سيِّدتي وأنتِ في غياهب الغياب... أُنبِّئكِ بأنَّ الأرض تلتهب... أدري بأنَّّكِ لو كنتِ في حضوركِ لخشيْتِ أن يلحقني لفحها... تأكَّدي بأنَّني أصطلي في أُتونها... من أجل ذلك، حمداً لله أن حفظ قلبكِ وعينيكِ عن رؤيتها والحسرة منها... لم تكفَّ دموعي، تلك التي كانت في حضوركِ سياط نار تُلْهبكِ... لكن شتَّان بين النَّارين... أتذكرين كيف كنتِ تعلِّمينني كيف أتعرَّف الفارق بين أنواع النَّار؟! حتّى النَّار كنتِ تعيذينني منها بالله، ترفعين كفَّيكِ إليه أن يحفظني منها، وأن يُحرِّمني عليها...، كانت كفَّاكِ حين تُرفعان إلى السَّماء دروبي إلى البهاء، والنُّور، والسَّكينة، والفرح، وعبق الحول كلَّ الحول من حولي... كنت أحبُّ أن أعبث بكفَّيكِ... أطالعهما، وأمضي على خطوطهما... لم تكونا لي غير هذا المدى الذي فيه أتنفّس... وأزوِّد رئتيَّ بالحياة، وعينيَّ بالنُّور، وأشحذ همَّة قدميَّ كي أقوى على المسير... ما تعثَّرتُ أبداً وأنتِ تبسطينهما لي... حتى بعد أن غادرتِ... تركتِ لي صورة خريطتهما ممتَّدة في ناظري وبقي لي منهما الخط الأبيض إلى الفضاء... كانا درعين لي من نار السماء، ونار الأرض... سألتكِ ذات طفولة عن نار السَّماء بعد أن تعرَّفت إلى جمر الاصطلاء في مواقد الشِّتاء وأنتِ تمدِّين ذات الكفِّ تبعدينني به عنهما كي لا أحترق، تمدِّين يدك بكفَّكِ حاجزاً يقصيني عنها... قلتِ لي كلاماً جميلاً، وعميقاً، وفرَطتِ حروفه وزيّنتِ بها إدراكي وحسِّي... وذهبتِ، وبقيَتْ حروفكِ لَبنات في جوفي، لمساكن كثيرة أوَّلها الاطمئنان، وعجينتها الثقة، و... الحب... وتعلَّمت منكِ كيف يطفئ النار، الحبُ، والثِّقة، والاطمئنان... نار الأرض، ونار السماء... والنَّار تلتهب أمامي فوق شاشات الفضاء... تهاطلت دموعي... عرفت ناراً جديدة... أدركتُ والأرض تلتهب أنَّ هناك نيراناً لم تكوني يا سيدتي على عهد بها، تبدَّلت أشياء كثيرة عن تلك التي كنتِ تعيشين فيها... تأكَّدت بأنَّنا نمرُّ بمأزق الإنسان في انعطافة التأريخ... لم أجد سوى كفيَّ يا سيِّدتي... تذكَّرت كفَّيكِ... رفعتهما إلى السَّماء... مددتهما إلى حيث يكونان الدِّرع... لكنَّني وجدت أنَّ ليس صغاري من يحتاجون إلى درع للنَّارين: نار السماء، ونار الأرض... مساحة من الأرض كبيرة تحتاج إليهما... زدتُ إصراراً على أن أرفعهما، تمنَّيت أن تطولا كلَّ من في المسافات يتناثرون بين لهب وفجائع وفَقْدٍ... تهاطلت دموعي... قدّمتها كي تغسل آثار الحرائق.... واستنهضتُ منكِ أشياء وأشياء... وبقيت مطمئنة إلى وجود الله، وقربه، و.... قدرته على النار وحده تعالى.