(تجربتي في الحياة) عنوانٌ عائم، فرضه عليّ الإخوة في (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القصيم)، ليكون محاضرة ضمن فعاليات (الصيف)، والمهتمون بالشأن العام يخشون أن يضيع الوقت، كما ضاع اللبن في الصيف، حتى يقال: (الصيف ضيعت الوقت) كما قيل من قبل في الأمثال: (الصيف ضيعت اللبن)، وللمثل حكاية طريفة، ليس هذا مجالها. هذا العنوان العريض من العناوين الشمولية، التي لا يحدُّها موضوع، ولا تحصرها فكرة، ومن الصعوبة بمكان مغالبة الموضوعات المفتوحة، إذْ هي أشبه ب(النص المفتوح)، وانفتاح النص يعني قبول كل تأويل محتمل، وإن تضاربت الآراء حوله بين (إيكو) و(بارت)، في استقصار ممتع للأخوين (الرويلي والبازعي) في (دليل الناقد الأدبي)، وليس من السهل لملمة أطراف التجارب المتنوعة: عملية كانت أو علمية، زمانية كانت أو مكانية. ولست أدري من أي الزوايا ألتقطها، ولا من أي الدروب آتيها. فالإنسان المسكون بالمهمات والهموم الفكرية والأدبية والسياسية وتقلُّباتها التي لا تقر، المتشبّث بأرباب القلم وما يسطرون، وبالكتبيين وما ينشرون، تمر به حيوات نافقة أو فائقة. وتغمره حضارات: وضعية وسماوية، محفوظة أو محرفة، مفسرة ومؤولة. وهذه الحيوات، وتلك الحضارات، تقع تحت طائلة الخلطة المستحكمة مع تجاربه، لتشكِّل لوحة مسطحة أو ذات أبعاد، حتى ليغتلي فيها ارتيابه، فلا يستطيع تقرِّيها، واستبانة الذاتي من الغيري، على شاكلة صورة (انطاكية) على جدار (إيوان كسرى) في بكائية البحتري التي عدَّها المتسرِّعون وصفية: (فإذا ما رأيت صورة أنطا كية ارتعت بين روم وفرس) إلى أن قال: (يغتلي فيهم ارتيابي حتى تتقراهمُ يداي بلمس) وكلُّ إنسان سوي يتلقّى تجارب الآخرين، مثلما يمارس تجاربه، فتكون كالشعاب التي تتدفَّق صوب الأودية السحيقة، لتكون فيضاً من التجارب المتنوّعة ومتى دقّت الملاحظة، وتواصلت المتابعة، تحوّلت صغار التجارب إلى كبار. وما كتاب (الحيوان) للجاحظ بمجلداته السبعة إلاّ وليد الدقّة في الملاحظة والتواصل في المتابعة، إذْ هو موسوعة ثقافية، تكشف عن مشهد العصر وحراكه الثقافي. وبتعدُّد التجارب، وتواردها على الذهن، تشكل وعياً جديداً، قد تصرف الراصد عن بعض مسلّماته. ولأنّ التجارب فعلٌ متواصل فإنّها تكون بعدد السنين والشهور والأيام والساعات، بل أستطيع أن أقول: إنّها بعدد الثواني. فكل لحظةِ فعلٍ صالحةٌ لتكون ظرفاً لتجربة حافلة بجلائل الأعمال. وما الصدفة أو الفرصة إلاّ مفتاحٌ لتجربة مصيرية. وقديماً قيل (رُبّ صدفة خير من ميعاد). والإنسان الشّجي تجتاله الهموم، وتحتنكه المسؤوليات، ويظل كما الصعلوك الأطحل الذي تتهاداه التنائف، فما يحط من قضية إلاّ وينزع إلى أخرى، ولا يفرغ من حدث شديد إلاّ إلى حدث أشد، وتلك الأيام دول وتداول. ولأنّ هذا الصنف من الناس موزع الجسم بين هموم ذاتية، وأخرى جماعية، فإنّ وعيه للأحداث يكون أشد عمقاً وأعمق إحساساً. والاهتمام بالشأن العام من واجبات المسلم، فهو بين عبادة لربه، وهداية لقومه، وعمارة لكونه: حسّاً ومعنى. وما من حيٍّ إلاّ وله نصيب من التجارب الخاصة أو العامة، له ما كسب، وعليه ما اكتسب. والأذكياء هم الذين يُفرِّجون عن أحسنها، ويدسون خداجها في التراب. والمؤكد أنّ القيمة ليست في ذات التجارب والوقوعات من حيث هي أداء أو مواجهة، ولكنها فيما تتركه التجربة المتميّزة من أثر في الذات أو في الغير. وما أكثر التجارب التافهة التي لا تستحق الذِّكر، لأنّها لا تحرِّك ساكناً، ولا تثير انتباهاً. وما التاريخ إلاّ وعاءٌ لتجارب الأمم والأفراد في الربح والخسارة. إذْ هو سفر لسقوط الدول وقيامها وأسباب ذلك. والحضارات كالأناسي، لها طفولة وشباب وفتوة، وكهولة وشيخوخة وهرم، قد يبلغ بها أرذل العمر، وفي الحديث: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ) والعلم لا يُنتزع، وإنّما يعم الجهل بموت العلماء، واستفتاء من لا علم عنده، ليكون الهلاك والإهلاك، وذلك بعض ما نرى ونسمع. وتصور الحضارات من خلال قيامها وسقوطها، لا يتعارض مع الحفظ للذكر ولا مع بقاء الطائفة المنصورة. فالساعة لا تقوم وفي الأرض من يقول: الله الله. وكم شهدت الإنسانية حضارات سادت ثم بادت، إمّا عبر الآثار أو عبر صفحات التاريخ. وعلى افتراض أنّ التاريخ لا يكتبه إلاّ المنتصر، فإنّ من الممكن تمحيص الأحداث، واكتشاف الزيوف. ومثلما أنشأ أهل الحديث علم الجرح والتعديل والتخريج، فإنّ للمؤرخين مناهجهم التي يمحِّصون بها الأحداث ويصححون التجارب، ويبتلون بها الأخبار، ليقروا على صفحاته ما تقبله عقولهم، (وابن خلدون) في مقدمته الأطول، وضع أسس علم التاريخ والاجتماع والسياسة، وإن لم يستفد منها في كتابة التاريخ، حيث تألّقت المقدمة، وخمل التاريخ، هذه الرؤى، وتلك التصوُّرات تكمن في (اللاوعي) بوصفها محصلة تجارب ومقروء، وتنشط كلّما أثيرت، لتشهد اتخاذ أي قرار. ولما لم تكن كلُّ تجربة جديرة بالاستدعاء والرَّصد والتحليل، فإنّ الفوضوليين هم الذين يدوكون ليلهم، ويلوكون ألسنتهم بأحداث عارضة لا قيمة لها. وليس كلُّ متحدث محقاً باستعادة تجاربه، وعرضها على الملأ، فالناس كإبل مئة لا تكاد تجد فيها راحلة، ولاسيما أنّنا في زمن الغثائية التي حذَّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقادر على تحمُّل المسؤوليات وأدائها على وجهها هو القمين بأن يتذكّر الأحداث والتجارب، وأن يكتب الذكريات والمذكّرات واليوميات، ليكون ما يكتب هادياً ودليلاً، إذْ باستعادة مثل هذه التجارب تكون الفائدة لناشئة الأُمّة المتنازع عليها، كما الأرض الموات. وليس من المعقول أن نسوِّي بين العباقرة والمجانين، ولا بين الأذكياء والمغفلين، ولا بين الخاصة والعامة، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}. وإذْ لا أزكِّي نفسي فإنّني أحسبها من الصنف الوسط، الذي عبر الحياة متأبّطاً الكتاب والمحبرة، وممسكاً بالقلم والقرطاس، يخط بيمينه ما تبرؤ به ذمّته، مشاطراً أُمّته همومها، محاولاً تغيير ضعفها بلسانه وقلمه، حين لم يقدر على تغييره بيده وسنانه. ولها فقد تكون تجاربي الثقافية محط تقدير الأقلية من الطلاب والمحبين، وإن كانت في نظر الأغلبية دون ذلك بكثير. ولست برماً من عزوف البعض والاختلاف مع البعض الآخر، متى سلمت النوايا، وحسنت المقاصد ورُشِّد الحوار. فالاختلاف من سنن الله الكونية، وهو النار الهادئة التي تُنضِج الأفكار والآراء. وعلى الواثق أن يقول كلمته، ويمضي غير هيّاب ولا وجل مما يثار حوله من غبار لا يزيده إلاّ تألُّقاً. وقديماً قيل: (كلُّ فتاة بأبيها معجبة). فالعقول لا تُشترى، ولا تُصطفى، ولكنها تُصقل بالتجارب، وتُربّى بالتحصيل المعرفي، وتقوَّم بالقدوة الحسنة. والتاريخ معين لا ينضب، لأنّه راصد لتجارب أُمم سلفت. والمتحدثون عن تجاربهم مبادرة أو استجابة، إنّما يؤرِّخون لأنفسهم، ويكتبون سيرهم الذاتية بأيديهم، ويطرحون أنفسهم بوصفها موضوعات، يوعظ بها ترغيباً أو ترهيباً. ومن أصعب المواقف على الإنسان موضعة ذاته، فهو كمن يشرّح جسمه دون تحذير. ولحساسية الموقف يرقب الدارسون وفيات الأعيان، ليكونوا في حل من التناول. ولعل القول ب(موت المؤلف) محاولة للخلوص من تأثيره على الدارسين. ومن الصدف الحميدة اهتمامي المبكر بالسِّير الذاتية، ووقوفي على تجارب القادة والمفكرين والمصلحين من خلال ما سجّلوه عن تجاربهم، أو سجّله مريدوهم. وما من مسؤول ترجّل من كرسيه، وقدر على التعبير إلاّ غمر المشاهد بتجاربه النجل وتجلياته الخلَّب أو بتنصُّلاته من إخفاقاته، محذِّراً أو محرضاً، مدلاً بأفضاله، أو دالاً على فضائله. وهو قبل ترجُّله يَعد ولا يفي، ويمنِّي ولا ينجز. وليس كلُّ ما يقال عن التجارب صدقاً محضاً، أو كذباً محضاً، ولكنها ساعة وساعة. والعاقل يعرف القوم من لحن القول. وكان اهتمامي بهذا اللون من الثقافة، محرضاً على الأخذ بأحسن التجارب، ومساعداً على مرونة التحوُّل. وتعقُّبي للسِّير الذاتية جاء أوزاعاً بين النقد التنظيري والتطبيقي، والإشراف والمناقشة والتحكيم، وقراءة الإبداعات السردية. فكثير من السِّير الذاتية تُعد إبداعاً سردياً ممتعاً، كما فعل (طه حسين) في (الأيام)، وكما فعله روائيون من بعده، تقنعوا بالأبطال، فكشفوا ما ستره الله وعفا عنه. ومن خلال الارتباط بهذا اللون، وجدت لكلِّ شخصية نكهة خاصة، لا تغني عن غيرها، وإن كانت مفعمة بجلائل الأعمال. ومما زاد الحديث عن التجارب أهمية دخولها في عالم الرواية، وابتلاؤها بالمكاشفة (اللاأخلاقية)، سواء كانت المكاشفة سلوكية، كما فعل الروائي المغربي (محمد شكري) في رواية (الخبز الحافي)، أو هجائية، كما فعل الفيلسوف المصري (عبد الرحمن بدوي) في (سيرة حياتي) أو فكرية، كما فعل (نجيب محفوظ) في (أولاد حارتنا)، ويوازي هذه الشطحات اعتدال مقبول، كما هو عند (أحمد أمين) في (حياتي) وعند (إدوارد سعيد) في (خارج المكان) وعند (ميخائيل نعيمة) في (سبعون) وإن اختلفنا مع الاثنين عقيدة وفكراً. ومن أجمل السِّير سير أعلام النبلاء من علماء ومفكرين وساسة، سواء في ذلك ما كتبوه بأيديهم، أو ما كُتب عنهم كما فعل (البغدادي) و(الذهبي) و(ابن عساكر)، إذ كلُّ هذه الشرائح من الأناسي خاضت معترك الحياة من أجل الإنسانية المعذَّبة أو التائهة، فكان منهم الهداة المهتدون، والضالون المضلُّون. والتاريخ العربي ذو شقّين: (تاريخ سياسي) يتحدث عن نشوء الدول وسقوطها، وما تتعرّض له من حروب، وتداول للسُّلطة عن طريق الاختيار أو الغلبة أو التوارث، وما ينتابها من ترف أو شظف، وتبعات ذلك كله، ومن أساطينه (ابن كثير) و(المسعودي) و(الطبري). و(تاريخ حضاري) وهو سير الأعلام وتاريخ العلوم والمذاهب والمدن، ومن أبرز أعلامه (الذهبي) و(البغدادي) و(ابن عساكر) و(أحمد أمين) في العصر الحديث. والتجارب أوزاع بين هذين التاريخين. وحديث الإنسان عن نفسه من أصعب المواقف، ومن أعذب المقروء. فالسِّير الذاتية فنٌّ رفيع، تهواه الأنفس، وتلذُّ به الأعين، وتطرب له الأسماع، وبخاصة حين يتوفّر على المصداقية والاقتدار وجلائل الأعمال. والمصداقية المطلوبة في تلك المواقف، لن تتوفّر بالقدر الكافي، وبالذات عند الحديث عن تجارب الإنسان الأولي. ولهذا عجب الله من شاب ليست له صبوة، وجعل الشاب الذي نشأ في طاعة الله من السبعة الذين يظلّهم الله يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه.