الحضارة الإنسانية بمجملها عبارة عن خليط أو سلسلة طويلة ومتماسكة من الحلقات الحضارية المتعاقبة والمتراكمة التي يؤثر السابق منها باللاحق، فهي تراكمات ومتواليات مستمرة من الجهد العقلي والكدح الفكري والبناء الثقافي الذي يضم تحته الجنس البشري بأكمله، لكن - وطبعا - مع الحفاظ على الطابع المميز لكل حضارة على حدة (الذاتية الثقافية) والمستمد من تصورات وتجارب أصحابها للحياة بشقيها المادي والمعنوي، ذلك أن هذه التجارب لها علاقة كبيرة في تلوين هذه الحضارات والأمم، تلك التصورات التي تعطي لكل حضارة خصائصها وذاتيتها التي لا تشاركها فيها أية حضارة أخرى، ومسألة التراكم الحضاري بين الأمم المتعاقبة هذه لا ينقص ولا يقلل من شأن أي من الحضارات اللاحقة، لأن طبيعة التطور الحضاري للجنس البشري تستلزم وجود هذا النوع من الاستفادة والتبادل والتراكم المعرفي، خلافا لما يراه بعض منظري الفكر الغربي: (من أن كل حضارة هي تركيب عضوي من نوع خاص لا صلة له بالثقافات التي جاءت قبله أو الثقافات التي تجيء بعده) الأمر الذي أوجد نوعا من الاختلاف والتباين في كيفية التواصل بين الحضارات، فمن قائل بنسف البناء المعرفي والحضاري القديم كلية وإحلال الجديد محله، كما قال بذلك منظر دولة تركيا الحديثة (كمال أتاتورك) إلى قائل بالجمود والسلبية تجاه الحضارات الأخرى. لكن الأمل يحدو أصحاب الاتجاه الثالث أصحاب منهج الوسطية الذي قامت عليه الشريعة الإسلامية حيث روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (ما خيرت بين أمرين إلا اخترت أوسطهما) وفي رواية أيسرهما، وأصحاب هذا الرأي يرون أن الحضارات الإنسانية فيها العناصر المتغيرة القابلة للتطور، والعناصر الثابتة التي تحدد ماهية الفكر وهوية الأمم ولا يمكن لأمة من الأمم أن تتقدم وتتطور إلا وهي مرتكزة على تلك العناصر الثابتة من مبدأ أن الجديد لا يمكن أن يقوم إلا على القديم، والحاضر دائما هو ثمرة الماضي. إن مسألة الحفاظ على الذاتية طبيعة بشرية يجب مراعاتها حال بناء جسور التواصل مع الحضارات الأخرى، فالموقف الذي ينبغي أن يكون عليه الرشيد من المسلمين موقفا انتقائيا كما قال بذلك صلى الله عليه وسلم: (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها) وسبب نجاح المسلمين وسيادتهم آنذاك حينما حافظوا على ثوابتهم أمام المتغيرات الحضارية إبان الحركة الفكرية حيث أخذوا من تلك الشعوب والدول ما فيه صالحهم وما هم في حاجة إليه من المسائل العلمية التجريبية ولم يتأثروا بالجانب الثقافي والسلوكي لتلك الحضارات، هكذا فعل سلفنا الصالح حين واجهوا الثقافات اليونانية والفارسية والهندية والصينية، وهكذا ينبغي أن نفعل اليوم ونحن نواجه الثقافة الغربية التي تريد رغما عنا أن نخضع لها ونستكين. وليس معنى الحفاظ على الذاتية (الانغلاق الحضاري) فالإسلام يسمح بالاستفادة من أي حضارة كانت، والتعاون مع أهلها ما دام ذلك يحقق المصلحة الحقيقية للمسلمين التي تدور مع المصلحة والمنفعة للمسلمين حيث دارت. ahmed [email protected]