لموضوع اليوم من الخُلف والجدل ما لا يدركه ذهن، ولا يستوعبه فؤاد، يتعلق بنظرية المفكر الأمريكي جنسيةً، الياباني أصلاً، فرانسيس فوكوياما، المعروفة ب(نهاية التاريخ). وعلى رغم أن هذه النظرية قد (زفت) في أمريكا قبل سنين، ووُرِيَتْ ثرى النسيان في إحدى (جنادريات) الأعوام الماضية، إلاّ أن لرحيلها ذكرى تستحقّ وقفة أخرى تأملاً وعبرةً!. * * * * أزعم بدءاً أن جدلية فوكوياما عن (نهاية التاريخ) هي ضربٌ من (شوفينية الفكر) التي يشقى بها بعضُ فلاسفة الغرب المعاصر، ويفتِنُون بها أفئدتَنا نحن عقلاء الشرق، ثم يدعُوننا نسهر جرَّاها ونختصم! وهم يفعلون ذلك لدواعي متعدّدة، ويبرّرون بدعهم الفكرية بالرغبة في البحث عن سبل لإنقاذ الإنسان الحديث من شقائه بنفسه مع نفسه، ومع (الآخر) بحثاً عن الزاد أو الأرض أو السلطة أو كلّ أولئك معاً!. * * * * تلكم نزعةٌ تتلثّم في ظاهرها بالطُّهر.. وتتزيّن بالنبل في طلب المقاصد، لكنها في حقيقة الأمر تعتمد على أحادية التقرير والتقدير بأنّ (الأيديولوجية) السياسية الغربية تملكُ وحدَها لا سواها ناصيةَ المبادرة لرفْع الأذى المادي والمعنوي عن كاهل الإنسان المعاصر، وتحريره من رقّ التخلف والجهل وبوار الذات، وقد تتعمّد التجاهل لكل ما سبقها من طروحات دينية سامية، نتذكر هنا بفخر وكبرياء ديننا الإسلامي المطهر الذي بشّر قبل أربعة عشر قرناً بسعادة الإنسان في الداريْن، ودعا إلى تحريره من ربقة الظلم والتسيّد المادي والمعنوي، وهو أول (وثيقة حقوق إنسان) أخرجت للناس قبل أن يتقن الغربُ أبجديات لغاته.. فيها تحصين للمرء من كل أذى يمسّه: دماً ومالاً وعرضاً! وإذا كانت بعض المجتمعات الإسلامية لم تدرك كلّ الغايات المثْلى لهذا الدِّين الحنيف، تجسيداً في القول والعمل، فلعلّةٍ تعاني منها هي، لا لقصور فيه!. * * * * ونظرية (نهاية التاريخ) ما هي إلاّ مقولة أخرى ضمن النسق العبثي الذي يبكي على أطلال شقاء الإنسان، ويعده بطوبائية (الليبرالية الديمقراطية)، زاعماً أنّ فيها بلسمَ مِحَنِه مع نفسه أو مع الآخر.. ونهاية لتداعيات شقائه الناجم عن ذلك، ليحلَّ بعد ذلك السِّلم والسلام، وتسودَ الحرية والرفاهة، ويتوقّف بذلك نبضُ التاريخ في ظل (اليوتوبيا) السياسية التي يبشّر بها فوكوياما!. * * * * والأعجبُ من هذا كله أن التاريخ الذي يطمع فوكوياما أن يئده في ثرى النعيم السياسي الموعود يذكّرنا بمَنْ سبقوه بحثاً عن معادلة تهادن الإنسان مع نفسه ومع الآخر! أفلَمْ يبشّرْنا منظِّرو الفكر الشيوعي قبل أكثر من سبعين عاماً بأن نظريتَهم البائرةَ البائدة تملك (الحلَّ) لصراع الطبقات تحت مظلة (الحرية من الجوع) ولا شيء سواها، لكنها فشلت بعد تجربة مريرة أوْدَتْ بكرامة وحُريات ومعنويات ملايين من البشر في الشرق والغرب، فما شهدوا عَدْلاً، ولا شَبعُوا زاداً، ولا أنهوا خلافاً!. * * * كان لا بدَّ أن تسقطَ هذه النظريةُ فكراً وتنظيماً؛ لأنها ناقضت فطرة الله التي فطر الناس عليها، وخالفت ما تعارفَ وتآلفَ عليه الناس من أخلاق وقيم وعادات تتنزّه بها إنسانيتُهم، وتسمو بها معادلات سلوكهم!. * * * * لقد نسي فوكوياما ومؤيِّدوه أو تناسوا أن الإنسان الغربي المعاصر بات نفسُه يشقى بليبراليته شقاءً يكاد يُفْقِدُه توازنه المادي والاجتماعي والمعنوي، وهو يعاني ويل التناقض بين ما يبشر به وبين مخرجات فعله! نسي المنظّر السياسي فوكوياما أن النظام العالمي الجديد، ممثلاً في غَلبَةِ أهل الدولار، عاجزٌ حتى الآن عن توفير مظلة الأمن والغذاء والعدل في عقر داره، فكيف يتوقع أهل العالم الثالث منه ما لم يتَأتَّ له؟! * * * * أخيراً، ربَّ قائل يقول: إن نظرية (نهاية التاريخ) ولدت وماتت قبل موعدها، فالسنين، ما مضَى منها وما هو قائم وما هو آتٍ، حُبْلى بالشقاء الإنساني ممثلاً في الحروب والفتن والفقر والجهل، فأين إنسانُ الغرب أو الشرق معاً من (يوتوبيا) النعيم التي بشّر بها فوكوياما قبل حين، وظنَّ من خلالها أن الغربَ قد بلغ من الحرية والثقافة والنمو ورغد العيش قدراً يمنحه الحقَّ في أن (يمليَ) إرادته على مَنْ سواه من العالمين، بحجة أنه بات قدوةً للبشر أجمعين، وأن مركبةَ التاريخ قد توقَّفتْ خارجَ أبوابه، فلم يعد في الأرض نظام سواه يَعِدُ الناسَ بالأمن والسلام!.