التفاؤل شعور إنساني مُلِحّ وضروري، فهو الذي يفتح أبواب الأمل، ويشرع الطرق إلى تحقيق النجاحات، ويجعل لحظات الحياة أكثر سعادة وأملا وجمالاً، غير أنَّ هذا الشعور لا يتقنه كثيرون، وحين يكون الحديث عن التفاؤل الأدبي فإنَّ اسم الشاعر المتميز إيليا أبو ماضي صاحب الحضور الأبرز في هذا السياق، وخصوصاً نصه الشهير الذي سأحاول في هذه لأسطر أن أقف مع مشهد من مشاهده وقفات موجزة، وأكشف ما أودعه فيه من جماليات فنية ودلالية، وأحاول أن أغوص في أعماقه، وأستجلي بعض خصائصه ومميزاته، وأفصح عن جمال أسلوبه ولغته، متلفِّعين معكم بأثواب الحب والخير التفاؤل. يقول إيليا أبو ماضي: كُن بلسماً إن صارَ دهرُك أرقما وحَلاوةً إن صار غيرُك علقَما إنَّ الحياةَ حبتك كل كنوزها لا تبخلنَّ على الحياة ببعض ما أحسنْ وإن لم تُجزَ حتى بالثنا أيَّ الجزاءِ الغيثُ يبغي إن هما؟ مَن ذا يكافئُ زهرةً فواحةً أو مَن يُثيبُ البلبلَ المترنما؟ أيقِظْ شعورك بالمحبة إن غفا لولا شعور الناس كانوا كالدمى أحببْ فيغدو الكوخُ كوخاً نيرا أبغض فيمسي الكوخُ سجناً مظلما لو تعشقُ البيداءُ أصبحَ رملُها زهراً وصارَ سرابُها الخدَّاعُ مَا لو لم يكن في الأرض إلا مبغضٌ لتبرَّمت بوجوده.. وتبرَّما هذا هو أبرز مشاهد النص المتميز الذي أبدعه شاعرنا الرقيق إيليا أبو ماضي، وهو نصٌّ يعبق بالتفاؤل ويفيض بالإحساس المرهف، وأحسب أنَّ القارئ الكريم قد لاحظ تلك البساطة والوضوح في هذا النص، ومحاولة شاعره الابتعاد عن كل ما هو غريب ومعقد، إنه ببساطة ينفث إلى أسماعنا سحراً مليئاً بالتفاؤل والخير والمحبة بصور رائعة مطبوعة سهلة، بعيداً عن التعقيد والتكلف والفلسفة. لقد اختار الشاعر المبدع البحر المناسب والإيقاع المتناسق لهذا النص المتميز، فالبحر الكامل ذو إيقاع هادئ متوسط الطول يتناسب مع غرض النص ويتناغم مع فكرته الرئيسة والدعوة التي يود الشاعر أن يلفت انتباه المتلقي إليها، كما أنَّ حرف الروي الميم المتبوع بالألف حرف كثيراً ما يستعين به الشعراء ويجعلونها روياً لقصائدهم، وهو هنا يوحي بشهرة هذه الدعوة وعدم غرابتها، فالتسامح ونبذ الكره وحسن المعاملة يجب أن تكون هي الأصل عند جميع الناس على اختلاف أديانهم و أعمارهم، ومستوياتهم وثقافاتهم وألوانهم. وأول ما يلفت الانتباه في نص شاعر التفاؤل والجمال هو ذلك الافتتاح الباهر والاستهلال البديع، فالبراعة في افتتاح القصيدة مطلب مهم؛ وغرض لا بد من العناية به، إذ إنه أول ما يقرع أذن السامع، ويوفر عليه معرفة المقصد من النص منذ وقت مبكر، فتتهيأ نفسه لاستقبال ما بعد ذلك من الأبيات، ولم يفت على الشاعر إدراك هذه الحقيقة، فجاء الاستهلال حاملاً أعلى درجات الجمال والروعة جامعاً بين الرقة والتصوير، والبراعة في استخدام المتناقضات والمتقابلات لخدمة الغرض الرئيس، وذلك الأمر المباغت المباشر اللافت لانتباه المتلقي الذي يواجه هذا الافتتاح بشكل مُفاجئ. ويبدأ شاعرنا أبو ماضي منذ الوهلة الأولى في دعوته خلال هذا النص، فيوجه الإنسان إلى أن يكون شفاءً ومرهماً في الوقت الذي يلاقي فيه من هذا الدهر السم الزعاف، وإلى أن يكون حلواً سائغاً في الوقت الذي يجد من الغير المرارة وسوء العشرة، وتظهر أثناء ذلك تلك المقابلة الرائعة التي يستثمرها الشاعر أروع استثمار لإيصال الفكرة التي يختصرها أبو ماضي في هذا البيت الاستهلالي، فالبلسم يقابل العلقم، والحلاوة تقابل العلقم، وتبرز الاستعارة الرائعة وسط هذه المتقابلات المتضادة، التي بواسطتها يشخص أبو ماضي هذه النفس الإنسانية وصفاتها وأحوالها، فالبلسم والحلاوة إشارة إلى الطيبة والحنان والإحساس وتقديم العون للمحتاج والبشاشة والابتسامة وغير ذلك مما يُحمد عليه الإنسان، والأرقم والعلقم إشارة إلى الظلم والجشع والأنانية والغدر والخيانة وكل ما هو قبيح في هذه النفس الإنسانية. ويتجه شاعرنا المتألق بعد هذه الدعوة إلى تعليل الإيمان بها وإطلاقها وتوجيهها، وذلك بأنَّ خالق الحياة قد وهب هذا الإنسان من النعم والكنوز ما لا يعد ولا يحصى، فلا ضير أن يتجاوز الإنسان عن بعض ما فيها من آلام وأحزان ومصائب، ولينظر بتفاؤل إلى الحياة، إلى الجانب المشرق المضيء بها، إلى نصف الكأس الممتلئ. وفي هذا البيت الذي يشع طمأنينة وتفاؤلاً يجد المتأمل فيه الإيقاع الصوتي يتعاضد مع المعنى والرؤية لإيصال هذا الجو التفاؤلي إلى المتلقي، فحرف الحاء في (الحياة) و(حبتك) وحرف الكاف المكرر ثلاث مرات تكاد م تتالية في (حبتك كل كنوزها) كل هذه الأحرف من الأصوات المهموسة الرخوة التي تشيع في البيت آفاقاً من الهدوء والتسليم والرضا والإيمان والتحمل. ويعود أبو ماضي مرة أخرى إلى توجيه الأمر للمتلقي بفعل الخير والإحسان إلى الناس، ولكن دون أن ينتظر هذا الفاعل أجراً أو ثناءً أو مكافأةً من أحد، وهو هنا يؤكد على استصحاب حسن النية والإخلاص في تقديم المساعدة، وهي إضافة مهمة جاء بها البيت الثالث وملاحظة لم يرد الشاعر أن يتجاوزها. ثم ينقلنا المبدع إلى فضاءات الطبيعة وظواهر الحياة ليجلب لنا منها دليلاً لا يقبل الشك ولا الرد على هذه الدعوى، وذلك عبر تصوير بديع وتجسيم متألق، فالغيث لا ينتظر جزاءً إن هو همى، والزهرة لا تنتظر شكراً إن هي أسعدت من حولها وأسكرت أنوفهم بعبيرها الفواح وعبق أريجها الرائع، والبلبل لا يريد ثواباً من أحد إن هو أطرب المصغي بترتيله الجميل وأفرح المستمع بترنيمه الجذَّاب، وكأنه يدعو الإنسان إلى الاقتداء بمثل هذه الصور الحياتية ومحاولة استلهام هذه النية الخالصة منها. ثم يعود الشاعر مرة أخرى إلى الأسلوب الإنشائي آمراً هذا الإنسان بإيقاظ شعور المحبة في داخله، ومحاولة التخلص من أي شعور مضاد ربما يستحوذ على قلبه، وهو هنا يعزز من أهمية هذه الدعوى بأمر لا يمكن أن يتجاهله أحد، فهذا الشعور الذي يدعو شاعرنا إلى إيقاظه هو الذي يتميز به الإنسان عن الدمية التي لا روح فيها ولا حس، وفي هذا إشعار بأنه لا فرق بين إنسان خلا قلبه من الحب ودمية مصنوعة من قماش لا أثر للحياة والإحساس فيها، فالحب وحده هو الذي يمنح الإنسان إنسانيته، ومن دونه هو لاشيء يُذكر. لقد أراد أبو ماضي بهذه الدعوة الصريحة إيقاظ غفوة القلوب التي تجاهلت الشعور بالحب، وتناست أنه هو الفارق الوحيد بينها وبين الجمادات، فتجد هذه النفوس تلهث وراء السراب وتتقاتل على الفتات، وتغفل عن السعادة الحقيقية والجمال الصريح المتمثل في إشباعِ هذا القلب بالحب وإروائِه بمحبة الآخرين، ولن يكون ذلك إلا بالشعور نحوهم بالتسامح والحب الصافي النقي وحسن الظن والاهتمام بهم والشوق إليهم والسؤال عنهم، فكل هذا من شأنه أن يوقظ شعور الحب في النفس الإنسانية. ويُعزِّز أبو ماضي هذه الحقيقة التي ترفع من شأن المحبة والشعور بها وذلك من خلال تصوير الأثر الساحر الذي يمكن أن يحدثه إيقاظ الشعور بالمحبة وإشاعة روح التفاؤل والسرور في أرجاء هذه الدنيا، ويرسم لنا صورتين جميلتين تكشفان عن مدى هذا الأثر؛ رغبةً منه في تأكيد هذا الأمر في نفوس المتلقين، وترغيبهم في اعتناقه والإيمان به، والعمل من أجله، وهما صورتان فيهما كثير من الخيال البديع والتجسيم المدهش والمقابلة المتناقضة، وهما الصورتان اللتان سيبدأ بهما الحديث القادم. [email protected]