك.. رفضت هذا الشرط لدى الأمير سلمان.. فحاول الأمير تهدئة نفسي وقال (تشكل له لجنة من عبد الله بالخير مدير عام الصحافة والإعلام، ومن عبد الكريم الجيهمان، ومنك ونسهل الأمر) قلت وأنا أهتز غضباً مما سيفرض علي من توجيه لا أقبله. والله العظيم يا الأمير لو أعطيتموني (عشرين ألف ريال!؟) والله لا أقبل. وكأن العشرين ألف ريال حينذاك تمثل لي عشرين مليونا.. لقلة ما بيدي! قلت لن أقبل أي تدخل وتوجيه لي حيال الكتاب، بأي ثمن.. ولي الله فأنا سأطبعه على حسابي - إن شاء الله -. كان الأمير سلمان كعادته وطبعه الأصيل، حليماً عليَّ, فلم يغضبه موقفي اليابس هذا! ضد فكرة تشكيل اللجنة لفحص الكتاب.