يعتبر الجواهري مدرسة في الشعر الحديث والأدب المعاصر، ويتميز شعره بالقوة وجزالة الألفاظ وعذوبة المعاني وفصاحة النطق، وإن قصائده لها إيقاع خاص يتميز بها عن غيره من الشعراء والأدباء، وإن منظوم الجواهري يعرفه المتذوق للشعر والمتأمل في ألفاظ قصائده. وقد تحدث عن الجواهري أرباب الأدب ورواد الثقافة في الوطن العربي ووصفوه بأنه العملاق وأنه صناجة القرن العشرين وأنه شاعر العرب الكبير. ومن هؤلاء الذين تحدثوا عنه - على سبيل التمثيل لا الحصر - الأستاذ مير صبري حيث يقول في كتابه القيم (أعلام الأدب في العراق الحديث - ج1، ص 182): الجواهري عملاق الشعر العربي الحديث، عباسي الديباجة، طويل النفس، يرصّ كلماته وأشطره رصاً فتجيء قصائده كالصرح الممرد أو الطود الشامخ، ويكسو معانيه أثواباً مؤنقة من جزل الألفاظ. قرض الشعر يافعاً وجول في آفاقه وجلّى في حلباته وتفنن في أغراضه. ويقول د. يحيى شامي في كتاب (موسوعة شعراء العرب - ج3، ص 312): من أعظم شعراء العربية في القرن العشرين، في شعره استمرار لتراث الشعر العربي وتجديد فيه وابتكار لجهة مواكبته الحركة الوطنية العربية، والتعبير عنها، وهو أجرأ الشعراء في قول الحقيقة. امتاز الجواهري عن أقرانه الشعراء بنفس شعري متدفق، وبالقدرة على الارتجال، فهو كأنما يغرف من بحر، وبذاكرة عجيبة مكنته من حفظ جميع شعره وآلاف أبيات شعر الآخرين. باختصار: يعدّ الجواهري أحد أعمدة الشعر المعاصر. ويقول العماد مصطفى طلاس عن الجواهري في كتاب (ديوان العرب شاعر وقصيدة - ج2، ص 669): شاعر عراقي كبير، منح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام 1995م؛ تقديراً لشاعريته ومواقفه. إن الجواهري شاعر من الشعراء المبدعين في صياغة الشعر الذي يحمل في ثناياه المعنى والتعبير الجميل الذي يأنس به القارئ للشعر والمتذوق للمنظوم الشعري اللطيف. ويقول الدكتور زاهد محمد زهدي: بلغ من علو المكانة التي يتمتع بها الجواهري بين معاصريه من الأدباء والكتاب والمؤرخين، أنهم كانوا إذ يتحدثون أو يكتبون عن هذا الشاعر العملاق فإنهم يؤرخون لعلاقتهم به أو لرؤيته للمرة الأولى، كما لو كانوا يؤرخون لحدث خطير وهام، أو محطة حاسمة في حياتهم أو نشاطهم الأدبي والفكري. ويقول أبو تراب الظاهري: الجواهري شاعر عظيم عملاق من الطبقة الأولى من فحول شعراء العصر الحاضر. احتل المكان الأرفع، وتسنم ذرا الشوامخ، وروّى عطاش العقول برحيق نظيمه الأعذب. إن معظم قصائد الجواهري قيلت وصيغت في مواقف صنعت القصيدة وحرّكت مشاعر الجواهري وألهبت الحماس لديه وأيقظت أحاسيسه وساعدت على دفعه إلى الإبداع وتفجير الموهبة الشعرية الكامنة في فؤاده. متى يقول الجواهري القصيدة؟ حدث ذات مرة أن الجواهري مرّ على راعية غنم تسمى أم عوف فوجد منها حسن الاستقبال والكرم فتمثل بهذه الأبيات الرائعة: يا أمّ (عوف) عجيبات ليالينا يدنين أهواءنا القصوى ويقصينا في كل يوم بلا وعي ولا سبب ينزلن ناساً على حكم ويعلينا يدفن شهد ابتسام في مراشفنا عذباً بعلقم دمع في مآقينا ويقترحن علينا أن نجرّعه كالسمّ يجرعه (سقراط) توطينا يا أم عوفٍِ وما يدريك ما خبأت لنا المقادير من عقبى ويُدرينا أنى وكيف سيرخي من أعنتنا تطوافنا ومتى تُلقى مراسينا أزرى بأبيات أشعار تقاذفنا بيت من الشعر (المفتول) يؤوينا عشنا لها حقباً جلى ندللها فتجتوينا.. ونُعليها فتدنينا لك أن تتأمل هذه الحادثة وهذا الموقف العظيم وتقف عنده متأملاً، فشاعر بحجم الجواهري يقول هذه الأبيات الجميلة في هذا الموقف مع راعية غنم.. إنه موقف يستحق التأمل. الجواهري شاعر حساس بكل ما تعنيه الكلمة من معنى؛ ربما يكتب القصيدة الطويلة إذا تعرض لموقف من المواقف، والمواقف لا تمر على الجواهري من غير أن تؤثر فيه وتحرك فيه القريحة الشعرية، ومن ذلك عندما عانى آلام فراق موطنه ومسكنه وأهله في العراق وحنّ إلى العودة إلى بلده عاش حالة نفسية حرجة وهو يسكن في براغ؛ فنظم قصيدة من أروع القصائد في العصر الحديث، ومن أجمل ما قاله من الشعر، وهي قصيدة معبرة عما في داخله ومكنونه. ولا أظن أن شاعراً بوسعه أن يقول مثل هذه القصيدة المعبرة إلا إذا عاش ما عاشه الجواهري من الحزن والألم، وهي القصيدة المسماة (دجلة الخير) وعدد أبياتها 163 بيتاً، يقول في مطلعها: حييتُ سفحك عن بُعد فحييني يا دجلة الخير يا أمّ البساتينِ حييتُ سفحك ظمآنا ألوذ به لوذ الحمائم بين الماء والطين إني وردت عيون الماء صافية نبعاً فنبعاً فما كانت لترويني وأنت يا قارباً تلوي الرياح به ليّ النسائم أطراف الأفانينِ وددت ذاك الشراع الرخص لو كفني يحاك منه غداة البين يطويني يا دجلة الخير قد هانت مطامحُنا حتى لأدنى طماح غير مضمونِ أتضمنين مقيل لي سواسية بين الحشائش أو بين الرياحينِ خلواً من الهمّ إلا همّ خافقةٍ بين الجوانح أعنيها وتعنيني تهزني فأجاريها فتدفعني كالريح تعجلُ في دفع الطواحينِ يا دجلة الخير يا أطياف ساحرةِ يا خمر خابية في ظل عرجونِ يا سكتة الموت يا إعصار زوبعة يا خنجر الغدر يا أغصان زيتونِ يا أم بغداد من ظرف ومن غنج مشى التبغدد حتى في الدهاقينِ يا أم تلك التي من ألف ليلتها للآن يعبق عطراً في التلاحينِ يا مستجم النواسي الذي لبست به الحضارة ثوباً وشيَ هارونِ الغاسل الهمّ في ثغر وفي حببِ والمُلبس العقل أزياء المجانينِ والساحبِ الزق يأباهُ ويكرهه والمنفق اليوم يفدي بالثلاثينِ والراهن السابري الخز في قدح والملهم الفن من لهو أفانينِ والمسمع الدهر والدنيا وساكنها قرع النواقيس في عيد الشعانينِ وتأثر الجواهري يوم جاءه خبر وفاة زوجته وتفجرت رثائية من أعظم الرثائيات التي قيلت ووضح تأثره بوفاة أم فرات وبانت آلامه وظهرت أحزانه من خلال أبيات القصيدة العظيمة والمحزنة وأظنه كتبها في يوم ضاقت عليه الأرض بما رحبت والتي يقول في مطلعها: في ذمة الله ما ألقى وما أجدُ أهذه صخرة أم هذه كبدُ؟! قد يقتلُ الحزن مَن أحبابه بعدوا عنه فكيف بمن أحبابه فقدوا؟! تجري على رسلها الدنيا ويتبعها رأي بتعليل مجراها ومعتقدُ أعيا الفلاسفة الأحرار جهلهم ماذا يخبي لهم في دفتيه غدُ طال التمحلُ واعتاصت حلولهم ولا تزال على ما كانت العقدُ ليت الحياة وليت الموت مرحمة فلا الشباب ابن العشرين ولا لبدُ ولا الفتاة بريعان الصبا قصفت ولا العجوز على الكفين تعتمدُ وليت أن النسور استنزفت نصفاً أعمارهن ولم يخصص بها أحدُ حييت (أم الفرات) إن والدة بمثل ما أنجبت تكنى بما تلدُ تحية لم أجد من بث لاعجها بداً وإن قام سداً بيننا اللحدُ بالروح ردي عليها إنها صلة بين المحبين ماذا ينفع الجسدُ عزت دموعي لو لم تبعثي شجنا رجعت منه لحرّ الدمع أبتردُ ومن قصائده في الوصف قصيدته (دمشق يا جبهة المجد)، يقول فيها: شممت تربك لا زلفا ولا ملقا وسرتُ قصدك لا خباً ولا مذقا وما وجدت إلى لقياك منعطفا إلا إليك ولا ألفيت مفترقا كنت الطريق إلى هاو تنازعهُ نفس تسدّ عليه دونها الطرقا وكان قلبي إلى رؤياك باصرتي حتى اتهمتُ عليك العين والحدقا وسرتُ قصدك لا كالمشتهي بلداً لكن كمن يتشهى وجه من عشقا قالوا (دمشق) و(بغداد) فقلتُ لهما فجر على الغد من أمسيهما انبثقا ومما قاله في هذه القصيدة: يا جِلّق الشام والأعوام تجمع لي سبعاً وسبعين ما التاما ولا افترقا ما كان لي منهما يومان عشتهما إلا وبالسؤر من كأسيهما شرقا يعاودان نفاراً كلما اصطحبا وينسيان هوى كانا قد اغتبقا ومن مراثيه قصيدته (أضاعوك حياً وابتغوك جنازة) في رثاء الزهاوي، والتي يقول فيها: على رغم أنف الدهر ذكرك خالدُ ترن بسمع الدهر منك القصائدُ نعيت إلى غر القوافى فاعولت عليك من الشعر الحسان الخراندُ وللعلم فياضاً فهاجت مصادر عنيت بها بحثا وجاشت مواردُ وفلسفة اطلعت في الشعر نورها هي اليوم ثكلى عن جميل تناشدُ وذات مرة بدأ الجواهري يلقي قصيدة (بريد الغربة) التي يقول في مطلعها: لقدُ أسرى بي الأجلُ وطولُ مسيرةٍ مللُ وطول مسيرةٍ من دون غاي مطمع خجلُ ولما بلغ من القصيدة هذين البيتين: أقول وربما قول يدل به ويبتهلُ ألا هل تُرجع الأحلامُ ما كُحلت بها المقلُ؟ استعبر واغرورقت عيناه بالدموع وتأثر بهذين البيتين اللذين يذكرانه بالماضي الذي كان يعيشه، وتذكر أيام زوجته التي فقدها وتذكر أخاه جعفر وتذكر الفرات ودجلة وأيام الصبا. مواضيع الشعر عند الجواهري الجواهري كغيره من الشعراء تختلف مواضيع أشعاره وقصائده بحسب المناسبات وحدوث المؤثرات عليه. ومن المواضيع التي اعتنى بها أبو الفرات الغزل والتشبب بالمرأة، ومن القصائد الغزلية هذه القصيدة المسماة (بنت بيروت)، يقول فيها: يا عذبة الروح يا فتانة الجسد يا بنت بيروت يا أنشودة البلدِ يا غيمة الشعر ملتاثاً على قمر يا بسمة الثغر مفتراً عن النضدِ يا روعة البحر في العينين صافية يا نشوة الحبل الملتفِ في العضدِ يا قطرة من نطافِ الفجر ساقطها من أرز لبنان خفاقُ الظلال ندي وقال أبو الفرات في هذه القصيدة: فويق صدرك من رفق الشباب به أشهى وأعنف ما يُعطى لمنتهدِ كنزان من متع الدنيا يقلهما جمّ الندى سرف في زي مقتصدِ قالوا تشاغل عن أهل وعن ولد فقال نهداك: لم يشغله من أحدِ سوى رضيعي لبان توأم حبسا رهن الغلال إشفاقا من الحسدِ راجعت نفسي بما أبقى الشبابُ لها وما تخلفَ من أسناره بيدي فما أمرّ وأقسى ما خرجت بهِ لولا بقية قلب فيّ مُتقدِ أمسي مضى بلباناتِ الهوى وأتى يومي يمهد بادي بداةِ لغدي ومن قصائد الجواهري في المرأة القصيدة الغزلية التي نظمها في عام 1946م وعنوانها (ذاتُ الحجاب)، يقول فيها: دعاني جمالكِ فيمن دعا فلبيتهُ مسرعاً طيّعا حشدت لهُ من عبيد الهوى عطاشى محلاة جوعا عواطفَ لم تغدُ فيها السنون رجاء ولا أنعشت مسمعا ترامت على عذابات الشفاه حائرة مقطعاً مقطعا ولاحت برقا وقيت الصبا وعادت رماداً فلن تسطعا أسيدتي ما أرق الحجابَ يثير الفضول وما أبدعا لقد جرت أياً من الفتنتين أصدّ سناك أم البرقعا؟ ومن قصائده الغزلية قصيدته المسماة (جذوة) التي نشرت في عام 1953م في جريدة (الرأي العام) والتي يقول فيها: يتقضى عهد التصابي وأصبو وتخب الأيامُ بي وأحبُ يا فؤادي أأنت جذوة نار كلما هبت الرياحُ تشبُ طال عمر الدجى وإن نور الفجر وإن راح يستتبُ الدياجي في القلب لا الثغر يفترّ ولا العين من ضياء تعبُّ وامتدح الجواهري شاعر الشعب محمد صالح بحر العلوم في قصيدته المسماة (بحر العلوم) بقوله: يا أبا ناظم سلاماً على البعدِ وصرفُ الخطوب يقصي ويُدني وسلاماً على رفاقك في الشوط المجلّي من كل ندٍ وقرنِ يا أبا ناظم ونحنُ هداة الجيل نهديه دربه ونغني نهدم الدهر ما بناه طغاة ونعاني ما يهدمون ونبني يا أبا ناظم ونحن أرقُ الناس طبعاً ونحن عبادُ فنّ ويبدأ يصف صاحبه بأوصاف محببة إلى نفسه قائلاً: يا ابن صيد الرجال كل مضح بشباب كالروض لف أغنِّ يا ربيب السجون لا المتنبي عق من ربه ولا المتنبي ومن قصائده القصيدة المشهورة المسماة (يا ابن الفراتين) التي يقول في بعض أبياتها: يا ابن الفراتين قد أصغى لك البلدُ زعماً بأنك فيه الصادح الغردُ زعم بحبك منه الفخر إن صدقوا أو لا فواجدُ همّ بث ما يجدُ ولن يهون بث ما تجيش به وقد تهون على النفاثة العقدُ ما بين جنبيك نبع لا قرار له من المطامح يستسقي ويرتفدُ وللقضية الفلسطينية مكانة في شعر الجواهري، ومما قاله عن فلسطين الجريحة: يا مهبط الرسل الدعاة إلى الهدى علياً بنيك عن العلى ما عاقها زحفت بمدرجة الخطوب ففاتها شأو المجدّ من الشعوبِ وفاقها لحقت فلسطين بأندلس أسى والشامُ ساوت مصرها وعراقها ومن قصائده الإنسانية القصيدة التي عنوانها (تنويمة الجياع) والتي يقول في بعضها: نامي جياع الشعب نامي حرستك آلهة الطعامِ نامي فإن لم تشبعي من يقظةِ فمن المنامِ نامي تصحّي نعم نوم المرء في الكربِ الجسام نامي على المستنقعات تموج باللجج الطواميِ نامي جياع الشعب نامي الفجر آذن بانصرامِ المراجع: - ديوان الجواهري. 2 - مذكراتي للجواهري. 3 - في رحاب الجواهري لصباح مندلاوي. 4 - صناجة الشعر العربي في القرن العشرين - د. زاهد زهدي. 5 - ديوان العرب (شاعر وقصيدة) - العماد مصطفى طلاس. 6 - محمد مهدي الجواهري لمؤلفه سعدي يوسف. 7 - موسوعة روائع الشعر العربي (القصائد الذهبية) - جمع الأستاذ محمد أحمد سعد. باحث في الأدب العربي [email protected]