زاهر.. أديب الحي القديم.. يخرج كل مساء من داره ليقف على (جسر الرصافة) بعد أن يجتاز بدكاكين وساحات السوق القديم.. وهناك يرى محبوبته وهي تمر غير ملتفتة إلى شيء.. وكأنها بعض غزلان الروض النافرة.. محبوبته التي عشق لأجلها بغداد: صدفت ظبية الرصافة عنا وهي أشهى من كل ما يتمنى هجرتنا فما إليها سبيل غير أن نقول كانت وكنا عاد إلى الدار.. وفي هدأة الليل كان الحبر قد نفد بينما كان يكتب عن مشاهداته على الجسر.. بحث في المحبرة عن بقية حبر لكنه لم يعثر على شيء.. كما أن وقود السراج قد نفد هو الآخر..! الليل باسط رواقه والريح ترتطم بالنافذة.. وأوائل برد الشتاء تتخلل إلى الدار من الشقوق.. هم بالخروج ليحضر الحبر من دكانة أبي ريحان لكنه تذكر أنه الآن يغط في نوم عميق..! إن أبا ريحان هو الآخر جزء من اهتمامات زاهر.. يكتب عنه في أوراقه دون أن يخبره. كتب ذات مرة أنه مر به في دكانة فوجده في سنة.. مطبقا جفنيه.. وأنه وضع المثاقيل في كفة الميزان ووزن حب البر.. ثم مضى بعد أن وضع النقود إلى جواره..! خرج إلى باحة الدار وراح يفتش في السماء.. ففي الليل يعثر هناك على ما افتقده بالنهار.. لكنه لم ير القمر والنجوم هي الأخرى.. تساءل لم اختفت من السماء ولم نفد الحبر وزيت السراج لم نفد.. لقد أعفى الجميع في أحضان بغداد وراح ينشد الراحة بعد كلال..! أراد أن يبصر ما حوله.. أن يخاطبه.. يستوحي منه لروايته القادمة إذ لا زالت قطعة كبيرة من الليل باقية والنوم قد جفاه.. راح يتحسس عقبيه في الظلام.. أحس أن هناك بقية ألم عرضت له بالنهار.. وقعت يده على سائل جف على عقبيه.. تذكر أنه مر بسوق الحطابين فارتطت قدمه بعود خطب صلد وهو يساوم أبا الليل في شرائه..! ألا ما أشد قسوة الحياة وما أشد جراح بغداد..! تنهد في عمق.. قال إنه سيكتب عن الجراح أول ما تشرق الشمس ويغادر الكادحون على صراخ الديك.. ثم وهم يعودون على صراخه أيضا مكلومي الأقدام مخدوشي الأطراف قد جفت قطرات الدم على أعقابهم.سيفعل ذلك بعد أن يمر بأبي ريحان ويتزود منه بقارورة من الحبر الأسود.. وحتى لو وجده نائما..! وبعد الحرب على بغداد.. خرج زاهر إلى الجسر.. لكنه تفاجأ بجمع كبير يتلفت هناك متحسراً تحيطه الآلة العسكرية الثقيلة ومن كل نوع.. أخذ يبحث عن محبوبته كما يفعل الآخرون عن ذويهم.. وكانت نار الحرب قد أتت على كل شيء..!