تعتبر عملية صنع القرار من حتميات الأمور في الإدارة العامة، بل والإدارة الخاصة، وهذه العملية لا تعتبر وظيفة مستقلة عن وظائف الإدارة، وإنما تعتبر بمثابة الوسيلة أو الأداة الأساسية لممارسة جميع وظائف الإدارة من تخطيط وتنظيم وتوجيه وتنسيق واتصال ورقابة. وتأتي عملية صنع القرارات كعملية ديناميكية لتمثِّل المضمون العامل لنشاط الإدارة على جميع مستوياتها التنظيمية ذلك أن اتخاذ هذه القرارات لا يكون مقصورا على مستوى معين فهي عملية تمارس في جميع المستويات مثلها في ذلك مثل العمل التنفيذي الذي ينتشر في كافة أرجاء التنظيم. وإذا كانت عملية اتخاذ القرارات تعتبر عملية مستمرة ومتغلغلة في كل الجهاز الإداري للدولة. فإنه يلاحظ أن أهمية هذه القرارات تتحدد - بطبيعة الحال - بحسب مكانة وثقل مصدرها في الجهاز الإداري. فلا شك أن القرارات التي يصدرها رئيس المنظمة باعتباره الرئيس الإداري الأعلى تكون أشمل وأكبر أثراً من تلك التي يصدرها مجلس الإدارة والقرارات التي يتخذها الأخير تكون أكثر شمولاً من تلك التي يصدرها المدراء منفردين، وبنفس النمط يمكن القول إن القرارات التي يصدرها المدير تكون أكثر شمولاً وأبعد مدى من تلك التي يصدرها رئيس القسم. وعلى هذا النحو يمكن القول بصفة عامة إن القرارات التي تصدر عن المشرف في الإدارة العليا تكون أكثر أهمية وشمولاً من تلك التي تصدر عن المدراء في الإدارة الدنيا، أياً كان الأمر فإن مضمون القرار يكون بصفة عامة ترجمة للهدف والسياسة التي تسير عليها المنظمة، وتحديداً لأسلوب تحقيق هذا الهدف وتلك السياسة بأقصى درجة من الكفاية. على أي حال فإن ثمة حقيقة لا تقبل الجدل أو النقاش من جانب المهتمين بالإدارة وفقهائها وهي أن نجاح المشرف الإداري في أدائه لوظائفه يقاس دائماً بقدرته وتفوقه في إصدار القرارات الجيدة والفعَّالة في حياة التنظيم والتي يستطيع بها تحويل سياسات التنظيم وأهدافه إلى واقع ملموس، لذلك كان موضوع المشرفين الإداريين موضوع عملية صنع القرارات وديناميكيتها من أهم المسائل التي يعنى بها دارسو الإدارة العامة والمهتمون بها. ويسلم فقه الإدارة بأن عملية اتخاذ القرارات تمثِّل أكبر مسؤوليات المدير وأخطرها خاصة تلك التي يبنى عليها سير العمل في التنظيم أو تلك التي تربطه بتعهدات ثقيلة لسنوات طويلة، لذلك فإن توفيق المشرف أو المدير في اتخاذ القرارات الصائبة التي تحقق الأهداف المتوخاة يكون الفيصل بين نجاح المشروعات أو فشلها. أنواع القرارات يقسم فقهاء الإدارة العامة القرارات التي يصدرها الرئيس الإداري إلى قرارات وظيفية أو تنظمية وقرارات شخصية، قرارات صريحة وقرارات ضمنية، قرارات مكتوبة وقرارات شفهية، قرارات انفرادية وقرارات جماعية، قرارات أساسية أو إنشائية وقرارات روتينية. أولا: القرارات الوظيفية أو التنظيمية والقرارات الشخصية القرارات الوظيفية هي التي يتخذها المدير باعتباره عضواً في التنظيم أي عندما يعمل بصفته الرسمية أثناء القيام بوظائفه باعتباره مسؤولاً عن التنظيم كالقرار الصادر بتعيين أو بنقل موظف أو تأديبه، أما القرارات الشخصية فهي تلك التي يصدرها المدير بصفته الشخصية وليس باعتباره عضواً مسؤولاً عن التنظيم، أي تلك القرارات المتصلة بتصرفاته الشخصية، كالقرار الصادر بتخصيص مدة شهر من إجازته السنوية وقضائها بالخارج. ثانياً: القرارات الصريحة والقرارات الضمنية فالقرار الصريح هو القرار الذي يفصح فيه الرأي الإداري عن مسلكه في موقف معين بالموافقة أو عدمها أي بالمنح أو بالمنع، أما القرار الضمني فهو القرار الذي يستفاد من قرار يستفاد منه مسلك المدير وإن لم يعبر عنه صراحة. كأن يطلب موظفاً إذناً من رئيسه بالانصراف قبل انتهاء موعد العمل الرسمي فلا يرد عليه أو يغير مجرى الحديث إلى موضع آخر، ويلاحظ أن القرار الضمني هو شعوري ومقصود شأنه في ذلك شأن القرار الصريح. ثالثاً: القرارات المكتوبة والقرارات الشفهية فالقرارات المكتوبة تصدر في صيغة مكتوبة (اللائحة - تعليمات - أوامر مكتوبة)، أما القرارات الشفهية فهي القرارات التي تخرج للوجود عن طريق كلمات منطوقة وليست مكتوبة، والغالب أن تكون القرارات صادرة في شكل مكتوب حتى يسهل الرجوع إليها عند الحاجة وحتى يكون هناك ثمة دليل ثابت لصدور القرار ويسهل تفسيره. رابعاً: القرارات الانفرادية والقرارات الجماعية القرار الانفرادي هو الذي ينفرد المدير بصنعه دون مشاركة في هذا الشأن من جانب من يعنيه أمر القرار، أما القرار الجماعي فهو الذي يكون ثمرة جهد ومشاركة جماعية، فالأول يمثِّل الأسلوب التسلطي للإدارة، بيمنا يمثِّل الثاني الأسلوب الديمقراطي لها. خامساً: القرارات الأساسية أو الإنشائية والقرارات الروتينية القرارات الأساسية أو الإنشائية (وتسمى بالقرارات غير المتكررة) هي القرارات التي لا تتكرر في حياة التنظيم وهي إن تكررت فلا يتم ذلك إلا على فترات متباعدة، وتتعلق هذه القرارات غالباً بالنظام الأساسي للتنظيم بحيث تؤدي إلى إحداث تغييرات أساسية سواء بالإنشاء أو التعديل. أو بالإلغاء، فهي قرارات لا تهتم إلا بالمشكلات المعقدة والمهمة في التنظيم ومن أمثلتها القرارات الصادرة باتباع أسلوب التخطيط القومي الشامل، أو بتغيير نوع السياسات المتبعة في التنظيم أو بتعديل أو إنشاء إدارة فرعية جديدة له. أما القرارات الروتينية فهي قرارات متكررة وتتعلَّق غالباً بالأعمال الجارية والمعتادة فلا تؤثر في التنظيم تأثيراً مباشرة ويمكن البت فيها بناءً على التجارب والخبرات السابقة، وهذه القرارات تصدر عادة بطريق تلقائي وفوري فلا تحتاج لدراسة أو بحث وتظهر عادة في نطاق الأعمال الكتابية وغير الفنية. ومن أمثلة هذه القرارات القرار بمنح إجازة لأحد العاملين بالتنظيم أو القرار بالتصريح بالخروج قبل موعد انتهاء العمل الرسمي، أو القرار بتوزيع المكاتب.. إلخ، وتزداد القرارات الأساسية في قمة التنظيم الإداري لما تتسم به الإدارات العليا من الفنية والتعقيد، بينما تزداد الروتينية في المستويات دون العليا من الجهات الإدارية. سادسا: القرارات القاعدية والقرارات الفردية القرارات القاعدية (أو اللائحية) هي تلك التي تصدر في مواجهة فرد أو أفراد غير محددين بذواتهم بحيث يسري مضمون هذه القرارات على كل من توافرت فيه الشروط المحددة. أما القرارات الفردية تلك التي تصدر في مواجهة فرد أو أفراد محددين بذواتهم، ومثال القرارات الأولى القرار الصادر بترقية فئات معينة من العاملين دون تحديد أسمائهم ومثال القرارات الثانية القرار الصادر بمنح مكافأة لفرد معين، ولا يهتم علم الإدارة العامة بالآثار القانونية التي تترتب على كل نوع من القرارات القاعدية والفردية بقدر ما يهتم بمدى عمق وشمول القرارات الأولى سواء من حيث إعدادها ودراستها ومدى نطاق تطبيقها وذلك على عكس القرارات الفردية التي لا يكون لها تأثير عميق على حياة التنظيم. مراحل عملية صنع القرارات قد تكون القرارات التي يصدرها المدير على قدر كبير من الأهمية وقد لا تكون وذلك حسب تأثير القرارات على حياة التنظيم وحسن سيره. ومن الطبيعي أنه كلما ازدادت أهمية هذه القرارات احتاج الأمر من صانعها بذل جهد كبير وبحث عميق في تحليل المشكلة التي تتطلب إصدار هذه القرارات، فالقرار الصادر من المدير برفض الإذن لموظف بترك العمل أثناء وقت العمل الرسمي يحتاج إلى جهد أقل من قرار يتخذه بإحالة الموظف إلى المحكمة التأديبية، والقرار الأخير يحتاج إلى جهد أقل من قرار يعيد به المدير تنظيم هيكل وحدته الإدارية أو رسم سياسة جديدة لها.غير أن عملية صنع القرارات رغم تباين أهمية القرارات المتخذة ورغم تباين الجهد الذي يقوم به صانعو القرارات فإنها تمر بمراحل متعددة وتكمن في أربع مراحل، فعندما يواجه المدير مشكلة مثلاً أو موقفاً معيناً لا يرضى عنه ويريد حلاً يواجه به هذه المشكلة أو ذلك الموقف، فهو يبدأ بعملية تشخيص المشكلة فيتحرى الأسباب الدافعة إليها، ثم يبحث بعد ذلك عن الحلول الممكنة (عملية البحث عن البدائل) فإذا تعددت البدائل، وهي لا بد أن تتعدد فإنه يقوم بدراسة كل بديل على حدة (عملية تقييم البدائل) ثم يخلص بعد هذه الدراسة إلى اختيار حل أمثل (عملية الاختيار بين البدائل). ومن ذلك يتبيَّن أن مراحل صنع القرارات هي: 1 - مرحلة تشخيص المشكلة. 2 - مرحلة البحث عن البدائل. 3 - مرحلة تقييم البدائل. 4- مرحلة الاختيار بين البدائل، أي اختيار البديل الأمثل. أولاً: مرحلة تشخيص المشكلة: نقصد بتشخيص المشكلة دراسة الحالة الكائنة وتحري أسبابها؛ وبمعنى آخر تحديد الحالة التي لا يرضى عنها المدير في الجهاز الإداري ويريد التخلص منها، فإذا شعر المدير أن هناك مشكلة تحتاج إلى اتخاذ قرار أو ثمة فرصة حسنة مواتية سوف تضيع على المنظمة إذا لم يتخذ بشأنها قراراً، هنا يبدأ المدير بتشخيص المشكلة أو الموقف فيبحث عن السبب الحقيقي، وليس ذلك بطبيعة الحال بالأمر الهين أو اليسير، فقد تكون هناك أسباب كاذبة أو وهمية وفي هذه الحالة ينبغي على المدير استيعابها، بل إن الأسباب الحقيقية نفسها قد تتعدد وعندئذ يجب على المدير التحري عن السبب الرئيسي. لذلك يقع على من له اتخاذ القرار واجب الاستعانة بأهل الخبرة الفنية أو المتخصصة من داخل التنظيم أو خارجه، حيث تؤدي الاستعانة بهذه الخبرات إلى الكشف عن الأسباب الحقيقية والجذرية وإلى التوصل إلى الأمور التي قد يكون لها تأثير على اختيار البدائل، وبذلك تنجو القرارات خاصة القرارات الإستراتيجية، من احتمالات الخطأ في التشخيص نتيجة نقص الخبرة الفنية لدى متخذي هذه القرارات من المديرين. والخطأ في مرحلة تشخيص المشكلة وتحري أسبابها يؤدي بالتأكيد إلى أخطاء في جميع المراحل التالية لها، إذ لا قيمة لأي علاج مهما كان مكلفاً طالما بني على خطأ في التشخيص أو على خطأ في تحديد الأسباب، فمثلاً إذا لاحظ المدير ضعف الإنتاج في وحدته الإدارية وأراد أن يجد حلاً لهذه المشكلة، فيجب عليه أن يبحث عن أسبابها، فقد يكون ذلك راجعاً إلى انخفاض الروح المعنوية لموظفيه نتيجة لضعف الأجور، أو أن يكون ذلك راجعاً إلى نقص في التدريب، أو إلى ضعف في الرقابة، فإذا تصور المدير خطأ أن السبب الأساسي هو انخفاض الروح المعنوية نتيجة لانخفاض الأجور مع أنه ليس كذلك فمهما رفع الأجور فلن يقضي قراره المتخذ في هذا الشأن على المشكلة لسبب بسيط وهو ان المدير لم ينجح في معرفة السبب الحقيقي الذي قد يكمن في ضعف الرقابة على موظفيه، وقصور المتابعة على أعمالهم.وإذا كان تحديد المشكلة وأبعادها وتحديد مسبباتها أمراً يتوقف عليه المدير في اتخاذ القرارات، فإن المدير الماهر هو الذي يتوقَّع ويتنبأ بالمشكلات قبل وقوعها، فيستعد لها بقرارات مسبقة إذا ما ظهرت أعراضها، ويستطيع المدير الكشف عن الثغرات الموجودة بجهازه الإداري عن طريق اهتمامه بشكوى المرؤوسين، أو بالعمل على إنشاء إدارة متخصصة في الجهاز يعهد إليها بالقيام ببعض الدراسات المستمرة وتقديم تقارير دورية عن أي خلل يسود العمل في الجهاز. ( التتمة) الأسبوع القادم إن شاء الله *المصدر: تنمية المهارات القيادية للمديرين الجدد د. السيد عليوة