وترميز المكان ينقله من الحسي إلى المعنوي، ومن السكون إلى الحركة، ويثريه بالتداعيات. والعيون التي تبصر الجبال والأودية والشعاب لا تراها مجردة كما هي في بقاع أخرى، بل تراها تفيض بالأحداث، وتمتلئ بالذكريات، وتموج بالرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه. إن لكل شبر في مكة حكاية مع التاريخ، لا تنفك عن ذلك المكان الماثل للعيان، وكل عين متشبعة بالإيمان، وكل أنف مفعم بعبق التاريخ، لا يرى المكان مجردا من متعلقاته. وإذا كان الشعراء المتيمون يطيلون الوقوف على الأطلال لمجرد أنهم مروا بها، وهي تعج بفتيات الحي، وتموج بالشاء والبعير، فإن الشعراء المفعمين بعبق الإيمان يستقرئون الجبال والأودية ويستنبئونها عما حدث على أديمها. ولعلنا نتذكر لغة الحب والعشق عند (الفقي)، بل لعلنا نستقرئ خطابه الملح في تكريس العشق ولغة العاشقين: (رب صخر في بطن واديك يا مكة يهفو إليه غصن وريق) فالوادي الذي وصفه الله بأنه (غير ذي زرع) يهفو إليه الغصن المورق والماء المتدفق، إنها جاذبية الإيمان التي تفوق كل جاذبية. لقد أمعن الشعراء في تحدي الأشجار والأنهار، وفضلوا ربيع الأفكار على ربيع الأبصار: (أهيم بواديك اليبيس وأشتهي ببطحائه المثوى بلحد ممهد) (هناك حيث شعاب الله مجدبة وإنما خصبها عفو وغفران) وإذا كانت بلاد شرقية ك(لبنان) وغربية ك(سويسرا) تمثل جنان الدنيا فإن (مكة) بجبالها الشاهقة وأوديتها المجدبة أكثر خصوبة في نظر المؤمنين، إنها مغاني المجد والتهجد والابتهال والأمن، وإن لم تكن مسارحَ الطيور، وملاعبَ الحسان، ومنابتَ الأشجار والأزهار. ولربما يكون الشاعر (الفقي) و(الزمخشري) و(القرشي) خير من محض هذه الأرباض أصدق الشعر وأعذب المشاعر، وليس ما سواهم دونهم، ولكنهم الأكثر تغنيا بالمغاني. و(المتنبي) الذي وصف (شِعْب بوان) بأنه كمنزلة الربيع من الزمان، لا يرقى قوله فيه على ما قاله شعراء الأمة العربية عن (شعاب مكة). وإذا كان الحديث عن الحج جزءا من الحديث عن مكة فإن دواوين الشعراء السعوديين مليئة بالحديث عن تلك البقاع. ولقد تقصت الدكتورة (إنصاف بخاري) ما قيل عن مكة والمدينة من شعر سواء منه ما جاء تمجيدا، أو ما جاء تسجيلا للمناسبات الدينية، وذلك في أطروحتها للدكتوراه، ولقد أشارت إلى ما سبق من دراسات مجانسة حيث ذكرت طائفة من الكتب من بينها كتابي (النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر)، ولم تشر إلى الكتاب الثاني الذي اشتركت في تأليفه وهو (الملك عبدالعزيز في عيون شعراء صحيفة أم القرى)، وقد اشتمل على مئات القصائد الممجدة للشعائر والمشاعر. و(مكة) بكل ما تعج به من أجواء تعبدية، وما تتوفر عليه من عمق تاريخي عبق وأحداث مصيرية تمتلك القدرة على ملء الأفئدة بما يصرفها عن المادة المجردة إلى المادة المتلبسة بما هو من خصوصية المكان، وهذه الخصوصية وفرت للأدب مجالا رحبا لا يغيض مدده، ولا ينقطع رفده، وحين يكون المجد للزمان والمكان يكون الشاعر أكثر اقتدارا على إبداع القصائد العصماء، إذ كل زاوية تفيض بالعطاء: (وحراءٌ وزمزمٌ والمصلى ومِنى والمقامُ والمروتان والمحاريبُ والمشاعرُ كونٌ ناطقٌ بالتقى وبالإيمان) والبلد الأمين يعز مكانا وزمانا، وهو موئل الجلال والجمال والكمال، اختصه الله ورفع قواعد بيته فيه، ليزداد رفعة وكمالا، والمبدعون الموهوبون لهم عيون يبصرون بها نثار المجد، ولهم آذان يسمعون بها نبض الرحمات، ولهم مشاعر مرهفة تجيش مع المواقف، وتلك الخصائص والسمات للبلد الحرام أغرت أمراء البيان من شعراء وسرديين وكتاب ومؤرخين ورحالة وعلماء ومثقفين، وحملت مواهبهم على التباري في فيافي المشاعر المقدسة، يقول الزهراني: (لم يحْلُ لي من بعد وجهك منظرٌ كل الدنا عرضٌ وأنت الجوهر) ولقد اجتهد ما استطاع لتفسير سواد الكعبة وكسوتها وبياض أردية الطائفين بها، ولما أعياه السر صاح قائلا: (عجِزَتْ عن التفسير كلُّ معاجمي ومتى دلالات الجمال تفسر) والحديث عن عبقرية المكان في الشعر يضطر الدارس إلى تقصي العبقرية في السرد، ولقد تصدر (أدب الرحلة) هذا النوع، ولتصدره كل المبررات. فالراحلون والركبان الذين يأتون أرض القداسة والطهر والشعائر والمشاعر من كل فج عميق لا يفوِّتون هذه الفرص النادرة دون أن يقيدوها في كتب أو في مقالات، أو في أعمال إبداعية. ولقد أشرت إلى أطرافٍ من ذلك في كتابي (النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر) وفي كتاب (الملك عبدالعزيز في عيون شعراء جريدة أم القرى) الذي اشتركت في تأليفه نظرا لتفاقم الكثرة وتشعب الاهتمامات. وإذا كان ل(أدب الرحلة) سبقه وأثره فإن للسرد القصصي والروائي دون ذلك، إذ لم يكن الفن السردي بإزاء النثر الفني وأنواعه التراثية، كأدب الرحلة والسيرة الذاتية والتاريخ والجغرافيا، ومع أن السرديات جاءت متأخرة إلا أنها تحاول اللحاق بركب النثر الفني في التراث العربي. وكل من تحدث عن الفضاء المكاني في الرواية السعودية لا يجد مناصا من استنطاق المشاعر المقدسة وإبراز الآثار الإسلامية واستجلاء مدى انعكاسها على عواطف المبدعين، والمكان جزء من أركان السرديات، وله طرائق شتى في تناولاته وأسلوب توظيفه، غير أن هناك طوائف من السرديين يعتمدون الوصف المجرد والتسجيل المحايد، ولا تبدو في تناولاتهم روحانية المكان ولا الزمان، وليس في ذلك مأخذ، فالمبدع تحكمه ظروف الممارسة في الزمان والمكان، غير أن النزوع التسجيلي لا يحول دون احترام المكان وعدم المساس به. ولما كانت بعض السرديات قد انطلقت من رحاب الحرمين، فإن لعبقرية المكان الحق الأوفى، ولا سيما أن الرواد السرديين والمؤسسين من أبناء الحجاز. وبروز المكان من الظواهر الطبيعية، وليس في الإمكان تقصي الرؤى والتصورات، ولكن الإشارة إليها تتيح أكثر من فرصة لاستجلائها لمن أراد ذلك، وسعى له سعيه. ولقد كتب الدكتور (منصور الحازمي) عن (مكةالمكرمة في عيون أبنائها المبدعين) وهي إشارة مرهصة ومغرية لمواصلة الحديث واستيفاء المواقف، ومن المتعذر التقصي، ولكنها إلماحات تغني عن البسط، فالحجاز يمثل المركز الثقافي والديني في العالم الإسلامي، ومن الحجاز تنطلق الريادة والتأسيس الروائي. فالرواد أمثال (الأنصاري) و(السباعي) و(المغربي) و(ضياء) و(الفقي) وآخرين ممن أشرت إليهم في المدخل السردي الذي كان في الأصل محاضرة، ثم تحول إلى جزء من كتاب مخطوط يعدون من رواد السرديات الروائية والقصصية، و(الدمنهوري) و(بوقري) و(خوقير) وآخرين يعدون من المؤسسين للإبداع السردي الذين استوعبوا أركان الرواية وشرطها الفني، وتمثلوه في إبداعهم السردي، ومثل هؤلاء الذين عاشوا في ربوع (مكة) يعرفون ما لها وما يعتمل فيها من عادات وتقاليد، وهم الأجدر في إبراز خصوصياتها، ولقد كانت عيونهم والهة مقدسة، وأفئدتهم تهفو إلى وارف الظلال في فجاج مكة وشعابها. وكل من جعل من المكان المقدس فضاء لعمله الروائي استشعر القداسة والطهر والثراء المعرفي، وليس من شك أن أي شخصية روائية انطلقت من شعاب (مكة) لابد أن تكون مستشعرة للطهر والنور وعبق التاريخ، ولو ضربنا المثل برواية (حمزة بوقري) (سقيفة الصفاء) لوجدنا لبطله (محيسن) سبحات اجتماعية وتربوية، ولكنه حين يعرج على المكان يستشعر أثره الديني على المستوطنين ونزوعهم إلى الدين حتى لكأن الالتزام والأداء جزء من العادات المتأصلة، وللمصداقية فإن هناك بونا شاسعا بين عواطف الشعراء وعواطف السرديين، إذ إن السردية تقدم رؤية، بينما الشعرية تقدم انطباعا، وكم هو الفرق بين الهدفين، والقدسية باقية عند كلا الفئتين ولكنها حركية عند الشعراء سكونية عند السرديين، علما أن بعض الروائيين يحملون هما إصلاحيا أو نقديا، يحملهم على المبالغة، ومن ثم لا تجد روحانية الشعر في السرد. فالقارئ لرواية (الخاتم) ل(رجاء عالم) أو (الحفائر تتنفس) ل(عبدالله التعزي) لا يجد الروحانية المطلوبة، ذلك أن المبدِعَيْن يتحدثان عن ظواهر اجتماعية، لا يريان بقاءها، ومن ثم تغيب الروحانيات في ثنايا الحديث الموضوعي الصرف. وقد يغرق السرديون في المبالغة إلى حد الانقطاع وفي التخيل إلى حد الأسطرة، وباستعراض دراسة الدكتور (حسين المناصرة) (جماليات تشكيل مكةالمكرمة في ذاكرة السارد) نقف على رؤى تغيب معها القدسية، ولكنها لا تتجاوز الغياب إلى المساس بالمقدس، غير أن استصحاب الروحانية الشعرية تكشف عن سلبية السرد، وهي سلبية لها مبرراتها كما أشرنا سلفا. وإشارة الدارس الدكتور (لؤي علي خليل) في مقاله: (المقدس والسرد الروائي: دراسة في النسق) بأن (المكان وجود متميز لنسقه الثقافي) بوصفه في النهاية (نسقا مقدسا) لا تعززه مستخلصات العمل الروائي عند (رجاء عالم) و(عبدالله التعزي) اللذين اتخذهما مجالا لدراسته التطبيقية، واستهلال الرؤية النسقية للحديث صرف الدارس عن ملامح دلالية ما كان لها أن تغيب، حتى لقد أدرك سيطرة النسقية عليه بحيث قلب الرؤية الإبداعية برؤية نقدية، تبين له فيما بعد وقوعه تحت سلطة النسق، حيث قال: (تفجير النسق المسيطر من الداخل عبر شحنه بالنقيض) وكان ذلك عند حديثه عن (مسيرة العبيد) في رواية (الحفائر). أما الدارسة الدكتورة (عفت جميل خوقير) فلم تتخلص من تأثير المكان والزمان، وهي تتحدث عن (صورة المرأة في السرد المكي) التمست ذلك عند (أحمد السباعي) وفي قصص (عبدالله الجفري) و(محمد عبده يماني) و(عصام خوقير) و(محمد قدس) و(فؤاد عنقاوي)، وعند العنصر النسائي مثل (أمل شطا) و(خيرية السقاف) و(جميلة قطاني). وخلاصة القول: إن (مكةالمكرمة) ملهمة الشعراء والسرديين والرحالة، وفيها ومنها شع نور الهداية، وانطلقت الكلمة الطيبة تجوب آفاق المعمورة، إنها كامنة وفواحة في كل كلمة أثارتها الشعائر والمشاعر، وكل ناظر إليها يأسره تاريخها المجيد وعطاؤها المديد، إنها ملهمة الشعراء ورافد السرديين ومدد الرحالة. وما من متحدث استدعاها إلا كانت عاطفة الحب والتوله والتمجيد والإشادة مادة حديثة، وما أحوجنا إلى تقصي سلطانها على أرباب الكلمة. ومع كل ذلك الجذب والإغراء يمر الشعراء والمثقفون كما سحائب الصيف، وتظل (مكةالمكرمة) كما (بئر زمزم) تتدفق بالشفاء.