ودعت براغ باحتساء قهوتها عند ساعتها العتيقة، وجاشت عندها مشاعري التي لم تكتب منذ وطأت قدماي أرضها، والتي استمرت تلازمني طيلة فترة زيارتي لها. كنت وحدي إلا لماماً من لقاء بعض الأصدقاء، وخاصة صاحبي "فهد". لا أدري هل براغ جميلة لتأخذ بلبي، أم أنني كنت لا أجد رفيقاً إلا خضرتها ومبانيها العتيقة والمقاهي المتناثرة في شوارعها.. أم قد تكون خلوتي بنفسي وبعدي عن الناس جعلاني أرى براغ بوجه آخر؟.. أكثرت الصمت وأطلت التأمل تارة في زرقة السماء الصافية، وتارة بتلك الجبال والغابات الخضراء.. والأروع ذلك النهر الجميل بجسوره العتيقة وطيوره الحزينة!! يا إلهي ما أعظم التفكر وما أجمل التأمل.. تأمل يبدد الألم ويجدد الشجن ويحيي في النفس الأمل. كثير الصمت حتى كأنما عليه كلام العالمين حرام إذا قيل ما أضناك أسبل دمعه يبوح بما يخفي وليس كلام براغ لوحة جميلة أبدعها الخالق سبحانه.. قطرات المطر تداعبني من حين إلى حين وكأنها تقول: أنا رفيقك إذا عز الرفيق، ودمعك إذا جفت في مآقيك الدموع!! أحمل مظلتي كل صباح، أتوكأ عليها حينا، وأتقي بها تلك القطرات التي تناجيني، وكأني أقول لها دعيني وحدي أيتها القطرات..!! دعوني وشأني.. ما لكم من بكائيا ولا تعذلوني إن أنا جئت شاكيا أسرع الخطوات إلى مقهى اللوفر وكأنه صديق حميم أتلهف إلى لقائه.. أصبح هذا المقهى جزءاً مهماً من رحلتي وكأني أحس أنه يشتاق لي.. حتى العاملون فيه أصبحوا يعرفون قهوتي ويتسابقون لخدمتي.. أشعروني بحميمية المكان، وعبق العراقة فيه، فقد كان ملتقى المثقفين والساسة والشعراء، وكأني أراهم وأستمع إليهم.. ما أجمل الإحساس عندما يسمو بالإنسان!.. أقلب صفحات جريدتي اليومية، وكأني ألتمس منها جسراً يربطني بالوطن، رغم أنه يسكنني أينما ذهبت!! أبحث في زواياها وموضوعاتها عن حكمة أو قصيدة أو مقال يسمو بي، فإذا وجدته أشعر أنني كمن وجد شيئاً طال فقده، ثم أطلق بعدها لقدمي العنان لتتنقلا بي من متحف إلى متحف، ولكنهما ترفقان بي بين الفينة والأخرى وتمنحانني الفرصة للاستمتاع بكوب القهوة الرائع في أحد المقاهي المحاطة بالورود.. أتأمل الناس أمامي محاولاً سبر أغوارهم، وراسماً لكل شخص منهم قصة، متعجباً من اختلاف البشر، فهذا يضحك ملء فيه وكأنه امتلك الكون كله، وهذا يرقب أولاده محاولاً إسعادهم وفي عينيه يأتلق حنان الأبوة الرائع، وذلك يناجي زوجته مبدياً لها مشاعره، وآخر يسبح في بحار التأمل لا تكاد تعرف سره.. وذاك وذاك...! كل له طريقته في الحياة، وكل له سر سعادة يسعى للوصول إليها!! أحاول جاهداً الابتعاد عن النهر، خاصة وقت الغروب، ولكنني لا أرى نفسي إلا واقفاً عليه رغماً عني، وكأني بالنهر يقول لي أين تهرب مني؟ أنت صاحب شجن وأنا رفيق أهل الأشجان، أجعلهم يبحرون في أعماقي، وأتيح لهم رؤية الشمس وهي تغيب وكأنها بداخلي.. أسرح بفكرهم عندما ألتقي بالغابات الخضراء، وعندما تداعبني طيور النورس مسبحة بحمد الله وكأني به يدفعني لركوب تلك القوارب الصغيرة لوحدي، لكي أصيح بأعلى صوتي أبوح للنهر بسري، أو أركب تلك العبارات الكبيرة مع الناس.. وكل واحد له رؤية لهذا النهر، وقليل هم أصحاب الشجن!!. ولي مع مباني براغ العتيقة ألف قصة وقصة، وكل مبنى منها هو لوحة فنية بجمال عمارتها وأنيق زخرفتها، كما أن لي معها كثيراً من النجوى أحتفظ بها لنفسي، لأنني عاجز عن التعبير عنها. أما شوارعها وأزقتها، تلك الشوارع شبه الكبيرة والأزقة الضيقة، ومحلاتها المليئة بالكريستال ومختلف أنواع التحف، العادية منها والثمينة، فكان كل جزء فيها يشدني إليه مبهوراً بروعته وجماله، ومأخوذاً بما أراه من مظاهر الإبداع الإنساني في هذه البقعة من العالم. وأعود إلى غرفتي بالفندق بعد رحلة على الأقدام ما كنت أود لها أن تنتهي، أسترجع ما وعته الذاكرة من مواقف وقصص، سواء حقيقية أو من صنع خيالي، بعد أن تعودت على ذلك وألفته وبت أتعايش معه وكأنني أعيش واقعاً!! أخلو بنفسي، ألتمس عطري، وأقلب ألبوم صور يومي وأسترجع معها ذكريات يومي وكأنه ينبعث من زمن بعيد!. تلك بعض خواطري سطرتها في الطائرة عائداً إلى مدينتي الحبيبة الرياض، قد تكون رؤياي رؤية زهرية ولوحة فنية، ولكن عين السائح المتجول المتلهف للبحث في ذاته ترى ما لا يراه أهل البلد والمقيمون فيها، لذلك كنت أعرض وأبتعد عن المناظر والمواقف التي قد تكسر عليّ صفاء نفسي ولذة شجني، أو تقطع عليّ جمال تأملي وروعة تفكري.. هذا أنا وهذه براغ فهل بعد الوداع من لقاء.. أرجو ذلك من رب السماء.. وعندما شهدت هذا الجمال الرباني، وهذا الأنس في تأمل الطبيعة والاستمتاع بها تمنيت أن يشاركني هذه المتعة كل سعودي!. شكراً يا براغ.. فلقد وجدت في رحابك نفسي، فناجيتها وعاتبتها وعاتبتني.. وأحسب أنني قد صافيتها، فإلى لقاء يا براغ.. وداعاً أيها المقهى العتيق.. وداعاً أيها النهر الجميل.. وداعاً يا براغ بكل ما فيك من جمال حباك به الإله سبحانه!!