يعد عبدالقاهر الجرجاني من أشهر مؤسسي النظريات النقدية في أدبنا العربي، ولقد لفت نظري ذهابه إلى أن الوزن ليس ما يجعل الكلام شعراً؛ إذ يرى أن الشاعرية هي في البلاغة والفصاحة، ويؤيد ذلك بقوله: إن النص الواحد المتفق في الوزن والقافية لا يتفق في الفصاحة والبلاغة إجمالا. وقد نستغرب هذا الرأي، بل منا من يعارضه بشدة، ولكنني قرأت نصاً نبطياً للشاعر سعد بن جدلان الأكلبي يؤيد هذا الرأي ويدعمه نقديا، حيث قرأت في رده مرة على من ادعى أنه قد فاته أحكام نظم أحد بيوته واتهمه بالكسر فيه إذ يقول مخاطباً إياه: 1 - يلي تقول الشعر همزة وكسرة يقول فكرك مقدي وانت مقديت فالهمزة والكسرة لا يتعلقان بالبلاغة والفصاحة المجللة للمعنى ولكنهما متعلقتان بالوزن والقافية، وهما قالبا الشعر العمودي، فنراه يخاطب صاحب الرأي السابق ويوجهه إلا أن الشعر ليس همزة وكسرة أي وزن وقافية فقط ويعارضه في ذلك بقوله (ما اقديت)، بل يذهب إلى أبعد من ذلك حين قال: 2 - اسرح نهارك وإن ضوى ليلك أسره وتعود من بحر الشعر مثلما جيت فهو يسخر من ذلك الذي يرى الشعر وزنا وقافية ويقول: إنك لن تأخذ من بحر الشعر حقا، ولا باطلا ما دام هذا مذهبك، ثم يوجهه إلى الشعر الحقيقي كما يراه فيقول: 3 - أحلا بيوت الشعر سهلة وعسره عسره على الإبداع سهلة ليا أوحيت فهنا يبسط رأيه في الشعر الذي يستحق هذا الاسم (السهل الممتنع) الشعر الذي يحتفي بشرف المعنى، كما يذهب إلى ذلك كثير من النقاد القدامى في تحديدهم عمود الشعر. كما يضيف مزية أخرى لذلك النص الشعري المنتخب سواء كانت تلك المزية لصاحب النص أو لناقله أو لمتذوقه، فهذه البيوت التي يختارها الأكلبي نموذجا شعريا لا تخجل، ولا تخجل بل هي بضاعة تحمل الشجاعة والجسارة وتكسب صاحبها نفس السمات إذ يقول: 4 - يضرب بها هوج الدواوين جسرة مهوب لا من جاب بيت سقط بيت نعم (جسرة) كم هي معبرة فهي جسرة ليست جسارة في مقهى أو تلفزيون أو تليفون أو محادثة انترنت أو أمسية مصنوعة أو أصبوحة ممجوجة بل هي جسرة على هوج الدواوين التي تمتلئ بالعقول الناقدة والبصائر الثاقبة والمتذوقين الأقحاح، تلك الدواوين التي لا يجسر عليها إلا من يحمل سيفا أودرعاً أو رمحاً لا يخذله في ساحة النقد، وليس ساحة الحقد، نعم أعطت تلك البيوت الجريئة صاحبها جسارة من جسارتها وقوة وشجاعة من قوتها وشجاعتها (شجاعة اللغة)، وليست تلك التي تزري بصاحبها، وتجلب له النقد السلبي فتضيعه ويضيعها عندما يحاول أن يضرب بها هوج الدواوين لأنها ليست كفؤا لتلك الدواوين بل هي لخفافيش الظلام سلعة تناسب ذائقتهم المعاقة. إن هذه الرؤية لا تصدر إلا عن فكر راق مجرب لا نجده إلا عند المبدعين والأكلبي هو رأس أولئك المبدعين، وإلا كيف له أن يتوصل لهذه النظرية النقدية التي نستطيع على ضوئها تقسيم القول الشعري إلى نظم وشعر وابداع جامع، وبالتالي إلى ناظم وشاعر ومبدع لأن الفارق كبير. فالناظم من يجيد الوزن والقافية، وقد يكون راوياً ولكنه ليس بشاعر ولا مبدع، بينما الشاعر من يضيف العاطفة للوزن والقافية، أما المبدع فهو من يجمع الفصاحة والبلاغة مع الوزن والقافية والعاطفة وهذه أركان الشعر. لكن الأكلبي لم ينضو تحت نظريته الشاعر النجم، ولا أدري كيف تسرب هذا الوصف إلى الشعر كي يوصف الشاعر بالنجومية ألا تكفي كلمة شاعر؟! أليست أبلغ وأجل وأعلى وسام إذ ليس بعد الشاعر لقب، يا للعجب! أظننا في هذا المناخ الملوث سنفاجأ غداً بالشاعر الوسيم والشاعرة العنقاء والشاعر التاجر!! نعم نريد كل شيء من لاشيء، ولكن لماذا العجب فقد فقدت هذه الصفة قيمتها عندما انتسب إليها من ليس فيه شيء منها. والشاعر يقول: لا تعجب ما على الدنيا عجب حكمة الرحمن خلالها تدور