تمتلىء الكتب بالأخبار والحكايات التي تروى وتحكى، فيكون ذلك تأريخا يعتمد، كما تمتلىء المجالس بالأخبار، التي تتخذ سلية للمجالس، وتضييعا لوقت المجالس، وتجر الأخبار وراءها في كثير من الأحيان أمورا مفرحات أو محزنات، كما أنها تسهم في بلورة وتشكيل أي مجتمع. ولا يخفى ان كثيرا من هذه الأخبار قد ترفع أقواما وتضع آخرين، ومن الغريب ان كثيرا من الناس يتلقى هذه الأخبار بقبول عجيب، وكأنها مسلمات لا تقبل جدلا ولا شكا، مع ان قليلا من التحقيق يصيب إسنادها أو متنها بوهن او ضعف. ولا عجب في ذلك فقد امتلأت كتب التاريخ بكثير من الأخبار التي افتقدت للتمحيص والتدقيق، وأعوزها التحقيق واليقين، ولهذا جاء العلامة المؤرخ، فقيه التاريخ ابن خلدون فرسم أسلوب تمحيص الأخبار في مقدمته الرائعة التي قل ان يجود الزمان بمثلها، فقد وقف أمام كثير من الأخبار متأملا وممحصا، بل حاول أن يرسم قاعدة ومعيارا يستطيع به الناس ان يميزوا بين الحق والباطل، وبين الصدق والكذب. وأرجع عدم تمحيص الأخبار الى أسباب منها: 1 التشيعات للآراء والمذاهب، ومعلوم ان التعصب لأي رأي أو مذهب يعمي ويصم، فيعمي عن التحقق من أي خبر أصدق هو أم كذب، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله، وكذا يصم فلا يسمع الانسان اي رأي آخر مخالف لما عليه رأية او مذهبه، وينشأ من جراء ذلك اختلاف متزايد، وتشتت مقيت، ولا يمكن للنفس ان تمحص الخبر إلا اذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر ، أما اذا حاصرها تشيع لرأي او نحلة قبلت ما يوافقها من الاخبار لاول وهلة المقدمة: 4 . 2 الثقة بالناقلين، وسبيل تمحيص ذلك يرجع الى التعديل والترجيح كما هو ذلك عند المحدثين، ولذا ألفينا دقة في نقل الحديث النبوي، مما يرسم بذلك منهجا علميا قويا، ويطمئن المتلقي الى قبول الأحاديث التي خضعت لهذا المنهج القوي، ولهذا فان ابن خلدون أراد ان ينقد الأخبار بمثل ما كان عليه المحدِّثون لأن جهدهم أثمر علما نقيا تطمئن النفس الى قبوله. 3 الذهول عن المقاصد، وذلك ان يغيب عن ذهن الناقل معرفة قصد الخبر ومغزاه، فينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب وتزييف الخبر، بل انه قد يضفي على الخبر صبغة جديدة أدّاه الى ذلك فهمه لمغزى الخبر وقصده فهما خاطئا. 4 الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع، أي ان المخبر لا يكلِّف نفسه عناء أن يطبِّق هذه الأحوال والعوارض التي رويت على الواقعة نفسها ليتبين صدق هذه الاحوال من كذبها، وكذا فان جهله أحيانا بالتطبيق يؤدي الى الأخبار الملبسة، وقد يدخلها أيضا بعض التلبيس والتصنع مما يخرجها عن مكانها الصحيح، فاذا كان السامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها، أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب، وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يُعرض . 5 تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الاحوال واشاعة الذكر بذلك، وقد يؤدي ذلك الى تشويه صورة بعض الناس أو رفع صورة آخرين، لأن هذا يسر أصحاب التجلة، وفي هذا بعد بالخبر عن حقيقته وواقعه الصحيح. وهذه الأسباب هي التي تؤدي غالبا الى اشاعة ونشر أخبار غير صحيحة او ملفقة، أو فيها تزيد او تنقص، وباختصار لم ترد على وجهها الحقيقي. وقد رسم ابن خلدون طريقة تمحيص الأخبار بقوله: وتمحيصه إنما هو بمعرفة طبائع العمران، وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الاخبار وتمييز صدقها من كذبها وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يُرجع الى تعديل الرواة حتى يُعلم ان ذلك الخبر في نفسه ممكن او ممتنع . وهو يقصد بالعمران: الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال والأعراض. فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار هو بالنظر الى إمكان الخبر او استحالته واذا نُظر الى الخبر بهذه الصورة كان معيارا صحيحا في الحكم بالصدق أو الكذب، وكذا الحكم بقبول الخبر أو تزييفه. وتمحيص الأخبار كما أراد لها ابن خلدون ليس موضوعا عابرا، وانما هو موضوع علم مستقل بنفسه، ولعله اول من لامس كنهه وحرّك كوامنه. وما أحرانا ونحن في عصر العلم الصناعي، وما نزل بساحاته من معلومات متبادلة سريعة أن نقف امام ما يأتينا من أخبار موقف الفاحص الممحص ولن يقدر على هذا إلا من أوتي علما جيدا، وعقلية قوية، وانه لحقيق بأمة تنهج هذا النهج أن تكون في ذرا المجد، لأنها تجنِّب نفسها مشكلة القيل والقال وقول الناس يقولون . وكم من مجلس واحد ينشأ عنه أخبار تهز المجتمع، لأن هذه الأخبار لم تمحص ولم تحقق، وإنما سارع الناقلون بتلقفها دون دراية بأحوالها وعوارضها ومصادرها.