عانق ضوء شمس الضحى زجاج نافذتي، وصارت أغصان شجرة السدر تتمايل وتهتز، تداعبها خيوط الشمس الذهبية، وواكبت أشعتها أهازيج الطير فشعرت بالسعادة والدفء، ثم نفذ شعاع من عيني وتسلل من النافذة إلى حديقة المنزل، فإذا بامرأة عجوز قد خط الزمن في وجهها الأخاديد، وبدا عليها الكِبَر جليا، وقد كنت أراها تتردد على بيوت جاراتي.. دقت جرس الباب.. فظننتها سائلة فقيرة.. فتحت لها الباب فقالت بصوت متقطع منهك: هل لي بكأس ماء يا ابنتي؟. أجبتها: بالطبع. أبقيتها واقفة بالباب وسارعت لإحضار الماء.. وما ان رجعت حتى وجدتها جالسة ومتكئة. سقيتها الماء ثم رحبت بها واختلطت معي مشاعر الخوف والريبة مع الشفقة والرغبة في الإحسان.. سألتني مترددة: هل أفتح لك الفنجان يا ابنتي؟. ها.. ولكن!!. أطبقت يديها بما يفيد التريث وقالت: أريد فنجان قهوة. أحضرت القهوة.. وقدمتها.. بيدين ترتجفان.. فرفضتها العجوز وقالت: اسمعي يا فلانة.. ولكن.. كيف عرفتني؟. أعرفك واعرف اسم زوجك يا ابنتي. يا إلهي.. كيف ذلك؟. لا تسأليني. هل تريدين معرفة ما يفعله زوجك؟. زوجي!! وماذا يفعل؟. قلبت الفنجان رأسا على عقب، ثم قالت انظري.. ألا ترينه؟. لم أرَ سوى بقايا القهوة. ثم قالت: احذري منه.. ثم همت بالخروج دون أن تفصح لي عن شيء. يا إلهي.. يا امرأة ما بال زوجي؟. قولي شيئا.. انطلقت مسرعة نحو الباب. التقطت استاري لأضعها على جسدي وأخرج وراءها.. بحثت عنها فلم أجدها.. نظرت من وراء ستارة النافذة.. بحثت عن خطواتها.. عن خيالها.. أو أي أثر منها.. لم أجدها. يا إلهي.. أين اختفت تلك العجوز؟. وكلماتها تتوغل في داخلي.. وتحرق جسدي!!. حتى انقلب الأفق أمامي سوادا.. وتسارعت نبضات قلبي، وأخذ يعض اللحم والدم والعظم، وانتفض جسدي هلعا.. وسرت في قلبي رعشة مبهمة.. أفّ لهذه العجوز.. كيف ألقت بكلماتها تلك وذهبت دون أن تعبأ بي.. حتى أخذت الأشياء تتحول إلى عقدة مستحكمة يصعب التخلص منها، وأخذتُ أقف عند مفارق الأحداث والمواقف لأحولها كلها ضد زوجي، الذي كلما زاد غيابه زاد انصهاري في تلك البوتقة المحمومة من الشك والريبة. ثم اتصل زوجي.. آه يا عزيزتي.. تأخرت عليك.. أليس كذلك؟ انتابني إحساس عجيب هزّ كياني من الداخل ورددت مسرعة: نعم وأين أنت؟ كنت أحضر لك مفاجأة. ها؟ ولكن ماذا أفعل؟. أرجوك ارتدي أجمل ما عندك وسآتي على الفور لاصطحابك لنقضي سهرتنا خارج المنزل. حسنا. أخذت أقاوم عبث الأفكار الجنونية التي تكدست في رأسي كما تتكدس أوراق شجر هاوية.. ثم سرت في قلبي رعشة مبهمة وبدا المشهد أمامي غائما وضبابيا، ونهرتُ أفكاري المسمومة ونزعتها من رأسي انتزاعا، ثم أمسكت بمرآتي أراقب وجهي وقد ارتسم عليه الندم، وأخذت أسارير وجهي تنفرج شيئا فشيئا، وكان وقع كلمات زوجي الرقيقة ألذّ من الماء القراح على القلب، وشعرت بدماء جديدة تسري في عروقي.. وأقبلت لأغتنم نداء القلب، فالسعادة إذا لم أغتنمها فستصمت يوما.. ثم ركضت إلى خزانتي لألبس أحلى ما أقتنيه من مجوهرات لتكتمل جمال تلك الليلة.. ولكن أين صندوق المجوهرات، تركته هنا، أنا متأكدة، أين هو؟! يا إلهي.. هل دخل أحد غريب عليّ اليوم!!.