العيد مناسبة عظيمة ليظهر الاجتماع في أرقى مستوياته. إنه تظاهرة للمسلمين كلهم على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وألوانهم للتعبير عن اجتماعهم وائتلافهم. لقد شرع الله صلاة العيد لتحقق هذه المعاني وغيرها، ولكنها لن تحقق ذلك على الصورة المثلى إلا بالكيفية التي شرعت عليها، فصلاة العيد لكونها اجتماعاً في السنة مرتين فقط أي انها اجتماع أعظم من اجتماع الجمعة لم تكن اقامتها في مسجد الجمعة كافية بل شرعت في فضاء أوسع وأفسح. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في الفطر والأضحى إلى المصلى كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، والمصلى هو عبارة عن صحراء فسيحة قريبة من المدينة النبوية الصغيرة آنذاك ولم يفعلها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في مسجده مع كون الصلاة في مسجده تعدل ألف صلاة. وما ذاك إلا لأن العيد يقتضي الاجتماع الأكبر قدر الطاقة وليكون في مكان واسع فسيح تتجلى فيه هذه التظاهرة الكبرى التي تعبر عن عزة المسلمين ووحدتهم والفتهم، حتى أن هذه الصلاة شرع فيها اجتماع الناس كلهم ذكرهم وانثاهم صغيرهم وكبيرهم. ففي الصحيحين عن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيّض وذوات الخدور. والسؤال هنا: لِمَ غابت هذه المعاني الآن فأصبحت صلاة العيد لا تفترق عن صلاة الجمعة كثيراً؟! فأنت ترى صلاة العيد تقام في الجوامع في كثير من بلادنا الآن إلى جانب اقامتها في المصليات. ربما بدأ ذلك بسبب له حظ من الوجاهة حين كان عيد الفطر في وقت البرد الشديد أو حال نزول المطر، أو كان ذلك بسبب ضيق بعض المصليات، ولكننا الآن نشهد التوسع في هذا الاستثناء حتى لقد حضرت صلاة العيد في أحد المصليات الفسيحة المعدة تمام الاعداد والتجهيز لتتسع لآلاف المصلين من الرجال والنساء والاطفال ومع ذلك لم يملأ المصلون سوى الربع من مساحته أو أقل، وحين كنا نصلي ونستمع الخطبة كان صوت الجامع المجاور في صلاته وخطبته يتناوب على آذاننا مع صوت إمامنا. لِمَ ندع الناس يتفرقون في الجوامع ونحن قادرون على جمعهم في صعيد واحد تتحقق فيه حكمة صلاة العيد في الاجتماع، قال ابن قدامة رحمه الله في المغني (1-114) إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى ويدع مسجده وكذلك الخلفاء بعده ولا يترك النبي صلى الله عليه وسلم الأفضل مع قربه ويتكلف فعل الناقص مع بعده ولا يشرع لأمته ترك الفضائل. ولأننا قد أمرنا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به ولا يجوز أن يكون المأمور به هو الناقص والمنهي عنه هو الكامل ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم انه صلى العيد بمسجده إلا من عذر ولأن هذا اجماع المسلمين فإن الناس في كل عصر ومصر يخرجون إلى المصلى فيصلون العيد في المصلى مع سعة المسجد وضيقه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في المصلى مع شرف مسجده، إلى أن قال: وإن كان عذر يمنع الخروج من مطر أو خوف أو غيره صلوا في الجامع كما روى أبو هريرة انه أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد رواه أبو داود وابن ماجة. وقال ابن عبد البر في الكافي 1-78 ولا تُصلي في المسجد إلا من ضرورة إلا أهل مكة فسنتهم صلاتها في المسجد الحرام، وعلل البهوتي ذلك في كشاف القناع 2- 53 بقوله: لأنه أوقع لهيبة الاسلام وأظهر لشعائر الدين ولا مشقة في ذلك لعدم تكررها بخلاف الجمعة، وقال النووي في شرح مسلم 6-177 قوله: (أي في حديث أبي سعيد الذي سبقت الاشارة إليه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة. هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى وانه أفضل من فعلها في المسجد وعلى هذا عمل الناس في معظم الأمصار وأما أهل مكة فلا يصلونها إلا في المسجد من الزمن الأول أ.ه. بل إن الفقهاء نصوا على عدم اقامة الجمعة في أكثر من مسجد في البلد الواحد إلا إذا كان البلد كبيراً.. كل ذلك حرصاً منهم على جمع المسلمين وعدم تفريقهم. قال في المغني 2-92 إن البلد متى كان كبيراً يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد ويتعذر ذلك لتباعد أقطاره أو ضيق مسجده عن أهله كبغداد وأصبهان ونحوهما من الأمصار الكبار جازت اقامة الجمعة فيما يحتاج إليه من جوامعها إلى أن قال: وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا تجوز الجمعة في بلد واحد في أكثر من موضع واحد ثم قال: فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز في أكثر من واحد وإن حصل الغنى باثنين لم تجز الثالثة وكذلك ما زاد لا نعلم في هذا مخالفا أ.ه. فينبغي مراعاة ذلك أيضا في الجمعة. إنني لست معترضاً على مبدأ صلاة العيد في الجوامع عند الحاجة ولكنني أعارض التوسع في ذلك، فأنا أدعو أن يكون الأصل لدينا في صلاة العيد الا تقام في غير المصليات المعدة لذلك وهي متوفرة ولله الحمد في جميع بلادنا ولا يستثني من ذلك الأصل إلا بمبرر مقبول صادر عن لجنة ذات خبرة وعلم شرعي كمثل حال البرد الشديد أو المطر الذي لا يحتمله الناس أو غير ذلك مما تقرره اللجنة بعد النظر والدراسة الميدانية. أما أن تتحول صلاة العيد إلى أوزاع من الناس هنا وهناك فهذا عيد لا طعم له. إشارة أخيرة إن أعلى مستويات الاجتماع أيضا في العيد وأرقى مراتب الوحدة هي حين يكون عيد المسلمين جميعهم في يوم واحد، وقد كنت كتبت حول توحيد ذلك واصله من جهة الاستدلال الشرعي وأنه مذهب جمهور أهل العلم وبينت آلية ذلك (كان ذلك ضمن تحقيق نشرته صحيفة الجزيرة في عددها 11411 في 3-11-1424ه وإني لأتمنى أن ينظر علماء المسلمين في هذا الأمر بعين الجدّ ولا سيما منظمة المؤتمر الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء.