ها أنذا أنهض من فراشي.. لكنني أحس أنه يجذبني إليه.. إلى دفئة.. ثمة شيء يقعدني عن النهوض.. مالي أراني ارتعش رغم أن مدفأتي لازالت مشتعلة طيلة هذا اليوم.. برد شديد.. سرى في كل عروقي.. لكنني سأنهض.. ودلفت إلى الحديقة، لكنني أكاد لا أتمالك نفسي.. فقد زادت حدة البرد.. وأراني لا أستطيع الوقوف على قدمي كما لا أستطيع التجول بين أشيائي التي اعتادت ان تسر ناظري كلما تفقدتها، لكنني أراها اليوم على غير عادتها.. فالأغصان قد تكسرت، والأوراق قد تساقطت في احدى الزوايا هناك كأنما هي مختبئة.. وباقي الأشياء تعصف بها رياح عاتية ضلت الطريق وتاهت عن المسار. وعدت إلى غرفتي رغما، وجلست عند شرفتي علني أستطيع أن أميز شيئا بين تلك السحب الداكنة، وبين تلك الرياح التي حطمت كل قائم.. وفجأة بدأ المطر ينهمر غزيراً، وأخذت حباته تندفع نحو شرفتي كأنها تطردني.. لكنني، ورغم كل شيء، بقيت إلى جانب الشرفة.. أرقب كل شيء عن كثب.. وتوالي نزول المطر.. وجرت السيول.. وتحول الطريق إلى كتلة من الوحل.. فتعذر على الجميع عبوره..واصبحت لا أرى من الدنيا ألا سماءً مدلهمة.. وغيوماً سابحة وأمطاراً منهمرة. وفجأة وصل إلى سمعي صوت غامض... وأرهفت السمع.. فإذا بخطوات تقترب رويداً رويداً.. وأكاد لا أميزها من بين أشياء تلك الأمسية الرهيبة.. وتقترب الخطوات أكثر فأكثر وتتضح.. فإذا برجل جاوز الثلاثين.. فارع الطول.. ممتلىء الجسم.. واثق الخطوة.. وكم كانت دهشتي عندما رأيته وتساءلت: يا لهذا الرجل! ماذا ألم به حتى يخرج في مثل هذا المساء؟! الم يصده الوحل ويمنعه البرد من التحرك كما منع الجميع؟! وتوالت خطواته حتى صار على مقربة من بيتي فأسرعت نحو الباب لأفتحه.. لأنني أعتقدت أنه يتمنى لو أن أحداً يفتح له بابه فيأويه.. وفتحت الباب بسرعة وأنا أرتعش من البرد.. فاذا بنا وجها لوجه.. وتوقعت انه سيزيحني ويدخل حتى بلا استئذان.. ولكنه بدا لي غريباً... فما كاد يرى الباب مفتوحاً حتى نظر إلي شزراً وتعابير الغضب قد ارتسمت على محياه كأنما أتيت عملاً أسأت فيه إليه.. ورغم ذلك قلت بلسان تكاد الكلمات تتجمد عيه: تفضل.. ادخل يا هذا.. ألا تحس بالبرد؟! ألا تشعر بثقل المطر الذي ينهمر فوق رأسك؟! وما كدت أتم كلماتي حتى زادت عيناه حملقة.. واتسعت ملامح الغضب على وجهه.. أنه ينظر إلي بنظرات ملؤها السخرية.. انه يهزأ بي.. وعاودت أسأل نفسي: هل يا ترى أسأت الادب مع هذا الرجل؟.. وهل فيما فعلته غير الرحمة والشفقة على حاله؟! وأخيراً.. أجاب صاحبي على كل ظنوني وتساؤلاتي.. وتفضل.. لكنه لم يتفضل على طريقتي بل على طريقته.. فقد قال: (شكراً).. ولكنني لن أدخل.. وأنا مصمم على المسير حتى نهاية هذا الطريق. كانت كلماته رتيبة.. حتى خيل إلي أن كل شيء من حولي كان قد اهتز الا تلك القامة، وذلك الوجه، وهاتيك الكلمات التي بقيت ثابتة تتحدى كل شيء كما تحدث تلك الامسية بكل ما فيها كل شيء... وقلت: (ادخل.. ثم تستأنف السير بعد قليل.. فلعل العاصفة تهدأ، وتنفرج السماء فتتبين الطريق، وتقطعه حتى النهاية كما تريد).. ومرت فترة الصمت.. ثم قال: (لا.. سأقطع الطريق ولن أبطئ.. سأعبره رغم ما تسمعه من هدير، ورغم كل المطر والوحل.. فالحياة لا تطيق الانتظار، ولا تحتمل التأخير.. انظر إلى عقارب ساعتك.. أنها تمشي رغم كل شيء.. سار على دربه بخطى ثابتة، ووجه باسم، وأمل في الحياة هناك يسعى لبلوغه.. لم أعد أحس بالبرد.. بل شعرت وكأن الشمس قد بزغت وأخذت تملأ الدنيا ضياءً وبهجة.. وأحسست وكأن بي حاجة إلى اللحاق به.. لكنني تريثت، وبقيت إلى جوار شرفتي أرقب خطواته المطمئنة، وهامته الشامخة، حتى توارى بعيداً في آخر الطريق.. وظللت أردد كلماته: (أن الحياة لا تحتمل الابطاء ولا التأجيل).