لم يكن ابن خلدون في فرادته ونزعته التقدمية، رائدًا ل"فلسفة التاريخ" فحسب، بل إنه كان بالإضافة إلى ذلك، رائداً لما عُرف لاحقا في الغرب ب" القراءة التاريخية للنص"، ذلك المشروع العلمي الذي أراد منه ابن خلدون أن يكون قانونا تُعرض النصوص بموجبه على معطيات التاريخ والاجتماع، فما توافق معها قُبِل، وما لم يتوافق رُدَّ ونُحي. وهاهنا ملمح مهم، وهو إتيان ابن خلدون بمنهج الجرح والتعديل، في معرض المقارنة مع منهج النقد التاريخي والاجتماعي للنصوص، ليؤكد أن منهج الجرح والتعديل، إذ هو يبحث في عدالة وضبط الرواة فقط، فإنه يجب أن يأتي تالياً للتحقق من معقولية الخبر وإمكانية تحققه. وتتبدى ملامح مشروع ابن خلدون، الذي نحن بصدد الحديث عنه اليوم، في عدة نصوص أوردها في مقدمته، منها مثلا قوله:" وتمحيصه(= أي الخبر) إنما هو بمعرفة طبائع العمران، وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها. وهو(أي عرض الخبر على طبائع العمران)سابق على التمحيص بتعديل الرواة". وهاهنا ملمح مهم، وهو إتيان ابن خلدون بمنهج الجرح والتعديل، في معرض المقارنة مع منهج النقد التاريخي والاجتماعي للنصوص، ليؤكد أن منهج الجرح والتعديل، إذ هو يبحث في عدالة وضبط الرواة فقط، فإنه يجب أن يأتي تاليا للتحقق من معقولية الخبر وإمكانية تحققه. ومن ثم فإن على المؤرخ ألا يلجأ إلى منهج الجرح والتعديل، قبل أن يتحقق من أن الخبر معقول وممكن في نفسه، ولا يمكن أن يكون معقولا وممكنا إلا بتوافقه مع سنن الطبيعية، وقوانين الاجتماع. يقول ابن خلدون :"ولا يُرجع إلى تعديل الرواة حتى يُعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع. وأما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة من النظر في التعديل و التجريح". لماذا؟ لأن" الإخبار عن الواقعات، لا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة، فلذلك وجب أن يُنظر في إمكان وقوعه. وصار فيها ذلك أهم من التعديل، و مقدماً عليه". ثم ينتقد ابن خلدون قبول الأخبار قبل عرضها على(طبائع العمران) فيقول:"و لقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر، استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لا يقبله العقل". من ناحية أخرى، يؤكد ابن خلدون أن عرض الخبر على طبائع العمران لا يتم اعتباطا هكذا، بل لا بد للتفريق بين صدق الخبر من كذبه، من التمييز بين ثلاثة أمور أساسية تتعلق بالعمران، هي: 1 ما يلحق العمران من الأحوال، لذاته و بمقتضى طبعه 2 ما يكون عارضاً لا يعتد به( جزئي عارض لا يخرم القانون الكلي) 3 ما لا يمكن أن يعرض له مطلقا وهذه الأسس، أو الأركان تؤسس، وفقا لابن خلدون، لقانون "يميز بين الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب، بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه. و حينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران،علمنا ما نحكم بقبوله، مما نحكم بتزييفه. و كان ذلك لنا معياراً صحيحاً يتحرى به المؤرخون طريق الصدق و الصواب فيما ينقلونه". ولعل السؤال المتولد مما سبق هو: هل هذا المنهج الخلدوني في تمحيص الروايات بأدوات النقد التاريخي، يصلح لتطبيقه على أحاديث الآحاد، بوصفها لا تفيد حسب جمهور المحدثين والأصوليين إلا الظن فقط؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، نقول إن المنهج الخلدوني، من حيث بنيته الفكرية، صالح لتطبيقه على كافة الروايات التاريخية،إخبارية كانت أم غير إخبارية، لأن الروايات غير الإخبارية، وهو ما سيتضح لا حقا، نشأت أساساً من مصدر إخباري. لكن ابن خلدون يعود فيستدرك في المقدمة بقوله:"وإنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية لأن معظمها تكاليف إنشائية( أوامر ونواهي)،أوجب الشارع العمل بها متى حصل الظن بصدقها. وسبيل صحة الظن الثقةُ بالرواة بالعدالة و الضبط". وابن خلدون كما يظهر من نصه هذا يتحاشى تطبيق قانونه"طبائع العمران البشري" على أحاديث الآحاد، لأن العمل بها واجب متى ما حصل(الظن) بصدقها!. مع ذلك، فإن عبد الجواد ياسين يرى في كتابه(السلطة في الإسلام) أن ابن خلدون ربما يهدف من وراء تفريقه بين الروايات الناقلة للأخبار، وبين الروايات الناقلة للتكاليف الشرعية، إلى إبعاد النص السني في مجمله عن دائرة المنهج التاريخي الاجتماعي الذي كان يمارِس من خلال نقد الروايات والأخبار التاريخية.. رغم أن ورود الأحاديث والكلام لعبدالجواد ياسين في معظمها بصيغ إنشائية محض، مجردة من سياقات الواقع التفصيلي الذي وردت فيه، أمر ينطوي بالضرورة على ضرب من التدخل الفقهي اللاحق، لأن النص السني بالذات كان يصدر في أغلب الأحوال كرد فعل لواقع تفصيلي ناجم عن حوادث الحياة كما كانت تجري بالناس في عهد النبي(ص). ومن ثم فإن عملية النقل التي تتم للنص سوف تكون ناقصة إذا هي اكتفت بنقل الخلاصة الإنشائية المتضمنة للتكاليف، دون أن تنقل لنا معه ملابسات الواقعة، وظروف الحدث. ومن ثم يصل عبدالجواد ياسين من وراء استطراده إلى أن" تلك الملابسات والظروف(= التي أنشأت التكاليف الشرعية) هي (أخبار) توجب علينا لدى ورودها، إعمالَ منهج المطابقة الخلدوني".. وهو كما يرى ياسين، عيب في عملية التدوين التقليدية التي تم نقل السني من خلالها. وهذا العيب ترك أثراً تعتيميا بالغاً على النصوص. والخلاصة من وجهة نظر عبدالجواد ياسين أن النصوص الناقلة للتكاليف الشرعية يمكن أن يطبق عليها المنهج الخلدوني(= النقد التاريخي على ضوء معطيات التاريخ وملابسات الاجتماع)، إذا ارتبطت بالأسباب التي نشأت استجابة له.