قبيل صلاة الفجر بدأ الفتى الاستعداد للسفر برفقة خاله ووالدته واخته، حيث حان موعد سفرهم للرياض, شدَّ خاله على الحمار بربط (البردعة) ووضع المزوادتين عليها بحيث تتعادل المزوادتان (الخروج) على ظهر الحمار ولا يزيد وزن الاخرى عن الثانية حتى لا تسقط او يختل التوازن، وضع الخال امتعة والدته في (خرج) احدى المزوادتين ووضع الفتى في (الخرج) الآخر وتبع الباقون ْ والدته وخاله واخته ْ الحمار صاعدين كثبان الرمال المتناثرة بين العقل والبطين، حيث تنتهي كثبان الرمال ْ الطعوس ْ بنهاية جبل طويق, وبعد وداعهم لجدته وبكائها وهي تودع والدته، يذكر ان والدته لم يقف بكاؤها الا بعد ان توقف خاله ليقيم صلاة الفجر بعد ان سمع اذانها في القرية, أدت والدته صلاة الفجر كما فعل خاله، غلب النوم الفتى قليلا ليستيقظ قبيل بزوغ الشمس, حاول ان يتمدد لكنه لم يستطع لضيق (الخرج) فأخذ يبكي ويطالبهم بانزاله ليمشي معهم فنهره خاله بانه لن يستطيع اللحاق بهم لصغر خطواته، ولكن والدته رجت خاله ان ينزله ليجرب وليطلق اعصابه ولو قليلا وهكذا فعل, وما ان تمتع بالمشي يسيرا الا وأعيد مرة اخرى الى ظهر الحمار. عند الضحى وصل الركب الى ْ البلاد ْ حيث استراحوا بالقرب من احدى المزارع قليلا قبل ان يواصلوا الرحلة الى حيث يسكن احد اقاربهم ليبقوا عنده لليوم التالي حتى يحين موعد السيارة التي ستقلهم للرياض. يتجمع من يريد السفر الى الرياض عند البوابة ْ الدروازة ْ الشرقية مع شروق الشمس ويحضر كل واحد فراشه وصرة ملابسه ْ البقشة ْ يتأبطها , تأتي السيارة اليهم وقد حملت في صندوقها ْ الصحن ْ مجموعة من (الأغنام او البقر والجمال) واحيانا الحمير التي ستجلب هناك، ويوضع فوقها قطع من الخشب ْ صطحة ْ حيث يركب المسافرون عليها، اما المحظوظ والذي يدفع ضعف الاجرة فيركب مع السائق في ْ الغمارة ْ ركب الفتى واخته بجوار والدته وخاله مع مجموعة اخرى من المسافرين، وكان خائفا من السيارة ، وما ان بدأ محركها بالدوران وخرج صوتها هادرا الا واخذ يبكي ووالدته تحاول إسكاته ولم يستطع منعه الا خاله بعد ان نهره بقوة، بعدها سارت السيارة ووصلت الجبل حيث طلعة ْ ام الذَّر ْ فنزل الركاب وبالذات الرجال منهم يصعدون الجبل راجلين والسيارة تتهادى صاعدة تارة وواقفة اخرى ويمشي بجوارها بعض الرجال يسبقهم المعاوني ْ مساعد السائق ْ وبيده حجر كبير ليضعه خلف عجل ْ كفر ْ السيارة في حالة توقفها وخوفا من تراجعها الى الخلف، اخيرا تجاوزت الطلعة بعد ان ساعدها الرجال بدفعها الى الامام. عاد الرجال الى ركوبها مرة اخرى وهي في اعلى الجبل، وكان بجوارهم بقايا سيارة اخرى ْ لوري ْ سبق ان انقلبت وتحطمت هناك قبل سنوات، وقيل انها اول سيارة تأتي الى الزلفي لم يستطع قائدها ان ينزلها من فوق الجبل، وفي إحدى المحاولات انقلبت مما استدعى اعادتها مفككة الى الكويت ونقلها على الجمال مرة اخرى وبقي صندوقها الخشبي سنوات طويلة كشاهد لمحاولة لم تنجح. بعد ان اخذت السيارة طريقها المتعرج وكثير الاحجار، حيث ْ المطبات ْ الكثيرة والسائق يتفادى المرتفعات والاشجار والاحجار الكبيرة، تذكره والدته انه قد قابلتهم من بعيد سيارة اخرى حينها اصفر لونه والتصق بها خائفا من ان تصطدم بهم رغم انها قد سلكت طريقا ترابيا آخر، وكان الغبار الذي تثيره السيارة يسابقهم وما ان يهدىء السائق من سرعته الا ويكسوهم الغبار. عند صلاة الظهر وصلوا الى بلدة ْ المجمعة ْ حيث وقفوا تحت سور مزرعة بمدخلها واقاموا حاجزا من القماش بجوار السيارة لينزل به النساء والاطفال حيث يعدون الغداء ويصلون الظهر والعصر جمعا وقصرا بعد غدائهم ثم يواصلون السفر بعد ذلك، ليمروا على قرى سدير مع بداية حلول الظلام، فينزل الجميع لتأدية صلاتي المغرب والعشاء جمعا وقصرا، وبعد ذلك يعودون لمواصلة السفر بعد ان يشعل السائق نور السيارة، وكان يتصور ان السائق او مساعده يحمل سراجا لينير لها طريقها، يغالب الفتى النوم فلا يصحو إلا والسيارة ترتفع لتهبط مرة اخرى بمطبات متعددة، وعند قرب الفجر سمع خاله يتحدث مع احدهم بأنهم قد اقتربوا من الرياض وسيدخلونها بعد صلاة الفجر. بعد ان تجاوزوا (ببان) ووصلوا المغرزات والتي لا تبعد كثيرا عن الرياض اوقف السائق السيارة طالبا من الجميع النزول لصلاة الفجر ودفع الاجرة قبل وصولهم وتفرقهم لأنه عندها يصبح من الصعب عليه الحصول على ْ كروتهم ْ بعد ذلك عاود السائق سيره قبل طلوع الشمس، وفي الضحى وصلت السيارة الى بداية الرياض حيث يقع حي ْ البطحاء ْ او الحلة الكويتية وبجوارها حلة القصمان، هناك نزل مجموعة من المسافرين, واصلت السيارة الى ْ دروازة ْ بوابة الثميري وتجاوزتها الى حي (دخنة) حيث يسكن والده بجوار مسجد الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ، ونزل خاله وانزل والدته من أعلى السيارة وتبعها الفتى وأخته وحمل خاله صرة ملابسهم والزوارة وهي عبارة عن (حب القرع المطبوخ وقرصان الكليجا وغيره) والتي ستقدم لوالده واخوته الصغار وأمهم,استقبلهم والده وهو يعرف مسبقا بقرب وصولهم وكان قد جهز لهم غرفة بالطاية حيث فرشت بمفرش من خوص النخل (خِصاف) وكان اخوه الكبير الذي يسكن مع والده قد احضر قطعة من اللحم المناسبة لتطبخ مع الغداء احتفالا بمناسبة قدومهم، وكان يحملها من (المقصب) ويخفيها داخل ملابسه حتى لا يراها احد فيصاب بالعين (ينضله) ويسمى من يشتري لحما (يُشْرَكْ). خرجت والدته مع (ضرتها) بعد العصر وكل واحدة تحمل قدرا فوق رأسها لإحضار الماء من احدى الآبار بمدخل الحي (الحسو) تذهب الواحدة منهن الى البئر وتدلي (دلو) الماء الى داخل البئر وتملؤه فترفعه الى اعلا حتى تملأ قدرها فتحمله على رأسها بعد وضع (الكُوارة) وهي قطعة مستديرة من القماش توضع فوق الرأس وتحت القدر ليبقى متوازنا ولا يسقط القدر فمنهن من تمسكه بيدها ومنهن من تمسكه بكلتا يديها اما المتمرسة فتستطيع حمله دون مسكه وهذه تحتاج الى التعوّد المستمر, بعض البيوت الكبيرة يتفقون مع (السقَّاء) لاحضار حاجتهم من الماء بواسطة (القربة) التي يحملها على ظهره، ويملأ (السقاء) الاوعية المعدة لذلك بالصهروج، مكان الوضوء في مدخل البيت الذي يكون له فتحة صغيرة لاخراج الغسيل الى السوق او ما يسمى المدعاب اذ لم تكن البالوعات معروفة يومها. بعد صلاة المغرب اذا كان والده غير مدعو او لم تكن لدى الشيخ حلقة ذكر بالمسجد ْ وكان يحضرها بشكل مستمر ْ يعود للمنزل ويشعل السراج اذا كان (القاز) الوقود متوافرا اذ احيانا يمضي يوم وليلة او اكثر دون اشعاله. اذا عاد والده فُرش مفرش في السطح وتصدر المجلس بحضور والدة الفتى وضرتها مع اختيه الاولى وهي التي تكبره شقيقته اما الاخرى التي تماثله بالسن فأخته من والده، كان الوالد يتحدث بعد ان سأل والدة الفتى عن المدة التي قطعوها في الطريق فقالت: انها يوم وليلة، فقال كنا نمكث من اسبوع الى عشرة ايام بحيث يمشي مع اثنين من اعمامه من الزلفي مرورا بالغاط فالمجمعة فقرى سدير فالمحمل فحريملاء حيث يستضيفهم الشيخ عبدالرحمن بن سعد وكانوا يمشون على الاقدام من قرية الى اخرى فاذا لم يجدوا من يستضيفهم باتوا بالمسجد كالعادة واكتفوا بما يحملونه من تمر او قليل من الطحين، وبرفقتهم حمار يحملون عليه زادهم ومستلزماتهم الشخصية البسيطة، وكان اعمامه وقت مسيرتهم يربطون قطعا بيضاء من القماش في وسطهم لتساعدهم على المشي واذا ما رأوا احدا او مجموعة من الإخوان (يستنكر من يمشي دون عمامة فوق رأسه) وهي علامة انه من الإخوان ْ إخوان من اطاع الله ْ فكان اعمامه بمجرد رؤيتهم لاحد يمشي ولو من بعيد يفكون احزمتهم ويلفونها على رؤوسهم لتصبح عمامة، واذا وصل لهم الفرد او المجموعة المقابلة لهم سلموا عليهم بحرارة، اما والده فلم يكن يعتمر مثلهم العمامة فكان يهجر ولا يسلم عليه ْ بالرغم من انه اعلمهم وهو طالب العلم الحقيقي واعمامه مجرد مرافقين له بالطريق ْ وأحيانا يتعرضون للمضايقة والاهانة اذا لم يتشبهوا بالاخوان فكان في احدى سفراتهم للرياض ان تمرد فيصل الدويش على الملك عبدالعزيز واصبح الطريق غير آمن مما عرض المسافرين للخطر ووصل والده وأعمامه الى المجمعة ولم يستطيعوا مغادرتها لاضطراب الامن، فسمع عمه الكبير (عبدالمحسن) بتأخر وصولهم للرياض فذهب بنفسه خائفا على هذا الاعمى المسكين اما مرافقوه فيستطيون تخليص انفسهم, وبالمصادفة وصل الى المجمعة يوم جمعة وعندما دخل للصلاة وجدهم به مما جعله يحتضنهم بقوة وهو يبكي بصوت عال حمد لله على سلامتهم، وعاد بهم للزلفي. عند سماع والده (ابن مفيريج) يتنحنح استعدادا لرفعه أذان صلاة العشاء مد يده يبحث عن عصاه لتساعده في معرفة طريقه للمسجد اذ ان الفتى مازال صغيرا ولا يستطيع ايصاله للمسجد علاوة على كونه بالليل ولا اضاءة للطريق قال وهو ينهض موجها كلامه لوالدة الفتى انه قد قارب السبع فيجب ان يؤمر للصلاة وفي النهار من غد لا بد من مرافقته للمسجد وقال وهو يبتسم حتى ولو لم يتوضأ ْ على الاقل توفيرا للماء ْ وواصل حديثه قائلا ان والده عندما كان صغيرا حضر لصلاة الفجر متأخرا وقام بعد نهاية الصلاة لاكمال ما فاته منها وعندما نهره والده ْ الامام ْ انه كان يلزمه الا يتأخر قال له الابن ْ هذا وانا ما توضيت ْ أجل لو توضيت لفاتتني الصلاة كلها!