بعد "نجاحات" انطلياس المسرحية، كان لا بد للشابين عاصي ومنصور الرحباني ان ينخرطا في وظيفة تعيل، لأن "الفن لا يطعم خبزاً" كما كان يقول أبو عاصي. هكذا صار عاصي بوليس بلدية انطلياس وصار منصور شرطياً قضائياً في بيروت. وهناك ايضاً جرت لكل منهما مفارقات واحداث طريفة. على ان ثوب "موظف الدولة" لم يمنعهما من مواصلة مسيرتهما الفنىة صوب الاحتراف. عام 1939 اضطر عاصي الى البحث عن عمل وكان لا يزال في السادسة عشرة. فعمد الى تكبير سنه كي يحق له التقدم في امتحان الوظيفة. هكذا تم قبوله في بلدية انطلياس بصفة بوليس وامين سر. وكان يتباهى مازحاً بأن معه السلطتين التشريعية والتنفيذية معاً: فأمين السر يسن القانون او يأخذ علماً به، والبوليس ينفذه. كما اسندت اليه ايضاً "مسؤوليات" اخرى بينها "مكافحة الكلاب والقطط الشاردة وما شابه ذلك من قضايا البلدية". وبعد سنتين اضطررت انا ايضاً الى الانخراط في سلك الوظيفة فعمدت كذلك الى تكبير سني لاتقدم من امتحان دخول الى سلك الشرطة القضائية في بيروت. سقطت في الفحص الجسماني مع انني كنت سميناً وبديناً. كان الطول المطلوب 170 سنتم وكان طولي 179 فأسقطوني. عندها عمدت الى "وساطة" ادوار ابو جودة امين سر ادارة البوليس الذي توسط لي فذهبت بعد يومين لاجد اسمي بين الناجحين. وبدأت حياة الوظيفة في السادسة عشرة وانا اسمع الناس يتهامسون من حولي: "هالبوليس اجرودي" حليق الوجه. كان عاصي، الى وظيفته نهاراً في البلدية، يشتغل ليلاً عازف كمان في بعض المقاهي ابرزها مقهى سعادة على الدورة ضمن فرقة موسيقية تعزف لمطربين ومطربات تلك الحقبة. وكان درس العزف على ادوار جهشان بات في ما بعد عازف كمان ثالث في فرقتنا الموسيقية اضافة الى التحاقه بالاكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة عضواً في الكورس، ومرة كان له دور غنائي في "ميسا سوليمنيس" لبيتهوفن. في تلك الحقبة كان "بونا بولس الاشقر" اطلعنا على فن الاوبرا واتى بأوبريتات شهيرة منها الپ"آريا" راح يسمعنا اياها ليوسع مداركنا، فزاد شغفنا بالموسيقى. ومن حسن الحظ ان رئيس البلدية عهدذاك وديع الشمالي كان يحب الموسيقى ويعزف الكمان فكنا نعقد في بيته سهرات عزف وغناء. على انه، حين كان الامر يتعلق بالبلدية كان ينقلب بخيلاً. فذات يوم قررت البلدية قتل الكلاب المسعورة الشاردة لخطرها على الضيعة. وافق عاصي أمين السر وكان على عاصي البوليس أن ينفذ المهمة. لكن رئيس البلدية لم ينعم عليه سوى بخرطوشة واحدة. ذهب عاصي، وهو يخاف من اطلاق النار، وتراكم عليه الاولاد متبرعين بارشاده الى مكان الكلب المسعور. كثر حوله الهياج والصراخ الى ان اطل الكلب فجأة فصرخ الاولاد: "ها هو" ارتعد عاصي من منظره واطلق النار فأخطأه واصاب بقرة في البعيد فنفقت. هجم عليه اصحابها فهرب في بساتين الليمون. واذا بتلك الحادثة تكلف البلدية تعويضاً مالياً كبيراً وتكلف عاصي تأنيباً وحسم معاش على سوء استعماله سلاح البلدية. مرة اخرى طلب منه رئيس البلدية ان يذهب فيقتل حماراً اجرب يشكل خطراً على الصحة العامة. وكان عاصي لا يحب قتل الحيوانات. اخذ معه عاملاً وضربا الحمر بالرفش ضربات عدة سقط من جرائها. ظناه مات فدفناه في الرمل على الشاطئ وقفلا عائدين. وما هي حتى وجداه داباً وراءهما ينفض عنه ما علق به من رمل. فهرع عاصي مجدداً الى الهرب خوفاً من انتقام الحمار. وكان الهرب دأب عاصي في البلدية: هو يهرب طوال الشهر ملاحقاً حفلات غنائية كانت تدر عليه نقوداً، بعضها كان يعرف به رئيس البلدية ويغض النظر لأنه يحب الموسيقى، فيما هو نفسه يهرب من عاصي اواخر الشهر تهرباً من دفع معاشه الشهري. ذكريات طريفة كثيرة من ايام البلدية بقيت في بال عاصي وبالي، ظهرت لاحقاً في الكثير من اعمالنا عبر شخصيات الشاويش "بياع الخواتم" مثلاً، واخبار البلدية ورئيس البلدية "المحطة"، مثلا حتى ان عاصي نفسه لعب شخصية رئيس البلدية في فيلمنا "بنت الحارس". اما انا، فدخلت الوظيفة عنصر احتياط في الشرطة العدلية القضائية، واجزم انني كنت افشل واسوأ شرطي عرفته الجمهورية اللبنانية في تاريخها. لم استطع التأقلم مع جو المخفر ولا النوم على فراشه. كنت اهرب ليلاً واعود الى بيتنا في انطلياس لانام على فراشي. تنقلت الى مخافر عديدة. وحدث ان بات ادوار ابو جودة رئيس الشرطة القضائية وتجمعنا به صداقة عائلية زوجتي لاحقاً تريز هي ابنة اخيه فنقلني الى الامن العام الفرنسي حيث سلمني مسؤولية النظارة مع رفيقين لي: نعوم السبع ويوسف بعلبكي. كانت مهمتي مراقبة الموقوفين السياسيين، اداوم اثنتي عشرة ساعة وارتاح اربعاً وعشرين. وكان قلبي ينفطر على هؤلاء لأن النظارة في طابق ارضي من مبنى عادي في محلة الصنائع كانت زنزانة صغيرة المساحة وليس مسموحاً للموقوف التحرك ولا التدخين ولا الحلاقة. وكان طعامهم بائساً. كنت صغير السن يومها الا في اوراقي الثبوتية المزورة ولم اكن اقدر عواقب اهمالي. كان مكتبي على مدخل غرفة عادية غير محصنة. كان ينتباني الضجر فتعلمت تسلية التنويم المغناطيسي امارسها على الموقوفين فيوهمني بعضهم بأنه ينام ويطيل نومه فأرتعد لانني لم اعد اعرف كيف اوقظهم. كان بين الموقوفين اثنان طليان ممنوع ان يختلط واحدهما بالاخر. وكذلك موقوف فرنسي عازف هارمونيكا في مقاهي الزيتونة، كان يعزف ونغني كلنا معه انا والسجناء. ثم اتضح لاحقاً انه جاسوس الماني اخبرني العماد سامي الخطيب في ما بعد ان الحلفاء اعدموه في حديقة السفارة البريطانية وقد تحولت الى مطعم كنا نتناول فيه العشاء ليلتها. وكان عندي موقوفون سياسيون من سورية بينهم شقيق حسني الزعيم وبحارة من ارواد متهمون بالتعامل مع الالمان ونقيب المحامين العراقيين بهجت زينل. وكنت افتح الزنزانات ليلاً على بعضها البعض فيختلط الموقوفون ببعضهم البعض ويغنون معي ويتبادلون المعلومات ويضللون التحقيق ولم اكن اهتم لما يجري ولا علاقة لي بما يجب ان تكون عليه مسؤولياتي. ولو ان مفتشاً دخل علينا ذات ليلة لكان احالني فوراً الى المحاكمة والطرد من الوظيفة. وكان ممكناً ان يقتلني الموقوفون ويهربوا بسهولة لأن الباب كان سهل الفتح بمزلاج عادي. كان عليّ ان اكتب تقريراً بالفرنسية كل ساعة عما يجري معي في النظارة، فكنت اضع كل ساعة تقريراً مزوراً ليس فيه صحيحاً سوى توقيعي: "الشرطي العدلي منصور الرحباني". ذات يوم كنت مكلفاً بمهمة استوجبت امتطائي دراجة نارية. ولم اكن احسن قيادتها. وبعد ان انطلقت بها على غير هدى ولا قاعدة صادفت تلة في الرمول التي كانت محيطة بالمكان وبيروت كانت في معظمها رمولاً تلك الايام فاصطدمت بالتلة وانقلبت بي وبدا يقطر منها البنزين ثم هبت فيها النار فهرعت الى اهالة الرمل عليها حتى انطفأت فعدت بها اجرها الى المخفر مهزوماً مستعداً لعقوبة الوظيفة. طرائف متعددة من طريف ما اذكر ايضاً: ليلة 10 تشرين الثاني نوفمبر 1942 جاء الليوتنان بوتيون، رئيسي المباشر في الامن العام الفرنسي، ووزع علينا في النظارة بندقيات صغيرة عتيقة صدئة وقال: "استعدوا، الليلة سيجري حدث مهم". ولم اكن احسن التصويب ولا اطلاق النار، حتى ان المسدس الذي كان مفترضاً ان احمله، استبدلته بقطعة خشب كنت ادسها في البيت الجلدي كي اوهم رؤسائي انني احمل مسدسي. ووضع بوتيون في تصرفي جندياً سنغالياً لا يفهم عليّ ولا افهم عليه. في تلك الليلة خطف الفرنسيون الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح الى مكان مجهول. وجاءني صديق كان متعاملاً مع الامن العام الفرنسي همس لي انه هو الذي قاد سيارة الموكب الى قلعة راشيا حيث تم اعتقال الموقوفين في القلعة. كانت بيروت كلها لا تعرف شيئاً عن مصير الرئيس المخطوف. فهرعت ليلاً الى منزل ادوار ابو جودة كان من اركان الكتلة الدستورية التي يرأسها الشيخ بشارة الخوري وقلت له ان الرئيس وصحبه موجودون في قلعة راشيا. بعد عشرة ايام رأيت بوتيون يمشي في الشارع متدروشاً بثياب عتيقة فعلمت ان الفرنسيين غلبوا على امرهم وان الرئيس وصحبه باتوا طليقين. وبالفعل اشتعلت بيروت يومئذ 22 تشرين الثاني 1943 بمظاهرات الابتهاج، فحملنا بوتيون مجدداً بنادق عتيقة تحسباً لأي هجوم علينا، لكنني تركت البندقية جانباً ورحت اهتف مع المتظاهرين. بعد ايام وصلت من انطلياس لاستلم وظيفتي في النظارة ففوجئت بين الموقوفين الجدد بالشيخ بيار الجميل مضمد اليد. صرخت به: "شيخ بيار، لم انت هنا"؟ قال: "من انت؟" قلت: "انا ابن حنا عاصي من انطلياس". فقال: "أبو عاصي! عرفته. الله يرحمه. قل لرئيسك الليوتنان بوتيون ان يطلق سراحنا والا سيواجه مشكلة كبيرة". وقبل ان اخرج الى بوتيون قمت بجولة في الزنزانات الباقية فوجدت في احداها الياس ربابي وفي اخرى فؤاد صوايا وكان محافظ الجنوب. وفهمت ان معركة حصلت بين الفرنسيين والشيخ بيار واعوانه. وبقي الشيخ بيار طويلاً بعد ذلك يذكر في جلساته الخاصة انه كان "محبوساً في قاووش منصور الرحباني". من مرحلة الامن العام الفرنسي ايضاً ان الضباط كانوا يعطونني "شيفرة" الحلفاء السرية كي احرقها واتلف ما فيها، فكنت اخبئها في جيبي، واذهب في السهرات عند الصبايا اطلعهن على كل ما فيها واشرح رموزها واسرارها. ومن اجل تلك السهرات عند الصبايا استحصلت على تقرير طبي يزعم انني لا استطيع انتعال الجزمة العسكرية، وذلك كي ابقى بحذائي العادي الانيق مستعداً للهرب الى السهرات والحفلات الموسيقية التي اعزف فيها. على اي حال كنت دائماً على جدل دائم مع الفرنسيين. ولو ضد مصلحتي، فقد كنت ارفض احتلالهم ولو تحت ستار الانتداب. بعد ذلك نقلت الى كركول مخفر الجميزة. والتقيت بأحد المسنين في الحي، حين تعرف اليّ بصفتي الپ"افندي الجديد" في المخفر قال مدهوشاً: "انت ابن حنا عاصي؟ من هنا ابوك اقفل كركول الجميزة بالمسدس. ظل يطلق النار على الدرك فيه حتى هربوا وفرغ الكركول". في تلك الفترة جرت حادثة زحف بعض المواطنين الى البرلمان لاستبدال العلم اللبناني بالعلم الفرنسي يوم اطلق النائب نعيم مغبغب النار على من كان يستبدل العلم فأرداه. ووسط تلك المظاهرة الصاخبة التي كان مطلوباً منا ان نتصدى لها، فوجئت بوالدي بين المتظاهرين جاء لهيفاً يسأل عني من خوفه ان تتطور المظاهرة الى معركة بالرصاص وانا بين الجمع. عانقني يومها دامع العينين من الحنان. وفي فترة كركول الجميزة، حدث ان تفشى داء السحايا الدماغية الذي كان يفرض الحجر على المرضى. عينوني ان احجر على بيت عند البحر فلم امتثل لخوفي من الليل والبحر وبقيت في المخفر. وحدث ان جاء مفتش فنمت في سرير زميل لي بشارة عساف وادعيت انني هو وان منصور الرحباني ذهب لتنفيذ الحجر على البحر فانقضت الحيلة. وذات ليلة، في المخفر نفسه، كان المفروض ان اكون في نوبة حراسة طوال الليل، فهربت من خلف سور الحديقة وذهبت الى سينما روكسي حيث جاءت فرقة سمفونية تعزف حفلة واحدة في بيروت. لدى عودتي فوجئت بالمعاون والمفوض ساهرين ينتظرانني. لكن الامر انقضى على خير، لأنهما كانا صديقين لي ويعرفان ولعي بالموسيقى. وذات فترة عينوني مراقباً مطاحن بيروت كي لا يمزج الطحانون القمح الجديد بقمح قديم او يخلطوه بالماء فيزيد وزنه. كنت اصل الى مطحنة بامبوكجيان ويكون الطحان هيأ لي فراشاً وثيراً فأنام عليه فيما التزوير مشتغل ولا اعود اكمل الى الباقيتين: مطحنة بقاليان ومطحنة البراج. وحين اصبحت مسؤولاً عن القلم العدلي وتوزيع الاحكام للتنفيذ كان رئيسي علي علاء الدين، عم الفنان شوشو فيما بعد حدث ان دشن الرئيس بشارة الخوري قصر اليونيسكو، وكان الشيوعيون ضد المشروع وتظاهروا فتم اعتقالهم وجيء بهم الى القلم العدلي. وحين كانوا مجتمعين حولي وانا على الباب، اخذت ادندن لحناً جاءني فجأة فاعتقد الموقوفون في الزاوية البعيدة اني ادندن النشيد الشيوعي. وما هي حتى بدأ واحد فآخر يغنون معتقدين ان رفاقهم عند الباب يعطونهم اشارة بنشيد الشيوعيين: "وطني يا مطلع الجمال/ وطني يا مسرح الاباة/ وطني بالضيم لا نبالي/ شأننا ان نسحق الطغاة" كلمات قبلان مكرزل ولحن روسي قديم. وركض المفتشون وهرع رئيس الدائرة صارخاً بهم: "شو جايبينلي ستالين على الدايرة؟ اخرسوا". وامر الشرطة فانهالوا عليهم بالضرب وكان كل ذلك بسببي. هكذا كنت افشل "افندي" في الجمهورية اللبنانية. وبقيت آثار هذه المرحلة في اعمالنا خلال شخصيات الشاويش والكركون والبوليس والمخفر، مما عادت فحفلت به مسرحياتنا وحواراتنا الغنائية. على ان ما كان يلون تلك الفترة في "سلك الوظيفة": انهماكنا بالاعمال الفنية في نادي انطلياس. في خريف 1943 قررنا مع بعض شباب الضيعة انشاء ناد ثقافي رياضي، من نشاطاته تنظيم الحفلات والمحاضرات والنشاطات الرياضية، كان رئيسه ميشال خطار ابو جودة عم زوجتي تريز في ما بعد، وهو غير الصحافي المعروف. وفيما نائب الرئيس يتبدل من شخص الى آخر، كان امين السر دائماً عاصي وكنت انا رئيس اللجنة الرياضية. نواة الاسلوب الرحباني بدأنا نشاطاتنا بإحياء المواسم الاجتماعية والدينية مثل عيد البربارة وحفلات اللعازر، وبات اهل انطلياس مهتمين بالنادي وينتظرون نشاطاتنا لما جاءت به من جديد. كنا ندعوهم الى حفلات نغني فيها مع فريق من شباب الضيعة، كنا نعزف البزق والكمان، وكان عزفنا بدائياً. انما في تلك الحفلات بالذات نشأت نواة ما سيكون اسلوب الاخوين رحباني في ما بعد. بدأ اتجاهنا الى الاغنية القصيرة التي لا تتعدى الدقائق الثلاث. كان عندنا هذا الميل منذ البدء لما كنا ننزعج معه من طول اغنيات ذلك الزمان بمواضيعها ونواحها وتطويلاتها وتكراراتها. كنا نشعر، ربما بشكل لا واعٍ عندها، ان كهربة الجمال وحدة مجمعة مكثفة ولا يجوز التفريط بها كي لا تضيع. هكذا حين تفتح قارورة عطر، تهب اليك شمة العطر لحظة ثم تمضي، وكذلك عبير الوردة يفوح لحظة سريعة ويمضي وكلما اطلت افسدت عليك شم العبير. اردنا ان نقطف كمية الجمال المكثفة، فاختصرناها في اغنية قصيرة ذات تأثير، من دون شرح وتطويل. تماماً كما في الفاكهة: كمية السكر في الشجرة هي نفسها، فاذا تركت شجرة الدراق من دون ري، تثمر اقل لكنها تحوي كل كمية السكر بينما اذا رويتها كثيراً واضفت عليها اسمدة ومواد كيماوية تثمر اكثر وتتوزع كمية السكر فيها على هذا الاكثر فتصبح الحبة اقل سكراً واضعف مذاقاً. تنبهنا، عاصي وأنا، منذ المطالع الى هذا الامر، واعتمدنا وحدة الاغنية القصيرة واللغة القاسية واللحن المغاير. في اعمال النادي تلك الفترة اطلعنا سلسلة اغان قصيرة سيكون لها من ساحة انطلياس ان تغزو مصر والشرق العربي في ما بعد، وتفتح فيه موجة جديدة تؤثر به شعرياً وموسيقياً. كان ذلك في زمن رتيب الايقاع مطمئنة، وجئنا نحن بمواكبة نسمات عبيقة بعبير زهر الليمون في انطلياس، فشعرنا، عاصي وأنا، بأن صراخاً جديدا يجب ان يهدم الانماط السائدة، فكانت بداياتنا، منذ نادي انطلياس، ذات عطاء مغاير لكل ما هو مألوف. ومنذ محاولاتنا التأليفية الاولى تلك، كانت عيوننا تتجه الى المسرح، ولم ندر ابداً لماذا اتجهت عيوننا الى هذا الفن المعقد. جئنا من مخزون طفولتنا الممتلئة اخبار ابطال وفرسان سكنوا الذاكرة الشعبية وحكايات السهر، سمعنا معظمها من جدتي التي حملت لنا اقاليم الوطن وما فيها من مخزون تراث وعادات فولكلورية. وقد لحّنا في ما بعد قصائد ومواويل كثيرة لا نعرف حتى اليوم من كتبها، وكنا سمعناها من حكايات جدتنا. ومنها: حلو الپورد ع العين ت يملّي أسمر كحيل العين ملّى وراح شدّ العزيمة قال: شرّفنا قلتلو: منروح... بالأفراح في هذه الحقبة بالذات بدأنا مرحلة يمكن اعتبارها نواة ما سيكون في ما بعد المسرحية الغنائية. ففي النادي كنا نقدم حفلاتنا اعمالاً نكتبها ونلحنها ونمثل فيها ونغني. كانت لوحات يبلغ طولها عشرين دقيقة، ذات موضوع واحد وحوارات غنائية اغنيات قصيرة عدة، في قصة واحدة كاملة المعالجة الدرامية. من تلك الاعمال: "عذارى الغدير"، "عرس في ضوء القمر" قصة كاملة من 20 دقيقة عن خطف عروس، "تاجر حرب" لوحة واحدة من 15 دقيقة. ومن الاغنيات التي شاعت لاحقاً: "سلمى"، "نحنا دجاجات الحب"، "عدنا رأيناها/في يوم أشواق/تقول عيناها/إن الهوى باق/ما كان احلاها/عدنا رأيناها"، "طلي من الطاقة ان كنتي مشتاقة"، "مشّي معي نلاقي القمر"، وسواها من اعمال انتقلت معنا الى الحفلات الجوالة فمرحلة الاذاعة وتم تسجيلها على اسطوانات وراجت، وبعضها لا يزال رائجاً حتى اليوم، ويعود في جذوره الأولى الى مطالعنا في نادي انطلياس، التي يمكن اعتبارها بذرة الظاهرة الرحبانية اغنية ومسرحاً ولحناً وكلام اغنية، حملت نواة اعمال غنائية وموسيقية ستعم العالم العربي والغربي في ما بعد. كنا نستعين للغناء بشقيقتنا سلوى، ومرة جئنا بصبية جديدة في خطواتها الأولى، هي التي ستصبح في ما بعد سميرة توفيق. ومرات جئنا بمطربة كانت بدأت تشتهر يومها: نهاد مشعلاني، وأحياناً كنا نستعين بشباب انطلياس وصباياها. في النادي انشأنا: "عيد الليمون" وجعلناه وطنياً برعاية رئيس الجمهورية. كنا نقدمه اياماً عدة ويتضمن معارض من كل لبنان زراعية وصناعية وفنية ومحاضرات وجعلنا فيه اذاعة محلية نبثّ منها اناشيد وأغاني وخطباً. وكنا نعطي جوائز ونتوّج اليوم الاخير فيه بعروض منها عرض الجيوش التي تعاقبت على المرور بلبنان من اول التاريخ حتى اليوم واستعراضات ومواكب تشترك فيها فرق كشاف لبنان وكشاف الجراح وفرق موسيقية. ومن اجل هذا العيد السنوي كتبنا نشيداً ولحناه، يقول مطلعه: يا اللي جايي تتفرج ع انطلياس من ليموناتا تحوَّج شي عشر كياس ذات ليلة جئنا بشخص يدعى الدكتور سعيد ليقوم بأعمال سحرية وبهلوانية وتنويم مغناطيسي، ادهشني الامر فأقنعت الرجل بعد الحفلة ان يترك اغراضه في غرفة من النادي لليوم التالي ولا خوف عليها. وبعد منتصف الليل عدت الى تلك الغرفة وفتشت كل اغراضه حتى اكتشفت السر وراء العابه السحرية التي ادهشت الجمهور في الليلة الفائتة. تكوين فرقة فنية جوالة انطلاقاً من نجاحاتنا في نادي انطلياس، قررنا تكوين فرقة فنية جوالة وأخذنا ننقل اعمالنا في نادي انطلياس مضافة اليها اعمال جديدة. ورحنا نجول بفرقتنا على القرى والدساكر المجاورة نقيم فيها الحفلات، حتى تكوّن لنا جمهور بدأ يعرفنا ويتابع اعمالنا وينتظرها بشغف. كان الناس تواقين اليها كأنما كانوا ينتظرون جديداً. ونحن منذ المطالع بدأنا مغايرين لغة شعرية وموسيقى وألحاناً. لذا شجعنا الجمهور وتكاتف معنا. وانطلقت منذ تلك الفترة "فرقة ولاد الرحباني". اخذت تتكاثر حفلاتنا في المناطق. ولم تخلُ هذه، كمسرحياتنا الأولى، من مشاكل طريفة. فمرة كنا نقدم حفلة غنائية في فالوغا وانتهى وقتنا المقرر فطلب الجمهور اسكتش "سبع ومخول وبوفارس" فرفضنا بحجة انتصاف الليل ويجب ان نعود الى انطلياس والوقت بات متأخراً. اجتمع علينا الجمهور فانهال علينا ضرباً. قدمنا شكوى فحكم لنا القاضي بثلاثمئة وخمسين ليرة وهي تساوي المبلغ الذي تقاضيناه على حفلتنا فكان ربحنا مزدوجاً ولو على حساب بعض اللكمات والعصي. وبدأنا نشتهر منذ تلك الحفلات الجوالة، ومعها حفلات "مقهى سعادة" على الدورة و"مقهى منصور" على الزيتونة ومعظم مقاهي وكازينوهات فترة النصف الثاني من الاربعينات. كنا نعزف: عاصي على الكمنجة وأنا على البزق مع انني عازف سيء. وبدأنا نأخذ معنا شقيقنا الاصغر الياس يرد في الكورس ويقوم بمونولوجات صغيرة طريفة نكتبها له منها مثلاً: "بتعرف انت يا خاي انو الداعي قبضاي" وكان ضارب ايقاع جيداً منذ طفولته. كما غنت معنا في حفلات تلك الفترة مطربتان ناشئتان يومها: نزهة يونس، و"التكتوكة" شقيقة الملحن جورج يزبك. في تلك المرحلة التقينا بعازف الكمان خليل مكنية وابن اخته عازف التشيلو توفيق الباشا والملحن الناشئ يومها زكي ناصيف. ذات ليلة كنت اعزف البزق مع انصاف منير وهي تغني "سلوا قلبي" فغفوت. لكن الجمهور لم يتنبه لأني كنت اضع نظارات سوداء لتمويه شكلي، كوني في الشرطة ولا يحق لي العمل وأنا "ابن حكومة". مرة كان "مقهى سعادة" تعاقد مع مطربة تدعى نهوند. ورغبت اليّ ان اعزف معها على الكمان في فرقتها الموسيقية فاعتذرت لأنني، وأنا في سلك الوظيفة، لا اتجاسر على المراهنة بالعزف علناً. اصرّت وعزفت ليلتها وجاء من يهمس لي وأنا على المسرح ان معاوناً في الشرطة منصور شليطا جاء ليضبطني عينياً اخالف قانون الوظيفة. تحايلت عليه بوضع الكمان امام وجهي فلا يراني لكنه استدار من الطرف الآخر للمسرح ووقعت عينه على عيني فتوعدني بيده. في اليوم التالي وصلت الى المخفر فقيل لي: "احمد بك يريد ان يراك". وكان ذاك احمد بك منيمنة رئيس الشرطة القضائية. وما ان دخلت عليه حتى انفجر بي: "يا منصور، عيب ان تكون ابن صديقي وأخي حنا عاصي وتغني على المسارح. والدك كان يطلق النار على الناس فيرعبهم وأنت اليوم تطربهم؟ انت مهمتك ان تدهم الناس وتنظم فيهم مخالفات ومحاضر ضبط وتفرض النظام، فكيف تعزف لهم وتغني كي يطربوا فيخرجوا عن النظام؟". وانقضى الامر يومها بأن تمنى عليّ، كرمى لذكرى المرحوم والدي صديقه، ألا أعود ثانية الى هذه المخالفات. بعدها بأسابيع، كنت في احد مقاهي عاليه اعزف البزق وراء راقصة تدعى كواكب. فجأة دخل المبنى احمد بك كي يجري اتصالاً هاتفياً بالشرطة لأن سيارته انقطعت في طلعة عاليه. وحين جاء من يهمس لي بأن احمد بك وصل، ظننت انه جاء يحضر الحفلة فهلعت وهرعت قافزاً عن المسرح فعلق البزق بطرف فستان الراقصة. وأخدت هي تشد وأنا اشد حتى انمزق فستانها، وأكملت هربي لا ألوي على ما حصل، حتى انقذت الموقف قبل ان يدري بي احمد بك منيمنة. وفي حادثة على الزيتونة: كانت بيروت متوترة وجميع رجال الشرطة والأمن محجوزين تصدياً لاضراب كبير يومها قام به موظفو وعمال السكك الحديدية. انتظرت حتى اول الليل وهربت الى مقهى الزيتونة وكان معنا الياس الرحباني ونهاد مشعلاني فلبست ثياباً روسية وألصقت شاربين وهميين ولبست نظارات من دون زجاج. كنت اسمع ليلتها ضباطاً من رؤسائي منطربين بالحفلة يقولون: "هذا العازف على البزق كم يشبه منصور الرحباني لولا ان منصور من دون شاربين". ليلتها بقي احد الضباط مصطفى كنفاني، المفتش في التحري وكنا معاً ايام الامن العام الفرنسي فانتظرني حتى ما بعد الحفلة، و"ضبطني" خارجاً من الكواليس من دون الشاربين والنظارات. هلعت لرؤيته، فقال: "لم انتظرك لأضبطك وأشي بك. انتظرت فقط حتى اتأكد من انك انت منصور. لن اخبر عنك، فأنا اعرف هوايتك الفنية وأعرف انك منصرف الى الفن دون الوظيفة، ومستقبلك ان تكون ابن الفن لا ابن الحكومة". هكذا كانت حياتي في الوظيفة. كنت شرطياً سيئاً ودائم الهرب. اهرب من الوظيفة الى العزف او الغناء او الحفلات او حتى كي اسهر عند الصبايا متباهياً ببزتي العسكرية. وكم كان يحدث ان اقرأ لهن قصائد اكون كتبتها على محاضر الاحكام التي كان مفروضاً ان آخذها للتنفيذ. كل ما كان يحدث في تلك الفترة لعاصي ولي: في النادي والبلدية والشرطة، بين جد وهزل وهرب ومغامرات، كان يهيئ عاصي لدخول الاحتراف الفني بتركه البلدية، وكان يهيئني للالتحاق بخطوته الاحترافية، فور دخوله الميدان الفني على اثر مصادفة فتحت امامه فرصة مهمة: الاذاعة اللبنانية. الحلقة المقبلة: شهرة واحدة وثلاث اذاعات