(ورقة أعدت في أسبوع النادي الثقافي بجامعة الملك سعود بمناسبة اختيار الرياض عاصمة للثقافة العربية عام 2000م) أولا: الشفاهية والكتابية والمرئية: الشفاهية أو الرواية الشفاهية أو النص الشفاهي أو الخطاب الشفاهي,, الخ عناوين عديدة يمكن ان تعبر بطريقة او بأخرى عن مصطلح (الشفاهية) هذا المصطلح الثقافي المعيشي الذي هو السلوك الانساني بمجمله لأن حياة الانسان محكومة بلغة شفاهية من بدايتها الى نهايتها,, وعند مقاربة هذا المصطلح (الشفاهية) لا بد من استحضار مصطلحين آخرين لإدخالهما في حالة التقابل والتوازي او التعارض والتطابق مع هذا المصطلح، وذلك لكون الثقافة الانسانية، ولنقل الثقافة العربية المعاصرة تحديدا، ما دام الحديث هنا عن الشفاهية في الثقافة العربية بمناسبة اختيار الرياض عاصمة للثقافة العربية لعام 2000م، قائمة في الاساس على حركية العلاقة بين اصطلاح الشفاهية نسبة الى الشفاه من جهة واصطلاح الكتابية نسبة الى الكتابة من جهة اخرى، واصطلاح المرئية نسبة الى المرئي التلفازي والحاسوبي ان جاز التعبير من جهة ثالثة. وبكل تأكيد هناك تداخل كبير بين هذه المصطلحات بعضها مع بعض اذ على سبيل المثال مبدئيا يمكن ان نشير الى هذا التداخل من خلال نصوص حكايات (الف ليلة وليلة) فهي ان كانت في الاصل خطابا سرديا محكيا شفهيا له كل خصائص الشفاهية في مستويات التعبير اللغوي الدارج وبناء الشخصية الخرافية، ورسم خارطة زمكانية اسطورية وأحداث فانتازية، وحبكة مولدة للغرائبية,, الخ,, فان هذه الحكايات عندما جمعت من فضاء المخيال الجمعي غدت تحمل شروط الكتابية بآلية اللغة الرسمية، او لنقل بآلية اللغة الوسطى التي هي لغة الصحافة الواقعة ما بين اللغة الدراجة واللغة الفصيحة وبالتالي لا بد من التعامل مع هذه الحكايات على اساس انها حكايات مستقرة في كتابة غير خاضعة للتغيير والتحوير في لغتها على اعتبار ان الشفاهية متحولة دوما ولكنها تبقى قطرة من بحر بالنسبة للمخيال الجمعي الحكائي الشفاهي الذي يولد دوما حكاياته وقصصه وأساطيره ويكفي ان نتتبع اليوم حكايات العشاق، والمجرمين، ومتعاطي المخدرات والكثير الكثير من القصص التي تتداولها الصحافة فعندها روايات شفاهية، اذ ان هذه الروايات او الحكايات غالبا ما تأخذ وجودها بين الناس في تعدديتها على طريقة ان تصبح الحبة قبة كما هو حال الاشاعات عموما!! اما الزاوية الاخرى فهي ان الخطابات الابداعية المعاصرة وخصوصا السردية منها كالرواية والقصة القصيرة، استلهمت جل حكايات الف ليلة وليلة بل ان من يتتبع ترجمة او تعريب الروايات الاوروبية في مطلع عصر النهصة سيجد الكثير منها عرب في ضوء احداث وشخصيات الف ليلة وليلة نفسها!! والدراسات النقدية المعاصرة مؤخرا اتجهت الى قراءة الفضاء الشفاهي بجانبيه التراثي والشعبي في السرديات عموما، لأنها شعرت بهيمنة الشفاهية على الكتابية في الخطاب الادبي السردي أكثر من غيره، بمعنى ان الكاتب الجيد عندما يكتب نصه الابداعي يلتصق من خلاله بالمألوف والعادي والمعيشي لا بثقافة الفلسفي والغرائبي، فحكايات الغول والسحر والعشق وزوجة الاب والمصباح السحري وخاتم سليمان,, الخ هي حكايات تعيش بين الناس في علاقة حميمة، وفي الوقت نفسه نجدها توظف في تكوين النص الادبي الجيد لذلك نجحت الكتابة الادبية في صورتها التواصلية مع المتلقين في استخدام هذا الفضاء الشفاهي وفي المقابل امست بعض هذه الكتابة الادبية نخبوية مبتورة غير تواصلية عندما اختارت لنفسها طلسمية سياق الحداثة او ما بعدها لما اختارت ثوب المتصوفة والفلاسفة والترميز واللغة المغرقة في الاغترابية والسريالية. والشيء نفسه يمكن ان يقال عن تحول الكثير من قصص الف ليلة وليلة الى مسلسلات وأفلام متلفزة,, غدت تثير المتلقين وتبث لديهم الكثير من الجماليات بتحول ما كان شفاهيا الى مرئي!! ومن خلال هذا التداخل بين الشفاهية والكتابية والمرئية يمكن ان نستكشف العلاقة الحميمة بين هذه الاثافي الثلاث في بناء تعددية لغوية ثقافية حوارية في ثقافتنا المعاصرة وهذا بكل تأكيد مكمن الاثراء الثقافي وليس فضاء للازدواجيات كما يظن!! * * * طبعا لا أريد ان ادخل في التعددية الثقافية او التعددية اللغوية لأي مجتمع لأن هذا الموضوع شائك وعويص ويحتاج الى قراءة شاملة لتطور الثقافة وعلاقتها بالمذاهب الفكرية المختلفة من جهة، وبمجريات الحياة العادية من جهة اخرى. ولكن المهم من وجهة نظري هو ان نفهم ان الشفاهية لم تكن في يوم من الايام اللغة الكتابية ولا الفكر الكتابي، إذ منذ ان خلق الله الانسان ووضعه على الارض والازدواجية قائمة بين ما هو شفاهي يمثل الحياة ككل، وبين ما هو كتابي يمثل اختيارات محدودة جدا مما هو شائع في الحياة، فالعصر الجاهلي على ما فيه من شعر قد مثل ثقافة شفاهية ممتدة عريضة، على اعتبار ان اللغة الشعرية كانت اهم وسائل الاعلام ومع ذلك لم يختر العرب من الشعر الا عشر قصائد كتبوها بماء الذهب، وعلقوها في الكعبة او في بيوتهم فسموها المعلقات او المذهبات ان صحت الرواية,, وحتى مع تطور الكتابة وشيوعها بين الناس فان ما يكتب من الشفاهي لا يمثل واحدا بالمائة، ويكفي ان اقول ان لدى كل شخص سيرة شفاهية بامكانه ان يقصها علينا في ساعات وأيام وقد يجد نفسه بالتالي لم يقص من سيرته الا خطوطها العريضة، اذ في كل لحظات حياة اي انسان هناك شيء جديد هناك فكرة تستحق الكتابة، هناك بؤس يستحق ان يشارك به الآخرين على اعتبار ان الالم هو الشيء المشترك بين الناس من وجهة نظر فلسفية، هناك مخزون داخلي يفكر به كل انسان بعضه يستطيع ان يطلع الآخرين عليه، وبعضه الآخر يخجل من ان يتحدث به بينه وبين نفسه، لأنه ببساطة انسان ثقافي ابن تربية اسرية قبلية وطنية دينية انسانية فليس هو على سبيل المثال يوهيميا حتى يضرب بكل القيم والاعراف عرض الحائط، فيصبح في النهاية ضحية ما من ضحايا المخدرات المأساوية او الايدز او الانفصام او الجنون,, الخ. المسألة اذن تتحدد بكون الكتابية خاصية ثقافية عليا يمارسها الواحد بالمائة فتكون تجربة هذا الواحد الابداعية الذاتية الوجه تجربة حقيقية ثقافية جماعية الوجه لتسعة وتسعين آخرين بمعنى ان الكثير من القراء سيقرؤون نصا للروائي عبدالعزيز مشري على سبيل المثال فيجدون حياتهم جزءا من هذاالنص اي ان الكاتب لما كتب تجربته الخاصة المندمجة في التجربة العامة وجدناه يقدم لنا مكانا مألوفا وشخصيات مألوفة وزمانا مألوفا ولغة مألوفة وبالتالي قدم لنا حضورا مميزا للبيئة الشفاهية بتعددية اصواتها ورؤاها!! لذلك عندما قدمت قراءة عن رواية (صالحة) لعبد العزيز مشري شعرت ان شخصياته حملت من جنوبفلسطين لتضوع في جنوب المملكة، وهذا يعني ان الرواية الشفاهية العربية هي رواية مشتركة المشاعر والاحاسيس والناس اينما وجدوا، لأن لهم القيم نفسها والتقاليد ذاتها بسلبياتها وايجابياتها!! ويمكن ان آتي بأمثلة كثيرة في هذا السياق لو اردتم!! الخلاصة المنتجة من العلاقة بين الشفاهية والكتابية تكمن في ان الثقافة الشفاهية هي الثقافة الام، وان الثقافة الكتابية هي الثقافة التي كانت وما زالت وستبقى هي الطفل الواعي الذي يرضع حليب هذه الام، ومن هذه الناحية لا تعارض اطلاقا بين الام (الشفاهية) وبين الابن (الكتابية) فالطفل كما يقال هو ابو الرجل والرجل كما يقال هو ألعوبة ذكرياته، ولا يوجد اهم من ذكريات الطفولة في تكوين شخصية اي انسان!! ولكن نرجسية الابن الذي يتعالى دوما على امه او يسعى الىقتلها مجازيا هي مشكلة نرجسية مثقفي الكتابية في اي عصر اذ دائما ما يتعالون على الشفاهية ومنتجيها بل غدت الكتابية ايضا تتعالى على المرئية في زماننا!! لذلك اظن بأن المشكلة الكبيرة التي وقع فيها الكتاب والمبدعون هي نرجسيتهم وخصوصا عندما كتبوا منذ الستينيات الى اليوم نصوصا لم يتلقها الا المثقفون انفسهم,, أليس من السخرية ان يكتب المثقف للمثقف بل ان الكتابة احيانا لا تتجاوز ان يكتب المبدع للمبدع بمعنى ان اصبحت هناك هاوية عميقة بين الكتابية الابداعية شعرا وسردا ودراما وتشكيلا,, وبين المتلقين في مختلف ثقافاتهم المتواضعة,, فمن يقرأ شعر الثبيتي المغلق؟! او نقد الغذامي التفكيكي؟ او دراما محمد العثيم التجريبية؟ او قصص محمد علوان الغامضة، او روايات عبده خال المسكونة بالتغريب,, بكل تأكيد صفوة الصفوة المعدودة على الاكثر بالمئات,, وفي المقابل لن تجد موطىء قدم لك في امسية شعر شعبي!! وأكبر دليل على عدم الاحتفاء بالثقافة الجادة او بالكتابية التي هي ملومة بدورها!! تلك الاعداد المحدودة جدا من الحضور في الندوات الثقافية!! لا اريد ان اقول ان الشعر الشعبي امتهن الشفاهية ، كما يرى البعض، ولا اريد ان اقول ان الاغنية الدارجة سطحتنا وابتذلتا، كما كتب عنها في الجرائد، ولااريد ان اقول ان المجلات الشعبية الغثة خنقت انفاسنا,, ولا اريد ان اقول ان العاميات الدارجة غزت المنابر الشعبية التي من المفترض ان تكون ثقافية كتابية,, واذا شئتم قلت ذلك كله وغيره ولكن المسألة الحقيقية هي ان نتعامل مع ثقافتنا بأوجهها كلها ومهما كان شكلها بمنهجية ثقافية حضارية منتجة!! والا نتعامل مع هذه الثقافة بسطحية استهلاكية تتقصد الاثارة والتشويه!! او بالتجاهل والهروب!! الاخطاء بكل تأكيد مشتركة ففي الوقت الذي لجأت فيه الكتابية الثقافية الجادة الى الانزواء والانعزال في الابراج العاجية، وجد ادعياء الثقافة الساحة خالية لهم لينتجوا الشفاهية الساذجة في الشارع الشعبي المشوق الى الثقافة والابداع، فتسطح هذا الشارع بكتابية شفاهية مرئية دارجة رائجة!! إذن الشفاهية بوصفها السلوك الانساني المشكل اولا لزمن ما قبل الكتابة او التاريخ او الفن هي ذاتها ما زالت تعيش في الشارع العام بخصوصيات جمالية فنية سواء أدونت في كتابة ام لم تدون,, ولأن الزمن المعاصر اخذ يتحول الى سياق المرئي والتحول الى حياة مادية آلية اخذت تطغى على الظروف المعيشية للناس فان الحال تستدعي ان تقوم المراكز الثقافية بدور حفظ الشفاهي وأرشفته بما يخدم تكريس الخصوصية الثقافية لأية امة على اعتبار ان الشفاهية ليست فقط اشعارا شعبية غزلية وليست ايضا اغاني استهلاكية,, الخ. * * * أما المصطلح الثالث المرئية متثملا بالتلفاز والحاسوب والانترنت والفضائيات وتكنولوجيا الاتصالات ,, الخ فهو مصطلح افضى بنا الى مفاهيم العولمة التي تعد الدرجة العليا من الانفتاح على الآخر والمثاقفة معه,, والثقافة بهذا المعنى المرئي فرضت مفاهيم اخرى جديدة فاذا كانت الشفاهية هي الخصوصية المحلية شبه الامية المنغلقة على الذات والتي تربط الانسان بواقعه الخاص واذا كانت الكتابية علاقة وعي محدودة الانفتاح بين الذات والآخر، فان المرئية جعلت فضاء العالم المترامي الاطراف قرية متعددة الضواحي وليس في هذا ما يعيب الثقافة الجديدة، بل ان من حق هذه الثقافة ان تزهو بهذا الانفتاح اذا كانت طبيعة هذا الانفتاح تعني اولا احترام الخصوصية او الخصخصة الذاتية، وبناءها بناء منتجا وتعني ثانيا ان اعرف ماذا يفيدني وماذا يضرني بمعنى ان آخذ ما يشكل الكينونة الذاتية في اطارها الانتاجي ضمن معايير الانتماء الديني والوطني وتعني ثالثا ضرورة تعميق ارتباطي بجذوري الحضارية التي تؤصل مسيرة حياة الامة بين حوافز تراثها الايجابية وحوافز حياتها المعاصرة المتثاقفة مع الآخر بما يفيدها!! لكن يبدو ان هيمنة القيم التجارية والصياغات الاستهلاكية والثقافة الهامشية الهشة على الثقافة المرئية جعل هذه الثقافة تئن بأمراض وأوبئة ليس بمقدورنا مواجهتها الا من خلال التربية الصحيحة القادرة على التفريق بين الغث والسمين!! يتبع