نشرت صحيفة الصنداي تلجراف البريطانية في عددها الصادر يوم الأحد الماضي خبراً عن عزم الحكومة البريطانية إنفاق عشرة ملايين جنيه استرليني (سبعين مليون ريال) على برنامج يهدف إلى تعليم طلاب المدارس أساسيات الذوق العام وكيفية التعامل مع الآخرين وإكسابهم جملة من المهارات التي يحتاجونها لضبط تصرفاتهم وسلوكياتهم في الأماكن العامة ومع الآخرين. وقد يبدو القرار غريباً لدى كثيرين، إذ ما علاقة الحكومة بتدريب الطلاب وتعويدهم على أساليب التعامل الحسنة وإنفاق الملايين في سبيل الوصول إلى هذه الغاية؟ لا شك أن لهذا القرار أبعاداً كثيرة منها الاجتماعي والحضاري والثقافي بالاضافة إلى البعد الاقتصادي، فلا تزال مراعاة الذوق العام عند التواصل والتعامل مع الآخرين مظهراً من مظاهر رقي الأمة وأخذها بأسباب الحضارة، ويضفي عليها نوعاً من البرستيج خاصة إذا كانت ترى أنها أمة ذات إرث حضاري وقيمي. وفي جانب آخر، فإن عدم مراعاة الذوق العام وعلاوة على كونه يدل على فساد في سلوك الشخص ولباقته ومروءته إلا أنه يتسبب في مضايقة الآخرين والتأثير سلباً على مستوى معيشتهم وقدرتهم على الاستفادة من بعض الخدمات العامة مثل الطرق وأماكن التنزه والتسوق والمطاعم، الأمر الذي يحرمهم من استهلاك مجموعة من السلع والخدمات على الرغم من رغبتهم في استهلاكها واستعدادهم لدفع ثمنها أو يحرمهم من الاستفادة من المنشآت العامة التي هي حق للجميع، أو يزيد من تكلفة الحصول على هذه السلع والخدمات. والجميع يدرك ما تتسبب فيه أنماط القيادة غير اللائقة من الإضرار بحقوق الآخرين في الاستفادة من الطرق وربما تسببت في حوادث ذات تكلفة مادية وبشرية باهظة. ولا يمكن تجاهل ما تسببه الممارسات والسلوكيات الخاطئة وعدم احترام النظام في الأسواق من إزعاج للمتسوقين وأذى نفسي ومعنوي. ولا ننسى النظرات الفضولية التي يتصف أصحابها بحب الاستطلاع الواسع فهي لا تدع أحداً واقفاً عند إشارة أو ماراً بمحل أو ذاهباً في طريقه إلا وتلتقط حركاته وسكناته. ويصعب إغفال الإزعاج الذي تتسبب فيه أجهزة الجوال عندما ترن بأعلى صوتها أو تصدح بمعزوفات موسيقية في المحاضرات والندوات العامة وحتى في المساجد، وكأن أصحابها مصرون على إجبار الآخرين على الاستماع لاختياراتهم الفنية وفرض أذواقهم السيئة عليهم. وكثيراً ما ناقش الاقتصاديون واقترحوا تدابير وقائية وأساليب علاجية لتحييد ما أسموه بالآثار الخارجية السالبة للممارسات الشخصية التي تنشأ عنها سلبيات تتعدى آثارها وضررها إلى الآخرين وتبدأ من سن الأنظمة والقوانين وتصل إلى حد العقوبات المالية والجسدية لكن الاستثمار في تثقيف الناس وتوعيتهم بأهمية مراعاة أسس الذوق العام يأتي ابتكاراً جديداً في هذا المجال. ولعل ما دعا إلى ذلك هو أن خرق هذه الأسس والقفز عليها لم يعد سلوكاً فردياً بل فشى حتى وصل حد الظاهرة، وبدلاً من الاستمرار في الأساليب التقليدية جاء الابتكار الجديد مصدقاً للمثل القائل: (العلم في الصغر كالنقش في الحجر). ولئن وعي الإنجليز هذه المقالة، فلقد جهلوا القاعدة الذهبية (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) التي لا يوجد في أمثال الأمم الأخرى ما يشبهها، وفقاً لرأي الإمام الشعبي. على أن هذا لا يعني عدم حاجة مجتمعاتنا إلى التفكير في مثل هذا النوع من الاستثمار، الذي سيكون أكثر فائدةً كلما أخذ به في وقت مبكر قبل استفحال المشكلة.