لا أبالغ إن قلت: إن لدينا نهماً استهلاكياً يكاد يصل إلى حد الظاهرة المرضية ليس مقصوراً على السلع الأساسية فحسب لهان الأمر ولكنه امتد إلى كل ما يتعلق بالكماليات والترفيه حتى وصل عند البعض إلى سلوك عبثي لا يقاوم. وليس ذلك بالضرورة نابعاً من غنى وقدرة شرائية حقيقية لقلنا: إنه من قبيل التوسع في نعمة الله التي وهبها للإنسان وإن كانت مقيدة بالوسطية دون إسراف أو تقتير ولكنه في كثير من صوره تكلف، وتحميل للنفس فوقد. طاقتها من أجل مظاهر زائفة وخداعة بعدما أضحى المظهر- لدى الكثير- معياراً للتقييم والتبجيل. انظر إلى أسواقنا فترى العجب من هذا التدفق السلعي الهائل والمتنوع حتى غدت بلادنا مرتعاً رائجاً لكل ما هب ودب من السلع والمنتجات الرديئة التي تستنزف المداخيل دون هوادة. إننا في الحقيقة نعاني من فقدان السياسة الرشيدة في تنظيم ميزانياتنا الشخصية وهو - في نظري - جزء من الفوضوية والعشوائية التي نعايشها في مجمل أوضاعنا الحياتية ليس في الجانب المادي فحسب بل في الوقت، وهو أعز ما نملك وفي العلاقات الأسرية والاجتماعية بعامة وهذا خلل خطير لا بد من دراسته والعمل على إعادة النظر في المخرجات التربوية التي تساعد في تقويم هذا السلوك ورفع مستوى الوعي الذي يجعلنا أكثر مهارة وقدرة في التخطيط لحياتنا بشكل أفضل حتى نسعد بهذه الحياة من دون أن تواجهنا مصاعب ومعوقات تكدر علينا صفو هذه الحياة نتيجة لتصرفاتنا غير المحسوبة، ولن يكتب لهذا المشروع التربوي التصحيحي النجاح ما لم تتضافر جهود جميع الجهات المعنية لإتمامه ابتداءً من المنزل والمدرسة والمسجد وانتهاءً بباقي مؤسساتنا الرسمية والأهلية. إننا بحاجة في هذا الوقت بالذات إلى ترشيد سلوكياتنا الاستهلاكية وتصحيح مساراتها حتى لا نصل إلى مجرد مجتمع استهلاكي يلهث وراء الرفاهية الفارغة. والغريب الذي يؤكد ما ذهبت إليه من أن هذا السلوك قد أصبح ظاهرة مرضية هو أنه مع التتابع المتسارع في غلاء الأسعار لجميع السلع والاحتياجات الأساسية والكمالية على حد سواء وضعف القوة الشرائية للعملة إلا أنه لم يثنِ هذا السلوك السلبي عن التنامي، وهذا ملحظ خطير يشير إلى تأصل هذا السلوك في المجتمع بشكل عميق يحتاج إلى برنامج توعوي مدروس وطويل الأمد يخفف على الأقل من غلوائه حتى لا يستشري ويصل إلى تهديد بنيتنا الاقتصادية والاجتماعية بالظواهر السلوكية المصاحبة لمثل هكذا سلوك ينبغي ونحن نتطلع إلى الانفتاح الاقتصادي على العالم بعد عضوية المملكة في منظمة التجارة العالمية وما يصاحب ذلك من توسع في عرض السلع والمنتجات العالمية دون قيود أن نستعد لهذا الوضع بتأصيل السلوك الاقتصادي الرشيد بعيداً عن الولع الشرائي المرضي.. بأن يكون الأساس في قراراتنا الشرائية هو الحاجة فقط وليس المتعة الفارغة التي لو تركنا الحبل على الغارب لها لما كان لها حدود إلا الإفلاس، ومن ثم تحمل أعباء اقتصادية لا قبل للأسرة بها وهذا في الأساس يتطلب جهداً مضاعفاً لرب كل أسرة في تربية أبنائه على السلوك الاقتصادي السليم، وتعويدهم على الصرف المنظم منذ الصغر كمنهج تربوي بعيد النظر. لا يعني كلامي هذا الدعوة للتقتير والبخل، فهذا بعيد جداً عن القصد ولكن ينبغي أن يفهم أن لكل مقام مقالاً، وهذا النهم الشرائي العبثي يحتاج منا وقفة جادة وصريحة لبيان الداء والدواء لعل ذلك يكون لبنة تربوية تحفز لطرح هذا الموضوع المهم للنقاش وإثرائه بأفكار ورؤى تزيد من نشره بين العامة لرفع درجة الوعي به وتشجيع التربويين في محافلهم لتأصيله بين الأجيال حتى نكون مجتمعاً واعياً منظماً منتجاً وليس مجرد وعاء استهلاكي نهم عالة على باقي الأمم. والله الموفق... فاكس: 4262775 ص. ب 31886 الرياض 11418