ذكرنا في مقالنا السابق والمقالات التي سبقته، أن سيدي عبدالله بن محمد المعروف بولد رازقه العلوي والمتوفى في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، قد عرف لدى النقاد والدارسين للأدب والشعر في موريتانيا (بلاد شنقيط) بامرئ القيس، إذ لم تحفظ الأيام لنا شعرا قبله بقدر جودة شعره وفحولته. وقد لا ينبئ ذلك بالضرورة عن عدم وجوده اصلا، بل لان عوادي الزمن قد منعته من الوصول إلينا. والواقع، أن ما وصل إلينا من شعر يعود إلى ايام ولد رازقة، وحتى ما يعزى منه لمحمد غل جد قبيلة الأغلال المتوفى في القرن السابع الهجري، لا يرقى إلى مستوى شعر ولد رازقة الذي قد بلغ بالشعر في بلاد شنقيط في زمنه مستوى من القوة والجودة تجعل منه ابا لهذا الفن في تلك البلاد. والواقع أن ولد رازقة لم يكن مجرد شاعر وحسب، وإنما كان عالما موسوعيا في الفقه واللغة والمنطق والهندسة والرياضيات وعلم التربيع، وقد طغت سمعته العلمية أيامه على سمعته الشعرية، فهو قاضي القضاة في زمنه. يقول صاحب الوسيط معرفا بابن رازقة:( يعرف ولد رازقة بقاضي البراكنة العالم النحري، المقدم على أهل قطره من غير تكبر، كل عن مداه كل جواد يعترف بذلك الحاضر والباد، واشتهر صيته في تلك الصحاري والأقطار حتى صار كالشمس في رابعة النهار وضرب بفهمه المثل واستوى في معرفته السهل والجبل). والظاهر أن سمعة ولد رازقة قد تجاوزت صحاري ومدن شنقيط حتى بلغت المغرب إلى مكناسة الزيتون، عاصمة المولى إسماعيل مؤسس الدولة العلوية الحديثة في المغرب. فقد انبهر ابن السلطان الأمير العالم المولى محمد العالم بمستوى علم وأدب وشعر ابن رازقة، فقربه إلى بلاط والده وظل محظوظا لديه يفد إليه كل مرة ويمكث في بلاطه ما شاء الله فيغني حوزته الأدبية والعلمية بإبداعاته ومناظراته مع العلماء والأدباء. ويقول المولى محمد العالم مرحبا بعبدالله بن رازقة ورفيقه أعلى شنذورة المؤسس الثاني لإمارة الترارزة في الجنوب الغربي من بلاد شنقيط: مكناسة الزيتون فخرا أصبحت تزهو وترفل في ملاء أخضر فرحا بعبدالله نجل محمد قاضي القضاة ومن ذؤاية مغفر والواقع أيضا ان ولد رازقة لم يكن دوره في بلده منحصرا في مسائل العلم والأدب، بل إن هذا الدور البارز لا يوازيه الا مكانته السياسية بين قومه فعل شنذورة الذي ذكرنا أنه المؤسس الثاني لإمارة الترارزة والذي أشار إليه محمد العالم في البيتين السالفين بعبارة (ومن ذؤابة مغفر)، إنما رافق ولد رازقة إلى مكناس متوسطا به لدى السلطان المغربي ليمده بقوة يستعيد بها إمارته التي سلبه إياها البراكنة. والواقع، أن التاريخ يخبرنا بأنه قد حصل على مطلبه عندما مكنه المولى اسماعيل من جيش عرمرم عرف بجيش المحلة، وقدم به إلى الترارزة وهزم غرماءه واستعاد إمارته. وما كان ذلك أن يتم لولا سفارة ابن رازقة له لدى السلطان العلوي الذي قلنا انه تربطه به وبابنه محمد العالم علاقة قوية قد وثقاها من خلال أشعارهما المتبادلة. فعلاوة على الأشعار التي مدح بها ابن رازقة المولى إسماعيل وابنه محمد العالم، فإن هذا الأخير لا تفوته الفرصة دائما لإظهار إكباره لولد رازقة وإجلاله لعلمه وشعره، فنراه مرة يقرظ قصيدة لابن رازقة انشدها في حضرته ببيتين هما: أتانا من قرى شنقيط شعر تعالى فوق سحر الساحرينا يقصر شعرنا عنه لو أنا بعثنا في المدائن حاشرينا ثم إن المولى محمد العالم لا يخفي كل مرة فرحه بقدوم ولد رازقة اليه، ولطالما عبر عن ذلك حتى اننا نراه يعبر عن ذلك ببيتين بديعين مثل البيتين السابقين فيقول: هذا الحبيب الذي قد جاء من بُعد والشمس قد اثرت في وجهه اثرا فقلت يا عجبا للشمس في قمر والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا ويبالغ المولى محمد العالم في تفضيل ابن رازقة على غيره من الوافدين عليه من الأدباء والعلماء والشعراء قائلا: فدع عنك حراقا ومينحن بعده فأنت جميع الناس في شخصٍ مفردِ إلى هذا الحد يتضح للمرء مدى المكانة التي وصل إليها ابن رازقة في عيون سلطان المغرب وابنه الشاعر والأديب المولى محمد العالم، ولك سيدي القارئ أن تقيس على ذلك بإطلاق لدى العامة من الناس في قطره. فما بلغه ولد رازقة في زمنه من مكانة وشهرة لا يمكن وصفهما. ولعل ذلك يتلخص فيما حيك حوله من قصص وما دبجت فيه من أساطير جعلت منه شخصا خارقا في علمه وأدبه وذكائه. ولعل أكثر ما يهمنا هنا، هو مجال شعره ونبوغه في هذا الفن حتى استحق أن ينعت بامرئ قيس الشعر الموريتاني وهو ما سنحاول أن نأتي بنماذج منه لندلل بها عليه. لقد استطاع ولد رازقة أن يمد الشعر في زمنه بنفس من القوة والفحولة لم يعهدها قبله، كما تناول من خلال شعره كافة الأغراض الشعرية بعد أن كان الشعر في تلك الديار مقتصرا كما قلنا على الجوانب الدينية والابتهالية. فنرى ابن رازقة يبدأ قصائده الطويلة بالمقدمات الغزلية والغرامية الرائعة، مما يكرس خروجه على المألوف في زمانه. وفي هذا السياق يقول في مقدمة قصيدته المديحية: غرام سقى قلبي مدامته صرفا ولما يقم للعذل عدلا ولا صرفا قضى فيه قاض الحب بالهجر مذ غدا مريضا بداء لا يطيب ولا يشفى وهذان البيتان وردا في مقدمة قصيدته الفائقة الطول والتي يمدح فيها نعل النبي صلى الله عليه وسلم ولئن كانت عبارات الحب إنما يكنى بها عن شوقه وحبه للنبي صلى الله عليه وسلم، كما يتضح من تخليصه في ذلك عندما قال: لئن فاتنا عين الحبيب فإنما بآثاره الحسنى اكتفاء من استكفى والواقع أن القصيدة طويلة وبديعة، قد حاول من خلالها معارضة قصيدة الشاعر أبي الحسن الشامي الشاعر المغربي المشهور في مدح نعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عرف ابن رازقة بمعارضاته الطويلة شأنه شأن الكثير من الشعراء الموريتانيين بعده، كما جرت عادتهم في ذلك في معارضة قصائد كبار الشعراء في العهد الأموي والعباسي. ولعل ذلك إنما يدل على جودة شعر هؤلاء الشعراء واصرارهم على إظهار ذلك. غير أن ما بلغه ولد رازقة في أيامه من مكانة أدبية وعلمية، قل أن يبلغه أحد قبله وقد زاد في جودة شعره اتساع علمه وسفراته إلى مكناس، ومناظرته لفطاحلة الشعراء وجهابذة العلماء، وبل وتفوقه عليهم هناك كما أشار إليه الأمير محمد العالم في الإشارات الشعرية التي أوردنا نماذج منها والتي كافأها ابن رازقة بقصائد مديحية رائعة وغاية في الطول، والتي نرى أن حائيته المشهورة تغدو من أروعها إذ يقول في مطلعها: دع العيس والبيداء تذرعها شطحا وسِمْها بحور الآل تسبحها سبحا ولا ترعها الا الذميل فطالما رعت ناضر القيصوم والشيح والطلحا فكن قمرا يفري الدجى كل ليلة ولا تك كالقمري يستعذب الصدحا إلى آخر القصيدة، فهي كما قلنا طويلة. وخلاصة القول في ولد رازقة، أنه يستحق لقب امرئ القيس في الشعر الشنقيطي. وإلى يوم الناس هذا، مازال ولد رازقة مضرب المثل في موريتانيا بنبوغه وذكائه، فما أحبك حوله من قصص واساطير يتجاوز كل حد. وحتى يومنا هذا، مازال هو ذلك المثل المطلق للنبوغ والذكاء حتى انه إذا أراد احدهم أن ينتقص من مجهود احد في اكتساب المعارف رغم اجتهاده في ذلك، يقوله:( دع عنك هذا الأمر فلن تكون ابن رازقة). يتبع/ نائب المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم