كيف أبدأ الحديث وأنا بين مشاجرة عظيمة مع مصطلحات المديح، كل منها يريد مني أن أقدمه على الآخر.. الكرم صاخباً بأعلى صوته: ألم أكن أوضح صفة وأبرز خصلة فيه؟ رد عليه الصبر قائلاً: بل إنني أنا الأولى فأنا علم بين صفات نكرات وشامة عز على جبين الصفات، أما التواضع فرد بصوت هادىء تلمس منه همساً واثقاً وكلاماً ثاقباً: ألم تروا ما كسوته من حلل الهيبة والاحترام والمحبة والانسجام إن لم تثقوا بكلامي فاسألوا البعيد قبل القريب والصغير قبل الكبير والجاهل قبل العالم والفقير بل الفقراء قبل الأغنياء، سيجمعون على ما ذكرته جمعاً قطعياً، لا ينكره إلا من في قلبه دخل أو زغل. إن ما ذكر من صفات لا يمثل إلا جزءاً قليلاً من صفاته وشيئاً يسيراً من خصاله أترى المخيط إذا أدخل البحر ثم أخرج هل يحمل شيئاً يستحق ان يذكر؟ إن أخلاقه ومحامده ليست بحراً بل محيطاً بل محيطات، تحمل في جوفها اللآلىء والمجوهرات!! إن كل صفة فيه تُعد منعطف طريق، لا تستطيع الخروج منه إلا بعد طول مسافة. *** هناك حقيقة مرة ألا وهي أن البعض قد يستطيع أن يزخرف الكلام وينمقه تجاه أي قضية يحكيها، ولكن قلما تجد شخصاً مثل فقيدنا ترجم هذا الكلام إلى واقع عملي وبرنامج يومي يداوم عليه ويتلذذ بالقيام به! إن هذا النموذج الذي نحن بصدد الحديث عنه لم يعط نفسه فرصة للقيل والقال أو كثرة الحديث مع من استقام أو مال.. أتدرون لماذا؟ إن لديه هدفاً وضعه نصب عينيه ومشروعاً أقسم الأيمان المغلظة على الوفاء به وعلى سرعة تنفيذه وتطبيقه بحذافيره، فلم يحنث في قسمه ولم يتردد في مبدئه، فأوفى بقسمه ثم قضى نحبه ولم يبدل إن شاء الله تبديلا. أتدرون ما مشروعه وما هدفه؟ أما مشروعه فهو مساعدة الفقراء وخدمة المساكين وأما هدفه فهو ألا يتوانى عن أي شخص يذكر له أنه بحاجة إلى مساعدة أو مساندة. مد يده إلى الجميع من كبير ورضيع، حتى إذا أقبل عليهم أو مر بأزقتهم تجد البسمة ملأت وجوههم وقسمات الفرحة واضحة على محياهم لقد كان أباً روحياً للمعوزين وأماً حنوناً للأيتام والمساكين!! إنه أمير ولكن في هيئة خادم مطيع (إنه وزير ولكن في هيئة أخ رفيع). اهتم بإصلاح مخبره حتى زهد في مظهره، جعل الاهتمام بالباطن مقدماً على الظاهر - خلاف ما نراه اليوم -. *** هناك طريقة سهلة وصفة ميسرة لمن أراد أن يقيم علاقة معه أو أن يسامحه عن خطأ ارتكبه في حقه فباختصار شديد: (دله على فقير أو أخبره عن مسكين)، ستجد أن العلاقة بينك وبينه قد قويت والصداقة فيما بينكم قد عضدت وسخطه انقلب إلى رضا بل ستجد أنه يثق بك وسيجعل الأمانة صفة مصاحبة لاسمك. *** ومضة إليك أيها الموت: يا لك من شبح مخيف وكائن بشع عنيف ومتوحش لا يفرق بين الغليظ واللطيف أتخطفه من بين أيدينا وأنت تعرف كل هذه الأعمال والمزايا والخصال!! أتغتاله في عقر داره.. أتطعنه بين زوجه وأبنائه وجيرانه؟ ألا تعرف الرحمة إلى قلبك طريقاًّ.. ولا الشفقة إلى نفسك سبيلا ؟ ألا يؤنبك ضميرك؟ إنك بحق متوحش، منذ أن عرفتك وأنت مكفهر الوجه مقطب الجبين مكشر الأنياب ألم تشفع له تلك المناظر والمظاهر نتيجة خطفك إياه أن ترده؟ ألم تر ذلك المعاق كيف جاهد نفسه وتكبد العناء حتى يعزي أبناءه وأحفاده ؟ ألم تر يديه وهما ترتعشان وكلماته المتلعثمة من هول المصيبة! وهل يلام؟ والجد محمد قد بدأ معه من لا شيء حتى أغناه عما في أيدي الناس وجعله لا يسأل إلا رب الناس. ألم تسمع لمكالمة الطفل الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره قائلاً: عزائي للفقراء الذين لا يعرفون إلا هو ولا يساعدهم من بني البشر إلا إياه، هم من سيبكيه الدهر كله. ألم تسمع إلى مكالمة المرأة التي قالت: إن كنتم ستبكونه أياماً فأنا من سأبكيه مطلع كل شهر أتدري لماذا ؟ لقد كانت هذه المرأة في وضع مادي بئيس لا يعلمه إلا الله، فلما علم بحالها يسر لها وظيفة تدر عليها المال. ألم تر إلى الشابين المسافرين اللذين كانا عنده قبل أن تلتهمه، حينما أتيا يريدان من يشفع لهما في وظيفة عسكرية، فتكفل بذلك فرجعا إلى أهليهما وديارهما بعد أن حقق لهما مبتغاهما، وهما يرقصان طرباً بفرحه ما حصل لهما، فلما سمعا بالخبر رجعا إلى داره لا يألوان على أحد كي يشاركا في العزاء ويردا بعض الجزاء. ألم تر إلى كثرة الجموع التي حضرت في المسجد كي تصلي عليه؟ ألم تر إلى هذه الجموع التي احتشدت عند قبره؟ ألم تر إلى بيته وهو مكتظ بالمعزين؟ وإلى الشارع كيف اختنق بكثرة السيارات التي وقفت عند داره؟ ألم تلطف بحال ذلك العامل الذي بكى دماً حينما علم بنبأ وفاته؟ أتدري لماذا؟ لأن الجد محمداً رآه مرة يلهث من شدة العطش فوضع له ماءً بارداً يسقيه منه وكلما احتاج إلى شيء ذهب إلى الجد ليقضي له حاجته. ألم تر إلى الوجوه كيف شحبت؟.. وإلى الأعين كيف غرقت؟ وإلى الخدود كيف شوهت؟ بعد كل هذه الاستفهامات هل لك يا موت أن تعيد لنا فقيدنا بعدما سمعت نبذة مختصرة عن حياته؟ لا تجب.. فأنا أعلم منك بالإجابة.. لو أن الأمر بيدك لما استشرتك في ذلك بل سألزمك إلزاماً وأجبرك على ذلك إجباراً !. ولكن الأمر من لدن حكيم عليم - تعالى سبحانه وتقدس - وعزائي أنه استعد لك وتأهب لقدومك منذ ما يربو على سبعين سنة، فلما هاجمته غلبك؟ رافعاً سبابته إعلاناً بنصر وإيذاناً بفوز، بل استطاع أن يتغلب على العدو الشرس ألا وهو عدو الله إبليس - أعاذنا الله منه -. *** إن منظره وهو رافع لسبابته أبلغ من ألف خطبة ومليون موعظة - بلغة الاقتصاديين - استطاع أن يوجز ما قام به في هذه الدنيا بهذه الحركة. وكما يقول المثل: (رب إشارة أغنت عن ألف عبارة)!! *** والله وتالله وبالله لو سألت الجبال بالدموع، وانحنت الظهور بالركوع.. وامتلأت الدنيا بالمآتم والشموع.. فلن نستطيع نسيانك لأنه خروق القلوب لا تسد بالرقاع. والله لو انقلبت البحار إلى أحبار والأشجار إلى اقلام لتدوين شمائلك وتسجيل فضائلك لم تكن وفاءً لك ولا رداً لجمائلك ولكن ما ذكر إنما هو قطر من بحر ورشف من زهر وغيض من فيض، إنما هي ومضة أردت أن ألفت إليها الانتباه وموعظة أردت أن أوقظ بها قلوب الطغاة، مفادها: (يا ابن آدم لن يبقى لك في أخراك إلا ما عملته في أولاك). قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}، أين أنا من آيات ربي وقد حفظتها فلم أستطع استحضار أي جزء منها.. أين أنا من مصاب الأمة بفقد حبيبها محمد صلى الله عليه وسلم؟ وقد قال الله في محكم التنزيل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}، ولكن لا تلوموني، فكيف لي أن أهنأ بعيش وأنا فاقد جزءاً من كياني.. وقد سلب مني مهجتي وجناني؟ كيف أغفل عن قدوتي في حياتي؟ كيف يطيب لي طعام أو أن أعيش سعيداً مع الأنام أو أن أخلد إلى السرير فأنام.. أجيبوا يا كرام.