هل بات الطالب حقلاً للتجارب؟ سؤال مثخنٌ بالتكرار والنمطية وتجاوباً مع مَن يطرح هذا التساؤل يسوغ لنا أن نطرح تساؤلاً يردفه: لماذا تكرر طرح مثل هذا السؤال من قبل شريحة من المعلمين بل ومن بعض أولياء الأمور؟ ومع عدم تسليمنا التام بمحتوى هذا السؤال إلا أننا نجد أنفسنا مجبرين على افتراض أسباب لطرح مثل هذا السؤال أهو لكثرة التجارب التي تُجرى على طلابنا أم لتكليف المعلمين حمل أدوات الحرث فيها مرغمين أم لمحدودية عوائدها الإيجابية على الطالب أم لبطء ظهور أثرها على الطلاب كما هي طبيعة أي عمل تربوي أم... أم...؟ أسئلة عديدة لا يمكن الإحاطة بها ولا يمكن الإجابة عنها بمعزل عن دراسة مدى أثر هذه التجارب وأصدائها في الميدان التربوي وتقويمها بكل حياد وموضوعية من قبل ذوي الاختصاص والتجربة اللصيقة. في طرحنا هذا لا ندعو إلى وأد كل تجربة في مهدها، كما لا ندعو إلى إغفال أو تجاهل ما يموج به ميدان التربية العالمي من تجارب، في حين أننا لا نؤيد فتح الباب على مصراعيه لتَلَقِّي كل تجربة دونما تمحيص، ومن يقول هذا أو ذاك فقد جانب الصواب؛ لأننا نعيش في عصر تفجرت فيه ينابيع المعرفة وتعددت فيه قنوات الاتصال، وارتبط أقصى العالم بأدناه، وتبدلت فيه الأفكار، وتنوعت الأطروحات، وأصبحت مهمة التربية والتعليم كبيرة بل وخطيرة لمواجهة متطلبات الحاضر والإعداد للقادم، وهذا بحد ذاته يشكل تحدياً كبيراً لمؤسساتنا التربوية والتعليمية لكي تقوم بدور يهيئ جيلاً يستثمر تلك التبدلات والتحولات ويجعلها أداة طيِّعة لبناء فكره، والرقي بمعلوماته، وبناءً عليه فإننا نحتفظ بحقنا في أن نأخذ من تجارب الآخرين ما يتوافق ومبادئنا الإسلامية، وما نراه خادماً لسياستنا التعليمية ونطَّرحَ ما سواه، وإذا كنا لا ندعو إلى ذلك فإن الذي ندعو إليه ألا ننبهر بزينة القوم ثم نترك ما في أيدينا من تجارب كلفتنا أموالاً، وبذلنا في سبيلها جهوداً، وسخرنا لها عقولاً ولا تزال في طور مخاضها، ولم يتبين لنا مدى صلاحيتها من عدمه، فنتجاوزها إلى تطبيق تجربة أخرى جديدة أطلَّ بها علينا عالم أو خبير تربوي، أو قامت بتنفيذها مؤسسة تربوية من العالم (الآخر) أو من دول الجوار. إن الأخذ بما يقدمه (الآخر) من تجارب قد تكون فيها بذور ليست صالحة لاستنباتها في حقلنا التربوي، فلنأخذ ما نراه نافعاً لنا ليمكث في أرضنا، وأما الزبد منه فلندعه يذهب جفاء، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها وأهلها. إن الثقة بعقولنا، والاتكاء على ثقافتنا، والانكفاء على عقيدتنا لهو خير معين على تخريج جيل ذي هوية وحامل رسالة يتمثلها في كل محفل، ويباهي بها في كل ميدان، وينافح عنها في كل مناسبة؛ لأنه وريث أمة ذات حضارة لا تكف عن التمخض والعطاء. وإذا عُدنا إلى ما بدأنا به... فإن البعض ممن ينتمون إلى الميدان التربوي يشعرون بأن محاضن التعليم لدينا - بحمد الله - في تضاعف متسارع، وأعداد الطلاب في تنامٍ مطرد، وافتتاح المدارس على أَشُدِّه، ولكن مخرجاته منحسرة، وأنظمته لا تزال تحت التجربة! والبعض منهم يتساءلون متى ستستقر الأوضاع التربوية والتعليمية؟ ونحن نجيبهم: لن تستقر أبداً، لسبب واحد، هو أننا ننشد الكمال، ومن رام الكمال لم يرضَ بالحال التي هو فيها، وبناءً عليه فلن تتوقف عجلة التطوير؛ لأننا نسعى إلى كسر قشرة الإِلف والاعتياد والركود الذي عانينا من وطأته مدة من الزمن. ويجب أن نعترف بأن شعوراً يحتل مكانة غير ضئيلة في نفوس بعض المعلمين يكمن ذلك الشعور بأنهم يتخوَّفون من تعثُّر بعض تلك التجارب أو فشلها، وعندها مَن سيتحمل مسؤولية ذلك الفشل وتبعاته، وبالتالي فإنهم يرون أن اللهاث وراء كل تجربة جديدة يكمن وراءه خطر محدق؛ لأن مجتمعنا له خصوصية واستقلالية تنعدم فيما سواه من المجتمعات. ومما يلحظ على بعض التجارب استعجال المستهدفين فيها بالحكم عليها بالفشل قبل تطبيقها أو بعد تطبيقها بشكل مبدئي، واختمار تلك الفكرة ومصاحبتها لهم فترات التطبيق، وقد تكون تجربة ناجحة لو لم يتم الاستعجال عليها بذلك الحكم، وبالمقابل فإن بعض التجارب قد يبالغ أصحابها في نجاحها، وهي في نظر الممارسين الفعليين لها في الميدان فاشلة لأسباب مبررة عندهم ومقنعة عند المراقبين لها عن كَثَب لا عن كُتُب، ومع ذلك يُستمر في تطبيقها إلى أن تنبعث روائح الفشل الذريع ثم لا يملك أصحابها إلا أن يعترفوا بذلك الفشل ولكن متى؟ إنه بعد فوات أوانه... إن أولى ما نحذر منه هو ألا نقع في مزلق استعجال النتائج، فمجال التربية مقرون بالصبر، وعليه فإن محصول تلك الحقول سيكون بطيئاً لأنه يتعامل مع نفسيات ومشاعر وعقول. إننا لا ننادي بأن نبدأ مما بدأ منه الآخرون في مجال التجريب، ولكننا ننادي بأن نبدأ مما انتهى إليه الآخرون؛ لأنه لا يسوغ لنا أن نبدأ من أول الطريق في تبني تجارب جديدة يُصرف عليها الكثير من الوقت والمال والجهد، في حين أنه بمقدورنا البدء في تجربة جديدة من حيث انتهى آخرون منها ثم تطبيقها على عدد محدود من المدارس أو على عينة من الطلاب على سبيل التجريب ونعدِّل ونضيف ونحذف لنكيفها بما يتوافق وسياستنا التعليمية فإذا أثبتت جدواها عُمِّمت وإلا تم الاستغناء عنها، ولا نحاول أن نعبر جسوراً سبق لنا عبورها من قبل. وحتى نكون منصفين فإن تطوير التعليم والإسهام في رقي مناهجه لكي تتواكب ومتطلبات الحياة ومستجداتها مطلب ملحٌّ تفرضه علينا رؤيتنا المستقبلية، ويلزمنا به استشرافنا لمستقبل جيل واعد. ولكي نحقِّق ذلك المطلب لا نجد محيصاً من تجشم المخاطرة وركوب موجة المغامرة؛ لأن نتائج أية تجربة هي قابلة للنجاح ومحفوفة بالفشل، وإلا لا نتفت عنها سمة التجربة، والعمل التربوي قائم على التجارب ولن يهدأ تيارها ما دام هناك تعليم. وحتى نكون منصفين أكثر فإن التجارب التي تعتزم وزارة التربية والتعليم تطبيقها تتم بصورة تدريجية ولا يُلقى بثقلها في الميدان بأكمله، وهذا ما نشهده، فإن كثيراً من التجارب في مراحلها الأولى تطبق على عيِّنة منتقاة أو عشوائية من المدارس في بعض المناطق، ويتم تقويمها، وإذا ثبتت صلاحيتها، ووصلت إلى حد القبول التام والمرضي، تم تعميمها في الميدان. وإن مما يحمد لنا في الآونة الأخيرة أننا بدأنا نُشرك الميدان في صنع القرار، وتقويم التجارب باستطلاع آرائهم عن طريق الاستبانات، واللقاءات، والمؤتمرات التي يُدعى إليها المهتمون بعيدا عن الانتقائية. ومما يحمد لنا أيضا أننا بدأنا ننعتق من ربقة القرارات أُحادية الجانب التي تأتي على هيئةٍ مرتجلة بإقرار تجربة (ما) ثم تُلغى مفاجأة دون أن يعلم المعنيون لها سبباً. ولعلَّ طائفة من المعلمين والباحثين يتساءلون: متى سيرون نتائج الدراسات التربوية التي يقوم بها الباحثون قيد التنفيذ؟ وهذا يقودنا إلى فتح ملف جديد ذي شجون؛ فكثير من الباحثين يواجه معوقات تحول دون الاستفادة من نتائج بحوثهم وتحويلها إلى قرارات، فهم يجدون أن ما تنتجه بحوثهم من معلومات، وما تتوصل إليه من نتائج، وما تصدره من توصيات قد، ونقول قد لا تصل إلى متخذي القرار والمخططين للتعليم؛ ولذلك فإن كثيراً من البحوث تنتهي حياتها في أرشيف المحفوظات أو أرفف المكتبات دون أن يقرأها أو يسمع عنها مَن هو في أشد الحاجة إليها من العاملين في الميدان. وهنا تتحدد مشكلة... إلى أي مدى تتمتع نتائج وتوصيات البحوث التربوية بصيغ إجرائية قابلة للتطبيق والممارسة مما يجعل الباحث التربوي عضواً فاعلاً في اتخاذ القرارات الخاصة بتطوير النظام التربوي والتعليمي؟ وتلك عقدة لن تنحلَّ إلا بتضييق الفجوة وردم الهوة بين الباحثين التربويين وصناع القرار ومتخذيه. ومن المفرح جداً والباعث للفأل أن دراسات ميدانية أثبتت أن معظم التوصيات التي تصدر عن بحوث الماجستير والدكتوراه في المجال التربوي صالحة إجرائيا للتطبيق مما يزيد فرصة تطبيقها والاستفادة منها في الواقع العملي. وبقدر ذلك الفرح والتفاؤل، فإن ثمة ما يحبط ويؤسي حقاً... فإن هنالك دراسات نظرية وميدانية كشفت قلة الاستفادة من تلك البحوث في الواقع العملي، وأن بعضاً من أعضاء هيئة التدريس وطلاب الدراسات العليا يعلمون جيداً أنه لا يستفاد من الأبحاث التي يقومون بها في الواقع العملي أيضاً. إنَّا لنناشد وبكل إصرار أن يتم الاطلاع على نتائج تلك البحوث، وجمعها، وتبويبها، وتحليلها؛ للاستفادة منها والاستنارة بها عند اتخاذ القرار، كما ندعو إلى وضع التنظيمات الكافية التي تكفل التنسيق والتكامل بين البحوث التربوية على مستوى المملكة في مختلف الجامعات، مع تنظيم وتحديد موضوعات تلك البحوث وأولوياتها، وندعو - أيضا - إلى تنمية نظام المعلومات المتعلقة بالبحث التربوي مما يساعد على الإفادة منه في تطوير العملية التعليمية والعمل على جعل هذا النظام في متناول الباحثين والمهتمين والمعلمين وحتى الطلاب أيضاً. وفي هذا المضمار لا ننكر دور وزارة التربية والتعليم التي بدأت برسم سياسة بحثية تتضمن معالجة قضايا التربية والتعليم انطلاقاً من استراتيجيات واضحة المعالم تقوم على حصر الباحثين والاطلاع على دراساتهم وأبحاثهم؛ أملاً في جعل نتائج البحث التربوي أداة مساعدة عند اتخاذ القرار، والله من وراء القصد والنية.