في تلك اللحظة ضقت ذرعاً بما يدور حولي؛ أغلقت كل وسائل الاتصال ما بيني وبين لعالم الخارجي. وبقيت في عزلة تامة تتعبها سكينة وتأمل، وأنا أسال الله أن أجد مخرجاً مما أنا فيه! حين بادرتني صديقتي الدمشقية أنها تود لقائي فحددت لها موعداً لزيارتي بيد أنها طلبت مني الاتصال قبل الحضور. فأجبتها: لقد أتعبتني التكنولوجيا بوسائلها وتقنياتها العصرية أرهقت أرواحنا ومشاعرنا، دعيها ولنتفق على موعدٍ ما كما كان يحيا غيرنا في الماضي! هل كانت هذه الوسائل متوفرة حينذاك؟ أم عرقلة مسيرة حياتهم بل هم أوفر حظاً منا إذ ينامون ويستيقظون دون أن تقلق آذانهم هذه الأجراس التي لا تكف عن الهذيان! قلت: لماذا لا نكتب بقلم الحبر أليس أفضل من تلك الشاشة الباردة التي لا تبثك شيئاً سوى فراغ الأرواح الباردة مثلها تماماً.. لمَ لا نتحاور وجهاً لوجه وقلباً لقلب. لمَ أصبحت الهوة تتسع بيننا حتى في مراسلاتنا؟ ألسنا نعيش في عالم جامد ثلجه هذا التقدم بكل ما يحمل من وسائل ثورة.. حتى بهتت الفرحة التي وازددنا عزلة. أليس عسيراً أن أبقى لساعات طوال وراء تلك الأسلاك الباردة والتي أنزف من روحي ونظري كي أحظى بأسطر قليلة ملونة! ونسينا الأصل القلم والورقة الحبر والممحاة والأدوات التي لا زالت تشكل لي فرحة حين أمسك بها. ألا يشكل هذا ناقوس خطر يلاحقنا، أين كان هذا الحاسوب منذ سنين ؟ أجابتني بردٍ باهت: أتعني أنك تريدي أن تعيشي في زمن العصور المجردة من أي تقدم. أجبتها كما كان ردها بل في عالم غني عن الصخب كان قبل الآن حين يهم أحدنا بفتح صندوق بريدي ويجد رسالة من عزيز تكون فرحته باتساع الليل. أما اليوم فقد أحرقنا مشاعرنا داخل علب مغلفة وعانقنا الوجوم، فالبريد الإلكتروني لم يدع لنا تلك الفرحة التي تعلو أرواحنا وتحلق بها لقد انطفأت جذوة المشاعر المتأججة! وبدأت بإعداد العدة لابتعد عن هذا العالم الذي يحيا في نور ونار. أحلم بالصفاء الوجداني بعيداً عما يكتسحنا. أحلم بشمعة تضيء ليلي الحالك في هذا العالم المظلم، بمكانٍ هادئ بعيداً عن الضوضاء التي صمت أذني وسأحلق مع النجم والفراشات، وحلمي يحملني لأحظى بأرض صغيرة يعلوها بيت بسيط متواضع أزرع حوله شتلات الزهور الملونة في منطقة جبلية، وأخبز بالتنور، كما فعل جدي. واستيقظ مبكراً على صياح الديك وزقزقة العصافير، قبل بزوغ الفجر. عندها سأحيا بصحة وسلام بعيداً عن تلك الثورة التي هدرت منا الكثير. هذا عالمي الذي أحلم به وأتمناه. ردت صديقتي بكلمات كانت بنكهة الصيف، حية للعالم الجديد الذي ستقيمين فيه ومضت إلى سبيلها وهاتفها النقال لا يكف عن الرنين!.