وكيف يتأتّي التأصيل للمعارف والتحرير للمسائل من لدن قرّاء يتخطّفون الثقافة من أنهر الصحف، وأفواه الإعلاميين، ولا يدرون ما مكوِّنات المذاهب، وما حواضنها، ولا يعرفون شيئاً من تاريخها، ولا من تحوُّلاتها، ولا يتعرّفون على مناهجها، ولا تربطهم صلة بالمفكرين ومناطاتهم، والسياسيين ومراميهم. وضعف المحصول، ونقص التجربة تضعف المناعة، وتسهل الانقياد، وتجعلهم أجرؤ على الفتيا والمبادرة بالأحكام على ثوابت الأُمّة، ولمَّا يتصوَّروها حقَّ التصوُّر، وما يدرون أنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره. وكم من مخاصم غير مبين، لا يعي القضية، ولا يدري ما الكتاب وما الإيمان، لا يتحرَّج من القول في كبرى القضايا، ومع هذه التوقُّعات المخيفة، فإنّ عثرات الجهلة تتطلّب التوعية الرفيقة، والإصلاح المتأنِّي، والدعوة إلى كلمة سواء، فقد يكون لبعضهم عذر ونحن نلوم. ولأنّه لا فرق بين الأمن النفسي والأمن الفكري، فإنّه لا بدَّ من الرقابة الفكرية التي لا تقل أهمية عن الرقابة الغذائية، وحرية التفكير والتعبير في الإسلام حرية مشروطة، وليست كما يتصوّر البعض ويطالبون، وضوابط الإسلام لا تنقص الحرية أشياءها. واتساع الخرق على الراقع مردُّه إلى التطبيق الخاطئ للحرية، وإلى توفُّر إمكانيات التواصل، وضعف الوازع الديني، وتعثُّر الوازع السلطاني بتلويحات (حقوق الإنسان)، فكلُّ الوسائل تعضد المتسرعين، وتبلِّغ عنهم ما لا يرضي الله من القول. وتلميع مصطلحات الغرب وإشاعتها والرّكون إليها، أدخلت الأُمّة في مرحلة التيه، وهي بضاعة الكتبة الجوف. ومن المؤذي حسّاً ومعنى، أنّ هذه (التقنية) المتاحة لم يستثمرها الفارغون بما يفيد، فالقنوات والمواقع وسائر الإعلام إمكانيات مذهلة أساء الجيل الخائب استثمارها، وإن جوَّد استعمالها. والداخل على الساحات، والمستمع إلى القنوات، والقارئ لسائر المطبوعات الإعلامية والإبداعية والنقدية، يغثيه من يمدُّونها بالغيِّ واللّغو والجهر بالسوء. وما عُهدت أُمّة الكلم الطيب والقول السديد، تخوض في آيات الله بغير علم، وتلغ في أعراض عباده، ولا تتحرّج من إشاعة قالة السوء عن الغافلين. لقد سمعت عائشة رضي الله عنها اعتذارية حسان: حَصانٌ رَزانٌ ما تُزَنُّ بِريبَةٍ وَتُصبِحُ غَرثى مِن لُحومِ الغَوافِلِ فقالت له: (لكنك لست كذلك)، وفي رواية (لكن أبَوْها). وما علم المخفون لأسمائهم بالسيطرة على تقنية المعلومات أنّهم لا يخفون على الله، الذي سأل مستنكراً: - {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (12)سورة الحجرات, والمروِّجون للإفك عبر الساحات كالمروِّجين له في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ممن كشف الله سوآتهم في القرآن الكريم. والمعارض أو المتحفِّظ أو المستنكر لأيِّ عمل على أيِّ مستوى، يجب أن يتثبّت وأن يجادل بالتي هي أحسن، وأن يضع اسمه صريحاً، وإن أخفاه فليكن صادقاً معتدل الرأي منطقيّ الحجة، متبيِّناً، بحيث لا يصيب أحداً بجهالة، وليكن له برسول اللين والرأفة والرحمة قدوة، إذ قل أن يذكر مخطئاً بعينه. وبتجاوزنا للمرجفين في المواقع، وهم شريحة من الكتبة الجوف إلاّ أنّهم من نوع آخر، نقف عند شريحة أخرى أربى من أختها، وهم الذين يلتقطون المصطلحات الغربية بكلِّ ما تقتضيه من مفاهيم، وما تستدعيه من إجراءات، ثم لا يُراعون مقتضيات حضارة الانتماء، وتلك الشريحة أشد خطراً، وأفدح تأثيراً، وهم بهذا الفعل: إمّا أن يكونوا فارغين لا يجدون طريقهم إلى الحضور، إلاّ بمثل هذه الإثارات، وإمّا أن يكونوا مدخولين في أفكارهم عن جهل، أو عن تعمُّد وسبق إصرار، ولكي تستبين طريق المقترفين نذكِّر بثلاثة كتب تمس أهلية الكبار فضلاً عن الكتبة الجوف، فكتاب (خيانة المثقفين) مجموعة مقالات رصد فيها الكاتب جنحاً مصمية لمن نعدّهم من الأخيار، وكتاب (النخبة ضد الأهل) مجموعة مقالات تعقب فيها الكاتب طرفاً من التجاوزات، وكتاب (أوهام النخبة) تناول معرفي تطبيقي لخمسة أوهام تكاد تكون قاصمة القواصم، وما الأدنين من الكتبة الجوف ببعيدين عن أولئك. ولما لم تكن هناك معرفة تأصيلية بما يجد من أفكار ومذاهب، فإنّ المشهد معرّض للتصوح ورعي الهشيم، والذين يستبقون الطوارئ ولا يفرِّقون بين الجمرة والتمرة، لا شك أنّهم فارغون ومجازفون بأنفسهم وبمثمّنات أُمّتهم. وإذا تسوّدوا المشاهد، أصبحت أقرب إلى سراب القيعان، وذلك ما نراه، وما نسمعه. ومن المضحكات المبكيات، وشرُّ البلايا ما يُضحك، ظن المتنخوبين الذي أرداهم أن حَمَلة العلوم الشرعية لا يصلحون إلاّ للوعظ، والإفتاء في الحيض والنفاس، وأنّ مثقفي السماع هم وحدهم القادرون على تداول الشأن الفكري والسياسي. وإذ لا نزكي على الله أحداً، فإنّ بإمكان الفقهاء أن يخوضوا معترك السياسة بآليات الفكر السياسي الإسلامي ومناهجه، إذ للإسلام نظريته السياسية القادرة على المنافسة، وأمام هذه التجاوزات لسنا بحاجة إلى مزيد من المجاملة والتعذير، كما أنّنا لسنا بحاجة إلى مزيد من جَلَد الذات والتخذيل، وكل ما نقوله تأثم يحوك في القلب، وإن كنا نكره إشاعته، وإطلاع الناس عليه، وسياق الأُمّة بدعاً في السياقات، وإن سبق هذا السياق بدايات للتمرُّد وعزمات للتمنُّع، غير أنّ الطائفتين كانتا على شيء من الوعي، في مقابل حاضر تبعي مرتجل. ولو نظرنا على سبيل المثال، (المسار السياسي) في ظل الانقلابات العسكرية والهواجس الثورية، لوجدناه قابلاً للرصد والتقويم، وإن عبرت أزلامه إلى المشاهد على صهوات الدبابات وعلى جثامين الأبرياء، وليست على أكتاف الجماهير. فسنوات الغليان، كما يسميها عرَّاف السياسة (محمد حسنين هيكل)، وهو من المنجِّمين الذين يكذبون وإن صدقوا، هذه السنوات مكّنته من أن يرصد التحوُّلات السياسية المحكومة بقوانينها، وأيّ لعبة سياسية لها خلفيّاتها المعرفية، كما يجسِّدها صاحب كتاب (موسوعة قواعد اللعبة السياسية)، وإذ لم تكن التحوُّلات قفزات غير منضبطة وغير متوقّعة، بمعنى أنّ للتنبؤات مكانها، فإنّها خاضعة للحسابات والتقديرات، ومن ثم أخرج (هيكل) كتابه الثاني (الانفجار)، بوصف الجزء الأول (سنوات الغليان)، إرهاصات للنتائج التي رصدها في الجزء الثاني (الانفجار). وهذا الرصد الوثائقي الشامل والدقيق مكن له واقع يتفاعل مع الأحداث التي توجِّهها مؤسسات ضالعة في صناعة اللعب ومتابعتها وتهيئة الأجواء الملائمة لها. والرصد في ظل الظروف والإمكانيات يتجه صوب النتائج المتوقّعة سلفاً، والحراك السياسي سواء أكان مرتبطاً باللعب السياسية، أم لم يكن، يقوم على أحداث ينسل بعضها من بعض بشكل طبيعي ومتوقّع. أمّا ما يحدث الآن فمختلف جداً إنّه الجنون المنظّم كما يسميه أحد المحللين، ولو نظرنا - على سبيل المثال أيضاً - (المسار الفكري) لوجدنا المفكرين منشقين على أنفسهم، ولكنهم يحيلون إلى مرجعيات غربية أو شرقية هضموها كما الخراف في جوف الأسد، وامتلكوا القدرة على الوصول إليها في مظانها وفهمها وتمثُّلها، وليس مهماً أن تكون النتائج سلبية أو إيجابية، وإنّما المهم أن يكون في مقدور الحراك الفكري أن يخلف لنا مدارس واتجاهات، وأن يستطيع التأسيس لمذاهب وتيّارات. ولعلّنا نضرب الأمثال بالفتانين أمثال، (طه حسين) من خلال مجمل أعماله، وبخاصة كتابيه (مستقبل الثقافة في مصر) و(في الأدب الجاهلي) وهو في مجمل مؤلّفاته يمثِّل (الفرنكفونية) بأبشع صورها، ويستخدم المنهج (الديكارتي) القائم على الشك المنظم، وينزع إلى الرؤى الاستشراقية في دراسة الأدب، وعلى الرغم من تجاوزاته وإنحيازاته، فقد خلَّف لنا ثروة من الدراسات، والدراسات المضادة، التي أحدثت نقلة في تاريخ الأدب العربي القديم خاصة. والمشاهد الأدبية والثقافية والفكرية فاضت أوعيتها بمختلف الظواهر، والمناهج، والتيارات، وليس حراك الأمس ومخاضاته كاضطرابات اليوم وتجشؤاتها الفارغة. ولنا أن نقول مثل ذلك عن الحراك (الفلسفي) الخالص، نجد تجلَّيات الفلسفة وتحوُّلاتها عند (زكي نجيب محمود) و(عبد الرحمن بدوي)، إذ عول كلُّ واحد منهما على فلسفة غربية: وضعية أو وجودية، وأثرَيا بعراكهما المكتبة العربية بمئات الكتب والدراسات، بل أستطيع أن أتجاوز ذلك إلى طائفة من الأكاديميين الذين أحدثوا بمذهبيتهم نقلة مادية ومنهجية، ظلّت تمد المشاهد الأدبية والنقدية بمزيد من التحوُّلات التي ترحب لها الصدور، وتحتفي بها الأقلام، وإن أبعدت النجعة، نجد ذلك عند (أمين الخولي) في علم البلاغة، وعند (شكري عياد) في علم اللغة، وعند (محمد مندور) في منهجية النقد، وعند آخرين يبتدرون المذاهب بقوة. ولك أن تقول مثل ذلك عن تيار (الحداثوية) عند أساطينها الضالين المضلين، فهل أحد ينكر دور (أدونيس) و(عصفور) و(أبي زيد) و(أبي ديب)؟ على الرغم من التناقض معهم والتناقض فيما بينهم. فأين مكان المتعالقين من أولئك الجبابرة؟ وعلى مستوى الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، نمر بمحطات مضيئة، وأخرى معتمة، ونقف على منجز أدبي أو فكري، لا نقبل به، ولكننا نحترم اقتداره. وعلى النقيض من ذلك جلُّ مشاهدنا القائمة، إنّها صاخبة ومتناقضة، ولكنها خالية خاوية، وبرهان ذلك أنّ القضايا المتداولة مجترّة ومكرّرة، والمجترُّون لا يتقنون أدبيات الحوار، ولا أهمية الأولويات، ولا محترسات المرحلة المتردِّية، واقرؤوا التخبيصات المضحكة عن (الليبرالية) و(التنوير) و(المجتمع المدني) و(العولمة) و(العلمانية)، والحكومة بين (الدينية والمدنية) عند الطائفتين، وهذا الخواء يذكِّرني بذلك الثرثار، الذي أغثى الخليفة، فلما أحسّ بطول الكلام قال: - أأسكت يا أمير المؤمنين، قال له: - وهل قلت شيئاً؟. إنّ سمة المرحلة المعاشة تقوم على الانفعال والافتعال، فما الذي حفز المسيطرين على المشاهد، وشغلهم بالتوافه، وصرفهم عن جلائل الأعمال. أهو فراغ ذاتي، أم حيلة ذكية، أطلقها الماكرون وصدّقها المغفلون؟ ولست قاطعاً أمراً قبل أن استعرض الجدل الفارغ حول القضايا التي لا تحتاج إلى دليل، علماً أنّها استوت على سوقها منذ (رفاعة الطهطاوي)، وتقليبها من القول المعاد. ولا أحسبها خفية على ذوي الألباب الذين يرصدون ويقوِّمون، وإن لاذوا بالصمت تغليباً للسلامة، وأملاً في انكشاف الغمّة. وصراع الديكة غير الممتع يتولّى كبره الإعلام العربي، بكلِّ صنوفه، وتعضده المواقع والساحات بكل تعدُّدها. لقد مارس الكتبة الجوف هذا الفعل المؤذي في ظل فهم للحرية على غير أصولها. وإذا أردت أن تقبض قبضة من أثر الخلاف تبدّت لك عشرات الآثار، التي لم تكن تحسب لها أدنى حساب، لقد جاءت قفزات مربكة في المشهد النقدي، وأخرى في المشهد الفكري، وكلُّها لا تمت إلى التجديد، ولا تمد بسبب إلى الإصلاح، ولا تُعَد من التطوُّر، ولا التحوُّل، ومن عدّها محسوبة على حتمية التجديد فقد ضل سواء السبيل. والذين ينافحون عن سائر المصطلحات السياسية والفكرية والأدبية، لا يعرفونها حق المعرفة، ولا يتمثّلونها صادق التمثُّل، ولا يصبرون عليها، فكلّ يوم تراهم مع ظاهرة أو شخصية أو منهج أو آلية. واللغة الجنائزية على ألسنتهم، إذ كلّما فرغوا من الحديث عن شيء أماتوه، وكأنّ ما بين أيديهم لعب أطفال تلقى في سلال المهملات، وما على المتردِّد إلاّ أن يحصي (البعديات)، ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، وأن يستذكر الإماتات القسرية (موت النقد)، و(موت النحو)، و(موت الإنسان)، وهي وإن كانت إطلاقات مجازية، إلاّ أنّها تقليد مقيت، مستلهم من مقولة (نيتشة) ب(موت الإله). وكلُّ هذه البعديات والوفيات والاشتغال بالمعاد والثانوي، مؤشِّر على الفراغ والخواء، وكلُّ فارغ مغمور يركض برجله إلى دوائر الضوء، مقتفياً أثر المستغربين:- (ومن كان الغراب له دليلاً يمر به على جيف الكلاب وما من متهافت على لعاعات الشهرة الزائفة يعرف قدر نفسه، وحاجة أُمّته و(الفاضي يعمل قاضياً)، ويزعم أنّه قادر على فكِّ الاشتباك، وإنهاء النزاع وتقرير الأحكام والمصائر، وما هو إلاّ عبء على الإشكاليات، لا يزيدها إلاّ ّارتكاساً في الوحل.