نظمت جامعة الأمير نايف العربية للعلوم الأمنية ندوة بعنوان: (تأثير المخدرات على التماسك الاجتماعي) شارك فيها عدد من المتخصصين في الوطن العربي وكان لي شرف المشاركة في أحد المحاور التي تضمنتها. وباستعراض ما تم طرحه من دراسات وأبحاث وتقارير تقدم بها الوفود المشاركة، استأثر انتباهي التقرير المقدم من الوفد اللبناني عن تأثير المخدرات على التماسك الاجتماعي بالجمهورية اللبنانية، وذلك على الرغم من سهام النقد التي وجهتها أغلب الدراسات التي قدمت في الندوة - مدعمة بالأرقام والاحصائيات التي تجعل لبنان في مقدمة الدول في زراعة المخدرات. فمع هذه الانتقادات الموجهة من الندوة والتي ساهم في بروزها عدم تحديث المعلومات عن الجهود اللبنانية تجاه هذه القضية فإن التجربة اللبنانية تفسح المجال أمام توجه إيجابي حقيقي لمعالجة ظاهرة المخدرات، ويمكن رصد أهم مظاهر هذا التوجه في الآتي: أولاً: استجابة لبنان للمعطيات العالمية: لقد استجابت القوانين اللبنانية للمعطيات العالمية لمكافحة المخدرات وعقدت العديد من الاتفاقيات الدولية التي شارك لبنان في التوقيع عليها ومنها: * الاتفاقية المعقودة في نيويورك عام 1961م بشأن المخدرات تحت إشراف الأممالمتحدة فقد وقعها لبنان بموجب القانون رقم 60 تاريخ 1964م، ومن ميزاتها أنها حددت الأفعال التي يجب معاقبتها في التشريع الوطني. * الاتفاقية المعقودة حول المؤثرات العقلية لعام 1971م وقد أبرمها لبنان متأخراً بسبب الحرب التي عصفت به وذلك بموجب القانون رقم 291 وتاريخ 1994م. * برتوكول عام 1972م المعدل للاتفاقية الوحيدة للمخدرات لعام 1961م وقد أقرها لبنان متأخراً عام 1995م. * الاتجار غير المشروع بالمخدرات، اتفاقية عام 1988م كذلك أقرت عام 1995م. وقد تضمنت هذه الاتفاقيات المواصفات العالمية لتصنيف المخدرات بجداول تفصيلية ألحقت بالقوانين اللبنانية. ثانياً: التشريع اللبناني الحالي: إن قانون مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية المعمول به حالياً هو القانون رقم 673 تاريخ 16-3-1998م المعدل بالقانون رقم 193 تاريخ 24-5-2001م يدور حول معالجة المدمن، فقد نصت المادة 182 منه على تدابير العلاج والوقاية بقولها: يشمل العلاج الكامل من التعاطي والإدمان على المخدرات المراحل الثلاث الآتية: 1 - مرحلة إزالة التسمم الإدماني والارتهان الجسماني لعادة التعاطي وتتم في مصحات متخصصة معتمدة في وزارة الصحة العامة وتخضع لنظام المستشفيات ويكون المرضى فيها تحت حراسة القوى العامة. 2 - مرحلة العلاج والتخلص من الارتهان النفسي لعادة التعاطي وتتم في مصحات نفسية متخصصة معتمدة في وزارة الصحة العامة وتخضع لنظام المستشفيات ويكون المرضى فيها تحت حراسة القوى العامة. 3 - مرحلة تكميلية ترمي إلى مساعدة المدمن على العودة إلى الحياة الطبيعية وإعادة تأهيله للاندماج في المجتمع وتتم في مؤسسات رعاية أو لدى أشخاص طبيعيين معتمدين من وزارة الشؤون الاجتماعية. من هنا كان نص هذه المادة نصاً تغييرياً هاماً لاعتبار المتعاطي أو المدمن مريضاً وليس مجرماً، ينبغي علاجه لا سوقه إلى السجن. ثالثاً: الواقع الحالي: مما لاشك فيه أن حرباً طالت لبنان خمسة عشر عاماً من 1975م حتى 1990م أنتجت تربة صالحة لزراعة المخدرات وتصنيعها والاتجار بها، ومن البديهي أنه لا توجد مقولة تسمى (فلتان أمني)، لكن توجد المقولة المسماة (ضعف السلطة). فضعف السلطة يؤدي إلى الفلتان الأمني، وكيف أدى اضمحلال السلطة إلى إدراج اسم لبنان ضمن الدول الخطرة في مجال المخدرات. ولكن ما إن استردت الدولة سلطتها حتى وفر استخدام القوى المسلحة -الذي ترافق مع قانونية الرقابة الدائمة وتوافر الإرادة السياسية الصادقة لدى المسؤولين والتعاون الوثيق مع فرع الأمن والاستطلاع في قيادة القوات العربية السورية الشقيقة العاملة في لبنان- مناخاً مغايراً، أعطى ثماره بوضوح، بعد انقشاع الحرب القذرة وعواصفها حيث كانت مساحة الأرض المزروعة بحشيشة الكيف عام 1985م مثلاً (20) ألف هكتار بإنتاج (720) طناً انخفض عام 1996م إلى (2950) هكتاراً أتلف إنتاجه بالكامل. وزرع في العام 1985م مائتا هكتار بنبات الخشخاش أنتج (332) كلغ. انخفض في العام 1996م إلى دنم ونصف أتلف جميعه، كما ضبط (73) كلغ من الهيروين في العام 1985م بينما ضبط من هذه المادة 18 كلغ فقط عام 1992م. رابعاً: الوعود الدولية والزراعات المستترة: وبانتظار الوعود الدولية بالزراعات البديلة والمساعدات التعويضية، وإزاء هذه التحولات الهامة في المجالات المذكورة اعتبر مكتب مكافحة المخدرات والوقاية من الجريمة التابع للأمم المتحدة في فيينا أن لبنان لم يعد مركزاً خطيراً لزراعة وتجارة المخدرات وتعاطيها كما لم يكن الوضع عليه عشية نهاية الحرب عام 1990م. هذا الأمل بالوعود البديلة والمساعدات سرعان ما تبدد لأن الوعود بقيت وعوداً وعادت الزراعات المستترة إلى العلن وبكثرة في السنوات 2001 - 2002م حيث قامت أجهزة وزارة الداخلية بعملية تلف جريئة أثمرت بالقضاء على كافة النباتات المزروعة بالحشيشة (112) مليون متر و(8.5) مليون متر من الخشخاش. وانكفأت الزراعات الممنوعة إلى أنه يمكننا القول في العام 2004م بأنه لا توجد أية زراعات، واقتصر الأمر على بعض الدنمات في أماكن جردية بعيدة جرى إتلافها. ونورد في هذه الإحصائية التي أعدها مكتب المخدرات المركزي في قيادة الشرطة القضائية، نتائج الضبط وعدد الموقوفين في السنوات الثلاث المنصرمة وأوائل العام الحالي: أوقف في العام 2001م (646) تاجراً، وفي عام 2002م (1021) تاجراً، وفي عام 2003م (919) تاجراً، وحتى 30-4-2004م (400) تاجر. وبجرم التعاطي أوقف عام 2001م (952) متعاطياً، وفي عام 2002م (1165) متعاطياً، وفي عام 2003م (1328) متعاطياً، وحتى 30-4-2004م (465) متعاطياً. وبإحصائية أكثر تخصصية فقد أوقف من المروجين بين طلاب لبنان في العام 2001م عشرون طالباً، وفي العام 2002 اربعة عشر طالباً، وفي العام 2003 سبعة عشر طالباً، وحتى 30-4-2004م سبعة عشر طالباً. وبلغ عدد الموقوفين بجرم التعاطي بين الطلاب في عام 2001م (62) طالباً، وفي العام 2002م (87) طالباً، وفي العام 2003م (106) طلاب، وخلال الأشهر الخمسة الأول من العام 2004م (52) طالباً. وبالإشارة إلى الضبطيات فإن أعلى نسبة مصادرة مواد مخدرة بلغت عام 2002م هو العام الذي أشرنا إلى احصائيات تلف النباتات فيه كانت (28) طناً من الحشيشة، و(762) كلغ من الأفيون، و(1958) كلغ من الهيروين، و(4.8) كلغ من الكوكايين. كما رافق عمليات التلف وتوقيف التجار والمروجين والمتعاطين إقامة ورعاية عشرات الندوات والمحاضرات للتوعية من أخطار المخدرات كان أبرزها (المؤتمر العالمي لمكافحة المخدرات)، الذي عقد في العام 2002م بالتعاون مع المكتب الإقليمي للأمم المتحدة لمكافحة المخدرات، ومنع الجريمة في الشرق الأوسط وشمال إفريقية، وتمت إحدى المحاضرات بعنوان (دور المرأة في مكافحة المخدرات)، بالتعاون مع المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وجامعة نايف للعلوم الأمنية. كما درجت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي على تنظيم محاضرات في كافة مدارس لبنان الرسمية أو الخاصة يلقيها ضباط من هذه القوى على طلاب المدارس للتوعية من خطر هذه الآفة. وتقوم حالياً المؤسسات المدنية ومنها على سبيل المثال مؤسسة (جاو)، و(جمعية أم النور لتأهيل المدنيين والوقاية) بدور تأهيلي لإعادة استيعاب المدمن في هذا المجتمع. كما أتاحت إدارة السجون للمرشدين الدينيين بإلقاء محاضرات على كافة السجناء ولا سيما منهم الموقوفين والمحكومين بقضايا مخدرات للتوعية من هذه الآفة. خامساً: لبنان والطريق القويم: رجال الأمن همهم انفاذ القانون، ويبذلون بمشيئة الله جهداً مضنياً ومثمراً، وما الإحصائيات التي أوردناها إلا دليلاً على ثمار هذه الجهود، وقد يفاجأ القارئ من جهة أن عدد رجال مكافحة المخدرات في لبنان لا يتجاوز المائة ضابط وعنصر، تنقصهم التجهيزات والعتاد والوسائل والمختبرات، أما من جهة تطبيق القانون الذي تم الإشارة إليه والمفترض أنه معمول به حالياً لجهة المراحل الثلاث للعلاج فهذا ما زال كتابة دون تطبيق وما زالت رحلة الإهانة للمتعاطي مستمرة، إذ يكفي أن يتصل أحدهم بمكتب النائب العام أو أحد مساعديه ليعلمه بوجود مشبوه بتعاطي المخدرات ليصدر الأمر بتوقيفه، حيث ينقل، حتى ولو لم يكن هناك أي جرم مشهود أو مادة مصادرة، بل مجرد ورود اسم مشابه، ويتخذ بحقه مذكرة توقيف بعد إحالته إلى التحقيق ثم إلى المحاكمة، وحتى الحكم ربما قد يصدر بالبراءة أحياناً بعد فترة تفوق السنة، والمتهم مشارك في زنزانته لباقي المجرمين. إن تطبيق القانون الحديث يضع حداً لهذه الممارسات في حال أنشئت الأجهزة المتممة والمنفذة وأخذت حيز التطبيق وهي: 1- المجلس الوطني لمكافحة المخدرات. 2 - المديرية المركزية لمكافحة المخدرات. والمنوط بهما وضع استراتيجية وطنية للمكافحة، وهيئة على مستوى مديرية للتنفيذ، وما لم تتضافر جهود المجتمع المدني بكافة فئاته وإمكانياته فإن البنيان الاجتماعي سوف يتعرض للتصدع وتفكك الروابط الأسرية وتتدنى قدرة الإنسان على العمل والإنتاج، ويتزايد عجز الشباب عن مواجهة الواقع والارتباط بمتطلباته وتتفاقم المشكلات الاجتماعية، وتكثر الحوادث والجرائم من اغتصاب وقتل وسرقة في سبيل الحصول على الجرعة لدى المدمن وقد تقوده هذه الرغبة الجامحة (بالتجارية) بأولاده بحيث يفضل شراء المخدرات على الطعام والكساء والالتزام بمتطلبات الحياة الأسرية، بل قد يرمي بأولاده في أحضان الرذيلة والفساد. خاتمة: واقع لبناني صعب، لاسيما في المناطق النائية التي زرع فيها النبات المخدر، لن تشبعه المقررات، فمن استساغ طعم الثروة بنتيجة الزراعات الممنوعة ولم تقدم له الدولة بدائل ومساعدات تعويضية، مع فشل برنامج الأممالمتحدة للزراعات البديلة، فهو ينتظر الفرصة لإعادة الزرع. وبالتالي فإن نظرة صادقة ولفتة كريمة من الهيئات المختصة في جامعة الدول العربية والأممالمتحدة، لإعادة تنفيذ البرامج المجدية لإنقاذ هذا المزارع تضع لبنان على الطريق القويم. فأضم صوتي مع الوفد المشارك بأن تنظر الهيئات المعنية في جامعة الدول العربية لإعادة تنفيذ برامج فاعلة لأن لبنان كما نعرف عن طريق الكثير من نتائج الدراسات مصدر وممر للمخدرات، فالرغبة قائمة عند الجميع في حماية أبنائه وأبناء الأمة العربية، والمهتم بشؤون لبنان في داخلها وخارجها على ثقة بنوايا التوجه اللبناني نحو سلامة المجتمع العربي حتى لا يفقد تماسكه الاجتماعي.