عند التأمل في تاريخه النضالي الطويل، يبدو ياسر عرفات رجلا فريدا في عالم العرب السياسي الراهن، عالم الحقبة التالية لهزيمة حزيران 1967، التي كسرت مشروع النهضة العربية في موقعيه المصري والسوري المهمين، وأدت إلى احتلال فلسطين وسيناء والجولان. ومن يراقب ردود أفعال الدولتين المصرية والسورية وفلسطين على الهزيمة المذلة، يضع يده على ما ساد الفترة التالية للهزيمة من سياسات تجلت في قيام فلسطين بحرب مقاومة شعبية ضد العدو، و مصر عبد الناصر بحرب استنزاف أعقبت وصول العدو إلى قناة السويس مباشرة، وقيام سوريا البعث بتغييرات داخلية أحكمت قبضة العسكر على السلطة، التي تبنت سياسة مرتفعة الصوت قليلة الأفعال، انتهت بعد فشل حرب تشرين على الجبهة السورية إلى بقاء أراضي سورية المحتلة في قبضة العدو، علما بأن مرور الوقت قلص قدرة السياسة السورية على الانتقال من الأقوال إلى الأفعال التحريرية. بدأ الفلسطينيون مقاومتهم في فراغ القوة العربي الذي أنجبته الهزيمة، بعد أن يئسوا من الجيوش والنظم العربية ووعودها. وقد تطورت المقاومة بسرعة جعلت ياسر عرفات، قائد فتح المجهول في العالم العربي، يتحول إلى رمز لسياسة أخرى، تقوم على التصدي والثبات والتضحية، تؤكد طريقته قدرة العرب على مقارعة العدو، مهما تفوق، وتثبت أن تاريخا جديدا يبدأ في فلسطين، صاحبة التاريخ المليء بالانتفاضات الشعبية والثورات، التي سرعان ما تعرفت إلى نفسها في المقاومة، وإلى زعيمها في عرفات، واستعادت صلتها مع وطنها، خاصة بعد أن عمت المقاومة الخارج والداخل الفلسطيني في آن معا، وتواصلت بوتيرة متصاعدة على وجه الإجمال لفترة تقارب الأربعين عاما، رغم أنها مرت بمراحل مد وجزر، وتقدم وتراجع، وخاضت معارك شرسة ضد العدو الصهيوني ومعارك أشد شراسة فرضها عليها (عمقها القومي)، لكنها لم تتوقف أو تتراجع أو تبدل هدفها الاستراتيجي، ولم تسمح لأحد بانتزاع بندقيتها أو بتحويلها إلى ورقة تفاوضية في يده، وعرفت دوما كيف تفيد إلى أقصى حد ممكن من مزايا اللحظة، وكيف تتحاشى قدر الإمكان سلبياتها، رغم أنها لم تكن في أرضها الوطنية الخاصة، كما لم تكن أقوى أطراف الصراع، وخاضت في بعض الأوقات معارك على جبهتين، وقاتلت وفاوضت وناورت وكيفت نفسها مع ظروف غير ملائمة، بل وانتقلت من بلد إلى بلد ومن قارة إلى قارة . هذا الثبات كان ممكنا بفضل رجال قادوا نضال فلسطين الوطني في المنعطفات وعبر عقبات ومصاعب كثيرة على رأسهم ياسر عرفات، عرفوا دوما كيف يطرحون خطا نضاليا يوحد شعبهم ويعكس مقاومته على عدوه، وفهموا كيف يوجهون بقيادة (الختيار) سفينته وسط العواصف والأنواء، وكيف يبدعون أساليب ووسائل أسست روحا توافقية وسلمية داخل الصف الفلسطيني، رغم ما ساده من اختراقات عربية مؤذية ومربكة وتعددية تنظيمية، وروحا نضالية وقتالية ضد العدو الإسرائيلي، خاصة بعد أن وحدت شعبها وكرست منظمة التحرير ممثلا وحيدا وحكومة شرعية له، مع أنها عملت وناضلت معظم الوقت خارج أرض الوطن، دون أن يجعل غيابها منها سلطة برانية، أو يمنع المواطن الفلسطيني من الارتباط الطوعي بها، ويحول بينه وبين تنفيذ سياساتها وأوامرها، أينما كان موقعه في العالم، ومهما كان عمله وعلمه ووضعه الاجتماعي وجنسيته. هكذا تواصل نضال فلسطين في ظروف جعلت ما وتسي تونج، أبو الثورة الصينية وحرب الشعب، يرى خلال أول لقاء له مع وفد فلسطيني عام 1968 إن الثورة ستكون مستحيلة بسبب افتقارها إلى عمق عربي، وكذلك بسبب تفوق العدو المحلي والدولي الذي تواجهه، فلا داعي لأن يسبح شعب فلسطين وقيادته ضد تيار يبدو عصيا على التحدي، وقويا إلى درجة حسم معها موضوع فلسطين بصورة نهائية، خاصة بعد أن وضع يده عليها كلها، وحقق حلم الصهيونية في تحويلها إلى دولة يهودية، وبعد أن بدا عربيا ودوليا أن ميزان القوى القائم بين الكيان الغاصب وبينها لا يسمح بإعادة فتح معركة جدية ضد العدو، الذي هزم الجيوش العربية مرات عديدة خلال أعوام قليلة. أسس ياسر عرفات ورفاقه، الذين استشهد معظمهم في المعركة، منظمة فتح، وأسس آخرون منظمات أخرى، وحد جهدها الهدف الاستراتيجي والعمل المسلح، فكان هذا صفحة جديدة في تاريخ العرب والعالم، سطر شعب فلسطين فيها بدمه رفضه الهزيمة وأعلن أن نضاله دليل يثبت أن الصهيونية لم تنجح في إنزال هزيمة نهائية به، ولم تحقق نصرا حاسما عليه، وأنه خاض في الماضي وسيخوض اليوم وغدا معركة مفتوحة من أجل حقه في وطنه، ولو تطلب الأمر بحارا من الدم، قدمها بالفعل في الخارج والداخل، بقيادة رجل نحيل الجسم صغير القد هو ياسر عرفات، الذي كان دوما نموذجا للحنكة والذكاء، وقاتل بمفرده حين أقلع أصحاب الجيوش الجرارة عن القتال، وففرض على أميركا والعدو الاعتراف بشعبه كرقم يستحيل تجاهله، إزاحته من معادلات المنطقة والعالم ضرب من المحال. حدث هذا بعد تعهد العرب أن تكون حرب تشرين آخر حروبهم مع إسرائيل، وبعد (معاهدة السلام) المصرية مع العدو، وبعد حرب لبنان التي استهدفت، في طليعة ما استهدفته، القضاء على المقاومة الفلسطينية، وحدث بعد أن انتصرت أميركا على السوفييت، حليفته الرئيسة في العالم . هذه مآثر ياسر عرفات ورفاقه وشعبه، التي تعززت بقدرته النادرة على قراءة الظروف الإقليمية والدولية، وعلى رسم سياسات تستجيب لمصالح وطنه العليا، ألا وهي تحرير أرضها وقيام دولتها المستقلة في سياق يقوم على مرحلة تاريخية دقيقة للصراع ضد العدو. في تصور المقاومة وعرفات -من المحال الفصل بين المقاومة وبينه- يعني تحرير أرض 1967 الفلسطينية وإقامة نموذج مختلف من الدولة يضع بناؤه حجر الأساس لحقبة تالية هي منطلقها، ستشهد معركة نهائية لحسم هوية فلسطين، ستنتجها حقبة نهوض عربي قادم لا محالة. ولكن، وبما أن موازين القوى العربية والدولية القائمة لا تسمح اليوم بخوض صراع عسكري يدمج المرحلتين، فإن تحقيق المرحلة الأولى باستعادة أرض 1967 وإقامة الدولة هي مصلحة فلسطين الوطنية والقومية العليا، وهي ثمن تضحيات شعبها، الذي لا يجوز أن يخرج صفر اليدين من الحقبة الراهنة، وإلا ضاعت دماء بناته وأبنائه، علما بأن استعادة أراضي 1967 ليس أمرا قليل الأهمية، بل هو انتصار تاريخي يجعل من قيام الدولة المستقلة فرصة تتيح تنظيم قدرات الشعب والأمة بطريقة تمكنهما من مواصلة الصراع من موقع أفضل، بانتظار نهوض عربي جديد سيكون الحاضنة الضرورية لتحرير ترابها الوطني بكامله وطرد الغزاة الصهاينة منه. في هذه الأثناء، كان عرفات يقوم بدور دولي أكبر من دور أية دولة عربية، وأكبر بكثير من دور إسرائيل، التي وجدت نفسها معزولة دوليا ومدانة طيلة فترة طويلة. وعندما قبل ورفاقه الاشتراك في مؤتمر مدريد، حيث انتزع الاعتراف بفلسطين ككيان وطني له أرض وطنية من حقه إقامة دولته الخاصة عليها، انتهى تعامل العالم مع الفلسطينيين كتجمعات لاجئين لهم حقوق إنسانية وليس لهم حقوق وطنية. وحين توصل في أوسلو إلى اتفاقية ساوت بين وضع فلسطين والأوضاع العربية، وجعلتها طرفا فاعلا في القرارين 242 و338، حسم الاعتراف الدولي بحق شعبها في استعادة أرضه، التي اعتبرت محتلة، مع أنها لم تكن خاضعة لسيادته عام 1967، لأنها لم تكن موجودة أصلا. هكذا، حققت المقاومة بقيادة عرفات على إنجازين وطنيين بدلا وضع قضيتها القانوني والدولي. وقد أثبت الرجل صدق ما تعهد به خلال جميع مراحل المفاوضات التالية وصولا إلى كامب ديفيد وطابا، حيث تمسك بكل شبر من أرض فلسطين 1967، وأصر على استعادته وعلى إقامة دولة مستقلة وسيدة عليه، ورفض أية مساومة تمس بحريته واستقلاله، فكان في التفاوض أيضا ذلك الوطني الذي عرفته ساحة الحرب والمقاومة. من الضروري القول إن عرفات هو الأب الحقيقي للانتفاضة الراهنة، التي نشبت بعد فشل أمريكا وإسرائيل في فرض حلّهما النهائي عليه في كامب ديفيد وطابا، ونتيجة لاعتقاده بضرورة بذل جهد نضالي أخير ومكثف يستهدف تغيير الوضع بطريقة تجبر العدو على قبول الحل النهائي الفلسطيني: حل الدولة المستقلة على كامل ترابها الوطني، التي لها حدود مفتوحة مع الدول العربية، والقادرة على احتضان وحفز تقدم شعبها، سبيلا إلى مرحلة جديدة من صراع الوجود ضد العدو. قبل عامين ونيف، اتفق الأمريكيون والإسرائيليون على كسر إرادة وصمود فلسطين، تمهيدا لقيام أمريكا باجتياح العراق، وإمساك موقعي فلسطينوالعراق المفتاحيين بين المتوسط والخليج العربي. لكن ياسر عرفات وشعبه أحبطا الجزء الأول من الخطة، وصمدا، هو في السجن وشعبه في ساحة القتال، إلى أن صارا مشكلة يتوقف على حلها مستقبل الصراع على المنطقة بأسرها وليس على فلسطين وحدها. واليوم، يصمت العرب بينما تدافع فلسطين عن كل فرد فيهم وعن كل بلد من بلدانهم، ويبدو جليا أن عرفات، الذي سقط في ساحة الوغى، ليس رجلا ينتمي إلى الماضي، وليس ذكرى سيغيبها النسيان، بل هو في أمتنا التي ستقاوم ذات يوم، رجل المستقبل ورمزه