عدَّدَ شيخ المؤرخين عبدالرحمن بن خلدون بعضاً من ممارسات المؤرخين التي تفسد التأريخ وتُوقع المؤرخ في الزلل، وتشط به عن النزاهة والحيدة ونقل الحدث بأمانة دون أن يكون هو متفاعلاً معه بشكل أو بآخر ، وذكر من تلك الممارسات: 1 - (التشيع للآراء والمذاهب).. فهو يرى أن النفس البشرية إذا تشيعت لرأي أو مذهب وقعت في هواه إما نتيجة للقناعة أو الميراث.. فالتشيع يلقي غطاء على الحقيقة، ويضع غشاوة على البصر والبصيرة، فيُعْجزهما عن الانتقاء والتمحيص ورؤية الواقع، وعزل الصحيح من الخاطئ.. فتقع النفس في نقيصة قبول الكذب ونقله وإشاعته، والبحث عما يؤكده عوضاً عن البحث عن الحقيقة.. فالمؤرخ هنا لا يصير باحثاً عن الحقيقة وإنما محامياً يحرص على تعمية وإخفاء ما يناقض قضيته، وإظهار وتضخيم ما يؤكدها.. حتى لو اقتضى الأمر لَيَّ ذراع الحقيقة أو ابتداعها من أصلها.. ويمكننا أن نرى ذلك جلياً في مؤرخي المذاهب والأديان والأحزاب والحكومات بشكل عام. 2 - (الثقة بالناقلين).. ومن أسباب هذه الثقة افتراض الصدق المطلق في الناقلين نتيجة لأسبقيتهم أو لجلال قدرهم بما لديهم من مركز أو مكانة اجتماعية أو معارف دَوَّنوها.. وفعل التدوين هذا له مفعول السحر في نفوس المتعلمين والباحثين.. فنجد الجميع يعود إلى ما قاله «فلان» في الكتاب «الفلاني» دون جُرْح أو تعديل للرواية أو الراوي، كأنه وحي لا يأتيه الباطل. 3 - (الذهول عن المقاصد).. فكثير من الناقلين لا يعرف القصد مما عاينه أو سمع به.. وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه دون وعي بمسبباته، ولا عِلْمٍ بدوافعه ومقاصده، ودون تحليل لأهدافه ونتائجه ..و أيضاً عجز الناقل عن النفاذ إلى معرفة ما وراء الخبر كمعرفة الثقافة التي صدر منها وبيئة المجتمع ومفاهيمه وتقاليده. 4 - (ولوع النفس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان).. وتظهر هذه العاهة غالباً في كل ما يخص الأعداد، كعدد المحاربين في الجيوش أو نفقات الأغنياء أو مِنَح السلاطين.. فتجد فيها المبالغات التي لا تليق ولا يمكن تصديقها، وتجد كثيراً من التفاوت الشديد بين الروايات. 5 - (القياس والمحاكاة).. فربما يسمع السامع كثيراً من الأخبار الماضية.. ولا يفطن لما وقع من تغير في الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف.. ويقيسها بما شهد. من هنا.. هل يمكن للمؤرخ أن يكون متحرراً تماماً من تأثير المحيط حوله أو حتى ذاته الخاصة وظروفه؟.. وما الرأي فيما بين أيدينا من تاريخ.