قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف: اللغة العربية الفصحى كيان راسخ مرسى في قلب التاريخ، ومعكم ثابت صامد من معالم الزمان، وراية خفاقة مرفرفة من رايات البقاء والخلود والاستمرار، بها غنى الزمان، ولها صفق التاريخ، وبها خُلدت علوم العرب وأشعارهم ونثرياتهم، فرقص العرب فرحاً ومرحاً، وتمايلت الخيل زهواً وطرباً، وضرب أعشى العرب صنجه، ودق نابغة العرب خيمته، واعتلى امرؤ القيس فرسه، ليقول هؤلاء جميعاًَ لك أيها القارئ الحصيف: ما ظنك بلغة نزل بها القرآن العظيم، ونطق بها الرسول الكريم, وترنم بها الشعراء، وهزج بها الأدباء، وغرف من بحرها الحكماء والعقلاء والبلغاء، فهي بحر لا ساحل له، وجبل لا منتهى له، وروضة يانعة لا حدود لها، وقد عشقت العرب سحر لغتها، وجاذبية لسانها، وتغنوا بهذا وطربوا له، وما زال علماء اللغة، ومفكروها على هذا الوداد والحب اليتيم، حيث كتبوا فيها أعز المؤلفات، وأثرى المنظومات، فغدت اللغة العربية جذلة فرحة منتشية بما كتب وسطر فيها، وما فتئ العربي مختالاً بلغته، فخوراً بها، معتزاً بالانتساب لها، مشيداً بما تحفل به من اشتقاقات وتصريفات ونحويات، وحينما جاءت دعاوى المستشرقين والمغرضين والمنافقين محملة بالكراهية والحسد والغيظ، وذلك في دفعهم لبعض الأعاريب الغفلة، والمستعربين الجهلة، إلى استبعاد اللغة العربية الفصحى كلغة رسمية في الشعر والنثر والحوار والمناهج الدراسية، وإحلال العامية واللهجة الملحونة محلها، هنا ثارت ثائرة الغيورين والمحبين الحقيقيين من أبناء هذه اللغة العظمى التي نزل بها القرآن، وخاطب بها النبي - صلى الله عليه وسلم - صحبه وصحابه، وأهله وذويه، وأوليائه وتابعيه، رضي الله عنهم وأرضاه، وهبَّ آل العربية وعشاقها وفلذات أكبادها مشمرين مدافعين عن مجدهم وتاريخهم ولغتهم، وهزج الشعراء راقصين بقصائد ذائعة، وألفاظ زاهية، ومعانٍ يانعة، ولا أجمل ولا أروع من قصيدة شاعر النيل (حافظ إبراهيم) التي هاجت بها قريحته الشعرية الوقادة المضيئة على لسان اللغة العربية الشماء، حيث ينطلق لسان شاعر النيل انطلاقة الغيرة، ويفزع فزعة النجدة، ويقف على منبر اللغة العربية الحضاري وقفة الشجاعة والبسالة منشداً: رجعت لقومي فاتهمت حصاتي وناديت قومي فاحتسبت حياتي رموني بعقم في الشباب وليتني عقمتِ فلم أجزع لقول عداتي وسعت كتاب الله لفظاً وغاية وما ضقت عن آي به وعظاتِ فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعاتِ أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني ومنكم وإن عزّ الدواء أساتي فلا تكلوني للزمان فإنني أخاف عليكم أن تحين وفاتي أرى للغات الغرب عزاً ومنعة وكم عز أقوام بعز لغاتي ومن بركات اللغة العربية تخليد هذه القصيدة الباقية، لأنها قيلت بصدق وإخلاص في الدفاع عنها، فلا يتحدث متحدث، ولا يخطب خطيب، ولا يُنتشى شاعر، ولا يترنح ناثر، في فضائل هذه اللغة المتسامية إلا وتتدفق الذاكرة متفجرة بأبيات شاعر النيل عليه رحمة الله تعالى، هذه القصيدة في حدث ذاتها تعتبر تأريخاً ورسالةً ومنبراً لموقف أبناء العربية الصاعدين المخلصين من دعوى مغرضة، وحركة سقيمة حاقدة هدف الأعداء من ورائها إلى هدم اللغة العربية، واقتلاعها من جذورها، ولكن هيهات هيهات فقد حال القريض دون الجريض، ليهب أبناء العربية الخلّص ومتيموها وعشاقها هبة رجل واحد يحرك شفتيه بقول الشاعر الناهض: ومليحة شهدت لها أعداؤها والحق ما شهدت به الأعداء تلكم الحرب العالمية الثالثة بطرفيها اللغة العربية كطرف أول، وأعداء هذه اللغة كطرف ثانٍ، وانتهت هذه الحرب بانتصار اللغة العربية على مبغضيها والحاقدين عليها، وباتت قصيدة حافظ إبراهيم كالعلم الذي في أعلى رأسه نار دائمة الاشتعال، ومستمرة الإضاءة، لتحكي لنا صفحة من صفحات تاريخ اللغة العربية في بداية عصر الشعر العربي الناشئ الحديث، ويأتي السؤال الذي يضرب في الصميم ليقول لأبناء اللغة العربية من متيم وعاشق ومحب: ما موقفكم من لغتكم في عصر الفضائيات والحاسوب والإنترنت؟؟ ولن تعدم اللغة العربية من أبنائها البررة المخلصين من يجيب عن هذا التساؤل بكل ثقة وأمانة وعلم، هذا الرجل الأشم الذي انبرى للإجابة عن هذا السؤال الذي خيّم بعدته وعتاده على كتفيه، فإذا بالسؤال نفسه يتعجب من قوته ورباطة جأشه، وتأبطه لإجابة طويلة مسهبة مدعمة موثقة، ذلكم الرجل هو سعادة الدكتور أحمد بن محمد الضبيب - حفظه الله ورعاه - في كتابه: (اللغة العربية في عصر العولمة)، وهو من يراع مكتبة العبيكان الرائدة - الطبعة الأولى - عام 1422ه - 2001م، هذا الكتاب يحمل في طيّاته رسالة فحواها كما وردت على لسان المؤلف: (تحاول هذه الفصول أن تشير إلى بعض مواضع الخلل، وأن تضع بعض الصوى على طريق الاهتمام بالفصحى، وإحلالها مكانتها الطبيعية في حياة الأمة لا لكونها لغة الدين والثقافة والتراث، وعنوان الهوية، وأداة التواصل المشتركة بين أبناء الأمة وحسب ولكن بوصفها أداة من أدوات الرقي التي لا غنى عنها لأمة تنشد التقدم). والكتاب يتطرق إلى أمور مهمة، لا يجول في حلبتها إلا فارس مغوار متلبس بالإحاطة والشمول والحزم وقوة الحجة في منازلة الخصم ومقاومته وهزمه، وتتضح هذه الناحية في وقوف المؤلف وقفة متأنية عند كثيرٍ من الحقائق والمعلومات اللغوية التي ساقها (هنتجتون) في كتابه الرائد: (صدام الحضارات). فقد تطرق (سامويل هنتجتون) إلى قضية مهمة ومحورية وخطيرة، مفادها أن الادعاء بأن اللغة الإنجليزية لغة عالمية ادعاء ليس له نصيب من الصحة حينما نضع القضية على محك البحث العلمي، ذلك المبحث المؤصل الموثق، وفي كتابه الآنف الذكر، أشار إلى أن القول بعالمية اللغة الإنجليزية ما هو إلا وهم كبير، ودلل على صحة ما رأى بقوله إن عدد الذين يتحدثون الإنجليزية في العالم بوصفها لغة أولى لهم سنة 1992م لا يزيد على 7.6% من بين المتحدثين بلغات يزيد من يتكلم بها عن مليون نسمة، بل إنه يبين أن نسبة المتحدثين بالإنجليزية قد تدنى سنة 1992م عنه في سنة 1958م التي كان يوازي فيها المتحدثون باللغة الإنجليزية نسبة 9.8% وينتهي به بحثه إلى الحقيقة التالية وهي: (أن لغة تعد أجنبية لدى 92% من سكان الأرض لا يمكن أن تكون لغة عالمية)، والوصف الحقيقي اللائق بهذه اللغة الإنجليزية هو أنها تُعد في عصرنا هذا لغة الاتصال العالمية بين مختلف الثقافات والحضارات المتباينة والمتعددة، ليتسنى لهذه الشعوب المختلفة التفاهم والتخاطب فيما بينهم، شريطة أن يتحدثوا بلغاتهم الخاصة في مجتمعاتهم الداخلية والخاصة، ويعقب الدكتور الضبيب على هذه النتيجة التي وصل إليها مؤلف كتاب (صدام الحضارات) بقوله: (وبذلك يضع هذا الباحث اللغة الإنجليزية في حجمها الحقيقي، بوصفها لغة للاتصال بين المختصين أو من يحتاجونها من الأفراد من جهة، ومن يتعامل معهم من أفراد أو جماعات من تجمعات ثقافية أخرى من جهة أخرى، ولهذا تنتفي الحاجة بها لكل أفراد المجتمع، وإنما يكون اتقانها مطلوباً لمن له اتصال بشكل أو بآخر مع أي عنصر أجنبي حسب تخصصه، سواء كان تاجراً أو دبلوماسياً أو باحثاً أو غير ذلك). وفي الكتاب مباحث عظيمة، وفوائد وفرائد مهمة عزيزة، ففي نهاية الفصل الأول من فصول الكتاب والذي يحمل العنوان الآتي الزاهي، (اللغة العربية في عصر العولمة) يزف المؤلف إلى قراء كتابه خبراً يثلج صدور المحبين لهذه اللغة والغيورين عليها يقول فيه: (أود أن أزف إليكم خبراً سمعته من أحد الزملاء المشتغلين بدراسات الحاسب الآلي والمعلوماتية مفاده أن دراسة أجريت في اليابان على اللغات العالمية تستهدف معرفة أكثر اللغات وضوحاً صوتياً في استخدامات الحاسب الآلي، أثبتت أن اللغة العربية تتصدر هذه اللغات في هذه الناحية بينما تأتي اللغة الصينية في آخر القائمة مما يؤكد تميز اللغة العربية من ناحية الوضوح الصوتي، وهكذا هي اللغة العربية لغة الإنابة كما قال تعالى:(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) (195) سورة الشعراء، بينما تكون اللغات الأخرى كلها لغات رطانة)، ومن مباحث الكتاب الجادة مبحث: (اللغة الأجنبية والتعليم الجامعي) وفحواه ضرورة تعريب التعليم في الجامعات، بما في ذلك الطب، حيث أثبتت الدراسات والأبحاث العلمية نتائج مذهلة في تدريس الطلاب أولاً باللغة الإنجليزية، وثانياً باللغة العربية، ونتيجة هذه التجربة تتضح بجلاء في قول المؤلف - حفظه الله - : (ولقد دلت الدراسات العملية التي قام بها الأساتذة الذين مارسوا التدريس باللغة الإنجليزية أولاً، ثم بالعربية أن التدريس باللغة العربية قد أسفر عن نتائج باهرة فيما يخص سرعة القراءة والفهم والاستيعاب، ومن هذه الدراسات تلك الدراسة التي أجراها الدكتور زهير السباعي، ونشر نتائجها في كتابه القيم: (تجربتي في تعلمي الطب باللغة العربية) فقد دلت دراسته العلمية العملية على أن قدرة الطالب على القراءة قد زادت بقدر ملحوظ وكذلك قدرته على الاستيعاب والفهم، وفي دراسة استطلاعية ذكرها الدكتور زهير السباعي في كتابه الآنف الذكر، أجريت في كلية الطب بجامعة الملك فيصل (أجاب أكثر طلبة كلية الطب الذين شاركوا في الدراسة بأنهم سوف يوفرون 50% أو أكثر من وقتهم لو أنهم قرؤوا أو كتبوا باللغة العربية). ومما يجدر بي أن أشير إليه أن كبار الأطباء في بلاد الإسلام، كانوا يعلمون طلابهم باللغة العربية، وكتبوا مؤلفاتهم بهذه اللغة أيضاً، فابن سينا وهو من هو في علم الطب خلّف لنا كتابه الذائع (القانون) وقد كتبه من ألفه إلى يائه باللغة العربية، والناظر في لغة هذا الكتاب يعجب من فصاحتها وبلاغتها، فهي عربية قحة وأخيراً فالكتاب حافظ أمين للغة العربية في عصر التقانة والعولمة، والتي اختلط فيه الحابل والنابل وصار الناس في حيص بيص. عنوان المراسلة: ص.ب 54753 -الرياض 11524