الليل ظلمة قاتمة ووحشة قاتلة وهواجس حية تتحرك وتفتح أفواهاً شرهة لتلتهم النائمين. كانت السياقة ممتعة في ظلام الليل.. وكان البحر يبعث بنسائمه الباردة المنعشة وروائحه المفعمة بعبقها الجميل.. خففت السرعة واكتفيت بمداعبة دواسة البنزين.. كان القمر ينشر صورته على صفحات الماء الساكن ويعابث الأرض بأشعته الفضية الخافتة، بينما كان شريط الأسفلت يمتد ملتوياً مثل حية رقطاء على مدى الضوء والرؤية كاشفاً عن خفاياه لحظة بعد لحظة. وكانت المدينة تتراءى من بعيد سفينة سابحة في عتمة تخفف حدتها قناديل مرتعشة النور غامقة اللون، وكنت أستشعر نشوة غامرة وأنا أعود إلى مدينتي من جديد لأعانق فيها ذكريات وأحلاماً.. ومع أنني كنت أجد حاجة ماسة للنوم فقد أصررت على أن أصلي العشاء في مسجد الحي.. عرجت نحوه ولدى الوصول أوقفت السيارة ونزلت. كان الإمام وصديقي سعيد بالباب.. عانقتهما بحرارة.. استفسرت منهما عن الحال والصحة والأحباب والأصدقاء ثم استأذنتهما ودخلت إلى مكان الوضوء.. فتحت الصنبور.. ترقرق الماء خارقاً سكون المكان.. أحسست براحة ومتعة وأنا أطهر أطرافي بالماء النقي البارد. كان الإمام في انتظاري عند الخروج.. استدرجني للحديث وشرع يسرد أخباراً وأحداثاً.. كان كلامه غريباً ومثيراً. لقد ذكر أن حشداً من القطط السوداء هاجمت الناحية وأنها تقضي على من تصادفه في طريقها؛ ولهذا السبب فإن الناس لم يقدموا على صلاة العشاء هذه الليلة؛ لأنهم يعلمون أنها أصبحت سيدة الظلام في هذا الحي.. لقد نشرت الرعب واستبدت بقلوب السكان.. كان كلامه عجيباً لكنه لم يطل فقد بادرني بدعوته للصلاة. كنا ثلاثة أشخاص نصلي في خشوع وسكون.. الإمام في محرابه، ثم أنا وصديقي سعيد من ورائه.. وكنت ثابتاً أشعر بسكينة واطمئنان وكأني نسيت الحديث المفزع الذي سمعته منه، ثم بعد أن فرغنا من الصلاة سألني الإمام أن أحمله في سيارتي إلى بيته.. وافقت ورحبت بالطلب ثم زدت فدعوت صديقي إلى المبيت معي الليلة في بيتي. كان الإمام يحمل عصا كبيرة لم أسأله عن السر في ذلك؛ فقد بدأت أشك في مقولته، لكن الأمر تغير حين ركبنا السيارة؛ فقد عاد الإمام إلى حديثه فالتفت إلى صديقي وقلت: ما رأيك أنت في هذا؟ أجاب وأمارات الجد بادية على محياه: أجل أنا كذلك سمعت بهذا فقد أخبرني أحد الجيران أن مجموعة من القطط قد تعرضت لسيدة حامل وجعلت تناوش ثوبها الطويل فجمدت المسكينة في مكانها لا تدري ما الحيلة. ولم تجد غير الصراخ فصرخت بكل قواها فأثار ذلك جنون القطط فانقضت عليها ومن حسن حظ المرأة أن قناصاً خرج لنجدتها واستطاع إنقاذها. لقد سمعت بهذا وبغيره. ثم قطع حديثه وطلب النزول من السيارة.. واستأنفنا مسيرنا نحو المنزل نتبادل أطراف ذلك الحديث المثير المهول.. وفجأة سمعت أصواتاً عالية.. نعم إنها هي وهذا مواؤها يدوي تكاد الآذان تنفجر له ثم ها هي تعدو حولنا.. أشعلت الأضواء الكاشفة وضغطت على المنبه.. حاولت أن أتجنبها لكنها كانت تتقاذف كالأمواج نحونا. لقد أصبنا بعضها واختلط المواء بالصراخ وامتلأت قلوبنا رعباً وخوفاً فشعرنا أن عتمة الليل تشتد وكأنما انطفأ القمر أو انكسف. أوقفت السيارة أمام باب العمارة استجمعت شجاعتي ثم قررت أن أنزل مهما كان الثمن.. فتحت الباب.. وضعت قدمي على الرصيف.. حاولت أن أضع القدم الأخرى فوجدتها ترتمي عليّ مرة واحدة وبكل قوة تدفعها رغبة في الثأر.. سقطت على الأرض..كان سعيد يضغط دون انقطاع على الجرس المنبه.. كان الجيران يضربون بعصيهم في كل اتجاه.. وكنت أصيح: الماء.. الماء.. ثم وجدتني أغمر به بعد ثوان.. كنت الهررة تتساقط.. استطعت الإفلات وحملت إلى البيت. صاحبني سعيد وأحد الجيران.. أصررت على التوجه إلى الشرفة.. الجو رطب وبارد، والقطط تتقافز من الغيظ والألم.. مطر.. وصراخ يرتفع.. صرخت.. فتحت عيني.. وجدتني في غرفتي وحدي.