هكذا أقرأ شعراً، أُقلِّب صفحات رائعة أنيقة بين دفّتي كتاب، وكما عبّر الدكتور سامي (هذه النسخة الأنيقة في ورق كزرقة السماء، وحروف ترتجف أمام عيني كما ترتجف النَّيازك وهي هابطة محترقة بلهب الوداع، تغادر النجوم في الأعالي لتختلط برماد الأرض). أمسكتُ بكتاب الشاعر المتفائل إيليا أبو ماضي، ووقفتُ عند كلِّ منعطف أرتوي من ذاك الفيض الآسر، فتدور مآسي الحياة عند كلِّ منعطف فتتراءى لي زفرة الحياة ومنغِّصاتها المتعبة، ثم ألمح، ذاك البريق الأخّاذ. وما أن أقف في إحدى المحطات حتى أطوف حول ما تخفي أسرار الحياة! منابع ثقافة الشاعر: طالع أبو ماضي بعض القراءات الخاصة فلوَّنت ثقاقته حتى استطاع أن يكتب بلغة سلسة سليمة، وامتلأ أسلوبه بالرَّوعة والدقة والتصوير الرائع، كما كانت صوره توشِّح أشعاره بفيض من الإنسانية، وتسرد تأمُّلاته، كما أنّ شعره يحمل فلسفة أحاسيسه ومشاعره ..! الرابطة القلميَّة: يُنسب إيليا ؟أبو ماضي إلى الرابطة القلميَّة الذين استوطنوا في أمريكا؛ واستطاعوا أن ينشئوا صحيفة يومية، بمختلف اللغات! ومن هؤلاء المهاجرين كذلك جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وأبو ماضي. أغراض شعره: تعدّدت أغراض شعره وفقما اختلج في نفسه، وكيفما سارت في فلك الحياة بين يأس وتفاؤل .. فقد خاطب الجمال بقوله: أيها الشاكي! وما بك داء كن جميلاً ترى الوجود جميلا كما أنّه يدرك ما تختلج به النفس من هموم وآلام فيقول: ليس يدري الهمَّ غيرُ المبتَلى طال جنحُ الليل أو لم يطل ويحاول أن يطرح اليأس جانباً فيخاطب المشتكي: كم تشتكي وتقول إنّك معدم والأرض ملك والسماء والأنجم هكذا فلسف الحياة ورسم التفاؤل, وحلّق في الأفق بين النجوم البرّاقة، وجاب الرَّوض بمرتعه من جمال الرَّوض فرسم هذه الحقيقة في أسلوب رشيق: ابسمي كالورد في فجر الصباء وابسمي كالنجم إن جنّ المساء وإذا ما كفّن الثلج الثرى وتعرّى الزهر من أزهاره فاحلمي بالصيف ثم ابتسمي تخلقي حولك زهراً وشذاء وأبو ماضي صوَّر الحياة بألوانها الموشّاة بما فيها من خير، وقاتمة بما اصطبغت من شر، فيقول: كن بلسماً إن صار دهرك أرقما وحلاوة إن صار غيرك علقما وهو هو ينشد فلسفة الحياة في قصيدته: والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً هو عبءٌ على الحياة ثقيل من يظنُّ الحياة عبئاً ثقيلاً لعلّ أبا ماضي واثق من إرادته ليعيش الحياة دون أن تفرض عليه حصارها أو سجنها، فيصارع الهمَّ ويزرع الفرح رغم ما يعتري الإنسان من منغِّصات تستحوذ على النفس؛ إذ لا بدّ من التَّغنِّي بالجمال حتى يتحوَّل إلى قالب يحيى داخله ويعكس أطيافه فيه. هكذا كان إيليا أشبه بطائر يحلِّق عالياً ولا يملّ الطيران، فأشعاره رياض ملأى بالأزهار الفوّاحة والفراشات الملوَّنة والبلابل المغرِّدة، فهو ينقلنا من زهرة إلى أخرى ننعم بذاك العبير، يحملنا على شعاع نجم ساهر نملأ من خياله الفيّاض قطرات النّدى تنساب على وريقات خُضر عبر صباحات جميلة. وما أروع أغراض شعره، وما أجمل تحليقه عالياً، حتى نكاد نلمس النجوم ونطوف بين أفياء الكون الفسيح!