وحيدة.. إلا من النافذة المفتوحة في غرفتي والنهار الخريفي يراقب الأشجار.. وهي تتفق أن تتعرى لتستحم ببقايا حبيبات الشمس الصفراء الباهتة.. شيء ما في هذا الخريف يتناغم مع روحي.. ضبابه الرطب يذوب بهدوء على جسدي.. ذرات الرمال الناعمة تحملها رياحه الخفيفة إليّ لتداعبني لتوشوش في أذني كلمات تكبر بداخلي لتكون رسائل وهدايا ووروداً بنفسجية تارة وأخرى حمراء كدمائي.. مَنْ أرسلها لي واختفى بين الأثير؟!. أويستطيع أن يختفي؟ وأنا أشم أنفاسه تدغدغ أنفاسي، وأشعر بقلبه يقترب مني.. يفرد لي جناحيه.. ويطير بي إلى عالم سماوي.. أنا وهو وصغار يرفلون من حولنا سعادة وحباً، ينثرون في طريقنا الأزهار واللآلئ والمرجان؟. أي رغبة ملحة في أن نكون معاً تعشعش بداخلي! وأي حلم يراودني ليل نهار! لابد أن يجمعنا القدر ذات يوم.. لابد أن يفعل.. وحيدة إلا من الروح التي تتقلب على سريري فلا تقدر أن تنام إلا من الليل الذي يجثو على ركبتيه.. يائساً حيران، والنافذة التي كنت أفتحها كل يوم أغلقتها الآن!!. أقفلتها بإحكام؛ فالضباب الذي كان يذوب بهدوء على جسدي.. باتت له حبال، تلتف حول عنقي وعصابة تحيط بعيني وذاكرتي.. الهم يعصرني كقزم في كف عملاق، يمسك بخناقي حتى تتساقط أزرار قميصي زراً زراً وأنا أدور في أركان هذه الغرفة.. أدور تاركة خلفها صوت أمي الرخيم يتردد من ركن إلى ركن وهي تنادي لوجبة العشاء. لعل الهدوء يجعلني أفهم ألغاز نفسي.. لقد طلبني ذلك الرجل للزواج.. اليوم أقول ذلك الرجل!! ولطالما سمحت لنفسي وقلمي بإسباغ كل الصفات الحلوة التي تتمتع بإطلاقها كل امرأة عليه.. والآن بعدما أوشكت أمنيتي أن تتحقق أسميه ذلك الرجل! آه.. لكم كنت أحبه.. أتمناه! منذ بدأ يزورنا في البيت وأنا معجبة به.. كان رجلاً متزناً خلوقاً، إذا تحدث يفتر ثغره عن ابتسامة ساحرة تكشف بياض أسنانه وبريقها.. وإذا حدق تراقصت في عينيه أضواء البراءة والمحبة.. وكان صديقاً لأخي الوحيد. لم ينقطع عنا يوماً مذ وفاة والدي.. له سمعة طيبة ومكانة يحسده عليها الجميع.. كلهم يحبونه ويرتاحون إليه وكأنه صديق كل فرد في هذه المدينة.. أنا نفسي التي لم أنتبه يوماً لرجل قد لفت انتباهي هو!! وقضيت ليالي عدة أفكر كيف اقتحم عليّ حياتي.. وسرق مني نومي وبراءتي! فيوم فتحت جفني عليه لم أغمضها أبداً وهو الآن يتقدم لخطبتي!! لقد ذهلت تماماً عندما فاتحتني أمي!! أنا سأتزوج من حلمي، أملي، سعادتي، حياتي كلها مرهونة بهذه اللحظة!! فلماذا هذا الضيق يحاصرني؟ لماذا أنا لست سعيدة؟ لماذا أشعر الآن بالذات بأني أكرهه أمقته؟ أشعر به وكأنه عدوي، عدوي الذي يجب أن أنتقم منه لا أن أذهب إليه في ثوب أبيض سخيف! كان قمراً يتوسط قلبي.. لا بل أحلى.. أكثر والآن كأنه.. أراه كأنه غراب.. يحيط بي.. يسورني، يسقيني حيرة وعذاباً وأنا أشرب وأدور في دوامته فيمد مخالبه ليأخذني.