د. حسن بن فهد الهويمل - الجزيرة السعودية من الإخفاقات غير المبررة أن تُفهم حرية التعبير على غير وجهها السوي، بحيث لا يأمن ذووا الهيئات على سمعتهم ثم لا تحفظ لهم مكانتهم، وإذ يكون الخطأ ربيب العمل والاجتهاد صنو الاختلاف، فإن من شرط التناوش السوي أن يعف المجادل عن النيل من الذوات ليُبقي على جسور التواصل. ولقد يظن بعض المخالفين أن سبيل الانتصار لا يبلغ غايته المبتغاة إلا بتوهين المجادل في ذاته لا في رؤيته، فيما تظل القضية المختلف حولها في معزل عن التداول. والجدل حول أي قضية لا يمكن ضبط إيقاعه إلا بالتزام أدبيات الحوار التي أجملها المتقدمون وهذبها المتأخرون وحاول تفعيلها (مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني) مع التوفر على شروط الاجتهاد كما نص عليها علماء الأصول، إذ ليس كل مجتهد يملك حق الاجتهاد، ومن دخل مضايقه دون أهلية فكمن تسور المحراب أو كمن أتى البيوت من غير أبوابها، وفوق هذا لابد من التصور السليم والدقيق لرؤية الآخر، سواء كان مناقضاً أو مخالفاً، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، والخوض مع الخائضين دون ضوابط يهبط بقيم المشاهد الفكرية. وذوو المثمنات يأنفون من تقحم اللغط غير المنضبط لأنهم لا يودون فعالية من لا يداري على مكانته، ومن ليست له مثمنات يغار عليها، ولا يودون أن يكون مصير جدلهم مزبلة التاريخ. والفرائض الغائبة في اللجاجات تحرير المسائل المختلف حولها وتأصيل متعلقاتها المعلوماتية ليكون المتلقي على بينة من أمره، والمهم في هذا أن يعرف قارئك من أنت، وما محددات خطابك، وما رسالتك في الحياة، وما تصورك للأشياء، فالمشاهد الفكرية تموج بمختلف الملل والنحل والأطياف، وكل فئة تجتهد ما وسعها الاجتهاد للإقناع والاستمالة والاحتواء، وكثير من الكتبة لا قضية لهم، فهم أبناء لحظتهم يميلون مع الريح حيث تميل، وكثير منهم من لا يشغله إلا البقاء في بؤر الضوء، فهو لا يحمل هماً ولا رسالة وإنما يحمل حاجة في النفس تتمثل في أن يظل حاضر المشهد الإعلامي، بحيث يرى اسمه متداولا في أوساط الناس على أي شكل وبأي مستوى وفي أي قضية. وأصحاب القضايا وحملة الرسائل لا يرون أنه من شرط الحوار الحضاري والتعايش السلمي المتكافئ وتبادل المصالح على قدم المساواة أن يتخلى العاقل الرشيد عن هويته وما تقتضيه دينيا وقوميا وإقليميا ولا أن يذوب في الآخر ولا أن يكتم إيمانه، ومن تصور الأمر على ما هو متداول في بعض المشاهد الفكرية فقد أخطأ الطريق وعجل في إعطاء الدنية في الدين. وواجب المجادل اضطراراً أو اختياراً أن يجتهد في إنصاف من يتحدث معه أو عنه من الأحياء أو الراحلين، شريطة ألا يلغي ذاته ولا أن يطمس معالم مبادئه وقيمه التي لا يتحقق وجوده الكريم إلا بها، والمشاهد الفكرية والعلمية والإعلامية في ظل ثورة الاتصال كشفت الادعاءات وعرَّت المزايدات ولم يعد بإمكان أحد التمويه، ومن ثم يلجأ البعض إلى الإثارات الجانبية وإنهاك المصطلحات الحديثة بالترديد ك (التشدد)، و(الغلو)، و(التكفير)، و(الحاكمية)؛ ليلهي الأطراف المناوئة عن الفراغ لإنضاج القضايا، والمتمرسون لا تلهيهم مثل هذه الإطلاقات غير المسؤولة، متى كانوا مطروحين في الطريق بحيث يعرفهم القاصي والداني من خلال مدوناتهم المتعددة، وتفويت مثل هذه الفرص يؤدي إلى الارتباك ومحاولة التسلل لواذاً، ولكن المشاهد لا تنجو من تأثير مثل هذه الزوابع. ولقد كنت أرى أنني أقول ما يحق لي قوله في مثل هذه المواقف، فأنا شريك في المشهد الثقافي آخذ منه وأعطيه، وبقدر ما أقبل منه يجب أن يقبل مني، وليس من الذكاء والزكاء والرزانة أن يرضى المقتدر بمصادرة حقه في الوجود الكريم، ولكن يتحقق الوجود الكريم إذا قبلت من الآخر أن يفضي بما لديه في حين لا يقبل هو أن أفضي بما لدي، والأسوأ من ذلك كله أن يواطئ مسلوب الحق سالبه على هذه الدنية، بحيث يرضى من اللحم بعظم الرقبة - كما يقول الشاعر - في واحد من شواهد النحو. وأسلوب المطالبة بتكافؤ الفرص قد لا يرضي البعض وقد يحملهم على الاستخفاف والتصنيف والتجهيل والاستعداء والتأويل الفاسد للمقاصد، وكأن إبداء الرؤية والرأي حرام على فئة حلال للمفكرين من كل جنس، فهل أحد ممن ينتمي إلى نحلة أو طائفة كفل لنا حقنا في الوجود الكريم وترفع عن نقد ما نحن عليه بحيث نبادله بالمثل؟ وكيف نقبل دسَّ مضمراتنا في التراب إرضاء لمن لا يراعي فينا إلاًّ ولا ذمة، ثم إن علماء الملل ومفكري النحل عبر عصور التاريخ الفكري والملِّي والسياسي لا يتوانون في إشاعة ما يعتقدون والتواصي عليه، ثم لا يجدون في ذلك حرجاً ولا إحراجاً لغيرهم ولا إخلالاً بمتطلبات الحوار المتكافئ، والمتلقون منهم يقدرون فيهم ذلك الاستحضار المشروع لما هم عليه، ولو قرئت كتب السلف من معتزلة وأشاعرة وسنة لوجد أن كل طائفة تحتدم مشاعرها في عرض رؤيتها وتفنيد ما يقوله خصومها، ولقد نجد المعْتَقِد للمذهب يتمثل رؤيته في قراءته لنصوص التشريع، وهل أحد يجهل أثر الأنساق الثقافية؟ والمعتدلون من العلماء والمفكرين لا يميلون في الجدل إلى النيل من ذوات المخالفين، والقارئون بهذه المناهج وعلى ضوء تلك القيم تقبلهم المشاهد وتحتفي بهم وإن اختلفت معهم، وهل أحد ينكر أشعرية (ابن حجر العسقلاني) و(النووي) - رحمهما الله - وهما من أبرز شراح (البخاري) و(مسلم)، ومع ذلك كان لهما القدح المعلى عند السلفيين المدركين لحتمية الاختلاف، وإن كان ثمة سلفيون متشددون ربما يحملهم تشددهم على حرمان الأمة من الاستفادة من كتاب (فتح الباري). وإذا أراد السلفي المعتدل الرد على المخالف لمذهب السلف لم يزد على التنبيه المؤدب لبعض التأويلات غير المنسجمة مع منهج السلف، نجد ذلك مثلاً عند فضيلة الدكتور عبد الله بن محمد الغنيمان في كتابه القيم (شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري) وهو كتاب متوازن مرتبط بالدليل البرهاني بعيد عن التجريح، مليء بالآيات والأحاديث وأقوال العلماء ورد بعضهم على بعض واستدراك لما وقع فيه العلامة (ابن حجر العسقلاني) - رحمه الله - وهو أشعري - كالنودي - وكلاهما غير متعصب لمعتقده، فلقد رأى أن شرّاح البخاري - رحمه الله - الذين تجاوزوا الثمانين أكثرهم من الأشاعرة فيما كان (البخاري) سلفياً سنياً، ولقد أثنى على شراحه من أمثال: (ابن حجر) و(العيني) و(الخطابي) و(ابن بطال) و(القسطلاني) متحفظاً على مناهجهم الخاصة بهم وعقائدهم التي تملي عليهم بعض التأويلات غير الملائمة لمذهب السلف، مجتهداً في تبيان مقاصد البخاري التي تعمد بعض الشراح عسفها وتحميلها ما لا تحتمل، ورؤيته تلك لا تعد تعصباً ولا تجنياً ولا إخلالاً بآداب الحوار، فهو سلفي سني ومن العدل أن يمارس حقه في الشرح والرد مثلما كان يفعل غيره من علماء المذاهب الكلامية، ومن تصور أن التسامح يقتضي القبول بكل طرح والاندماج مع أي خطاب فقد تعجل في مسخ نفسه وإلغاء هويته ونسف خصوصيته، ومثلنا الأعلى في ذلك الإمام الشافعي - رحمه الله - الذي اختلف مع لداته ومعاصريه من الفقهاء والأصوليين، وحَبَّّبَ إليهم التعايش والتصافي والتعاذر على أن يظل كل واحد على رأيه. ولقد كنت ولما أزل تلميذاً نهماً على كل العلماء بمختلف مذاهبهم، يجاور بعضهم بعضاً في حقول مكتبتي ف(بكر بن عبد الله أبو زيد) إلى جوار (نصر حامد أبو زيد) وكم هي المسافة الفكرية بين الرجلين، غير أني أعرف حدود ما أنزل الله، وإذ تكون الحكمة والحق ضالتي طالب العلم فإنها قسمة بين الحقب والمذاهب، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، والاحتفاء بالعلماء والمفكرين والفلاسفة لا ينسى السلفي سلفيته ولا يحمله على فقد الهوية والهم والاستقامة كما أمر، وليس من شرط الظفر بالصواب أن تلغي نفسك ولا أن تعطي الدنية في دينك، إن بإمكان كل طالب علم أن يلتمسه فوق كل أرض وتحت كل سماء، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجد غضاضة من أن يفادي أسرى بدر بتعليم أبناء المدينة، مع أنهم مشركون محاربون فليس هناك ما يمنع من تلقي العلم من أي مصدر متى استطاع المتلقي استبانة الحق، وإذ اضطررت إلى الحديث عن أحد من المخالفين لأي سبب أبرزت ما له وأشدت وأبنت عما أختلف معه عليه؛ لأن عدم الإبانة من تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه - كما يقول الأصوليون - ثم لا أشمت به ولا أستعدي أحداً عليه، وهذا ما أراه محققاً للهوية محرراً للخصوصية، غير أن البعض يتحرجون من إبداء المواقف المخالفة؛ ظناً منهم أن في ذلك إشارة إلى التشدد والتعصب وضيق العطن والنفي ومصادرة حق الآخر. وحين نفهم الأشياء على غير وجهها نزيد في الارتكاس في حمأة الخطأ، على أن الإنسان المتوفر على كل المذاهب والتيارات لا يكون من الضروري متلبساً بها، وإلا كان كما يقول (الطوفي) عن نفسه: حنبلي رافضي ظاهري أشعري إنها إحدى الكُبَر ومما ينقم به البعض مما أذهب إليه يتلبس به حين يتصدى لمفكر أو عالم أو أديب لا يتفق معه، ولكي يستبين المتابع هذا التناقض فإن عليه أن يرصد ما يقول مدعو حرية التعبير، والمنادون بالتفسح للآخرين في المجالس، وهذا التجني المدان يجعل من هؤلاء مهرة في صناعة الأعداء، فهم يسخرون من علماء أجلاء نختلف معهم في المناهج أو في الأصول أو في تنزيل الأحكام، وهؤلاء العلماء لهم أشياعهم وأتباعهم، ومع ذلك لا يتحرجون من مصادرة حقهم في الوجود وفي واقعهم المناسب لخطابهم، إذ ما يصلح لهم ليس بالضرورة أن يكون صالحاً لنا وهذا محسوب على خطأ إنزال الأحكام على الوقوعات، وهو ما لا يستبينه إلا الذين يستنبطونه، ولقد كانوا من قبل يحتفون بهم ويمجدونهم ويشيدون بأثرهم الحسن، ومن الخطأ منهجياً أن تقوض نظرية حتى إذا أسعفتك في لحظة من الاهتياجات لملمت شتاتها وانتصرت بها. والحوار الحضاري يجب أن يحمل صاحبه على العدل وعدم التجني، وبخاصة حين يكون التعرض للمخالف مدعاة لتأليب الأشياع والأتباع ولقد نهينا عن السباب الواعي إلى رد فعل أسوأ: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ). والعلماء وقادة الفكر والإصلاح والتجديد لهم رؤاهم وظروفهم وسياقاتهم وطرائفهم في تنزيل الأحكام المناسبة لظروفهم، وليس من حق المختلف معهم رؤية أو ظرفاً أو سياقاً أن يختصرهم في رؤيته، وإن اضطر إلى نفيهم من محيطه فإن عليه أن يحترم وجودهم في محيطهم، وقد لا يكون من المناسب أن يعدو قلمه إليهم ولا أن يثنيهم عما هم عليه، لأن في ذلك الفضول مهارة غير سوية في صناعة الأعداء، وإذ نكون أصحاب رسالة دعوية وبلادنا مهوى أفئدة فإن تهيئة الأجواء الملائمة للاستقبال من المتطلبات الأولية، وإذا اضطر أحدنا إلى مخالفة أحد من أئمة الحركات الدعوية أو المذهبية تحت أي ظرف فإن عليه توقي جلد الذوات وأن يتقي الاستخفاف أو التحيز وأن يشتغل بالرؤى والأفكار، وسيان عندي المواجهة الشخصية والإذعان الذليل للآخر، إن هناك توازناً ذكياً وتعاملاً حاذقاً يحولان دون الوقوع في الصدام أو الذوبان في الآخر، ثم إن علماء الأصول يؤكدون على أن الاجتهاد لا يُنْقَض باجتهاد مثله، وفي مثل هذه الحالة يكون القبول أو التعاذر، ومتى استدعت الظروف رد رؤية أو موقف فإن مجرد التكذيب والتجهيل والتخوين لصاحب الرؤية لا يحمل المتلقي على الاستجابة ولا على الاحترام، ذلك أن صاحب الرؤية أو الموقف المخالف ليس من الضروري أن تكون مخالفته ناتج كذب أو جهل أو خيانة، ولو ساغت مثل هذه الممارسات المهتاجة لما استطاعت الأطياف والطوائف أن تتعايش أو تتعاذر؛ ذلك أن المساس بذات المصلح مساس بسيادة الطائفة، وليس هناك ما يمنع من تسليط الضوء على أوجه الخلاف لكي تحتفظ كل نحلة بما يحقق وجودها، وحديثي عن بعض رموز الفكر المعاصر لم يأت من فراغ لقد قرأتهم وقرأت عنهم، واستفدت منهم وما زلت أتابع مستجداتهم، ولقد كنت ولما أزل أنهى عند الحديث عن مثل هؤلاء الرموز والاكتفاء بما كتب عنهم، لأن في ذلك إجحافاً بحقهم وتجنياً عليهم، فبعض القراء يميلون كل الميل ويذرون أفكار الخصوم كالمعلقة، ولقد اكتشفت مثل هذه الجنايات، وكم من مفكر سليم المنهج ضاعت سمعته بسبب التعصب المذهبي، وليس فيما أنا عليه من استثمار لجهود المخالفين تناقض، فسلفيتي لا تقتضي الاعتزال وكيف لمثلي أن يجهل مكانة زعماء النهضة وقادة الفكر الحديث في وطننا العربي، ومع ما أحس به من حيف يطال السمعة بعد هذه السن وتلك التقلبات في أعطاف المعارف أود إلا أنجر إلى مستنقعات التهريج، فالواقع الإعلامي والفكري لا يتطلب مزيداً من الاهتياجات الفارغة؟