أخذ الفتى بيد والده للمسجد الذي طلب منه أن يجلس في آخره حتى تنتهي الصلاة ليعود به إلى المنزل، وهكذا اعتاد على الطريق, بعد مضي حوالي أربعين يوماً على وصولهم للرياض حضر أحد إخوة الفتى الكبار إلى المنزل فوجد والدته تصلي ولكن متجهة إلى الشرق فبعد انتهائها من الصلاة سألها فقالت منذ حضورنا الرياض وأنا أصلي إلى هذا الاتجاه مثل قريتنا, فنبهها أن القبلة ناحية الغرب عكس اتجاهها، وعند حضور والده سألته، فقال لابأس فأينما تولوا فثم وجه الله ولكنها بعد ذلك عرفت إلى أين تصلي وعفا الله عما سلف. وكان في المسجد غرفة تعلو الباب الشمالي الشرقي، وقد اتخذها مؤذن المسجدابن مفيريج مدرسة، وهناك رجل آخر يسكن بجوار باب المسجد يدعى ابن هويمل وهما يدرسان الصبيان بالطرق البدائية كتاب فأدخله والده عندهما وقال كلامه المعتاد عند إدخال طالب جديد لي العظم ولكم اللحم أي أطلب منكم تعليمه وتأديبه، وهكذا بدأ يذهب للمدرسة في الصباح وبعد الظهر، وبدأ المعلم معه بالفاتحة وقصار السور هجاء وقراءة لفترة محدودة لم تتجاوز الشهر، أخذه والده بعد ذلك لمسجد آخر يسمى مسجد الجفرة وبه معلم آخر لديه طلاب كثيرون وهو يعلمهم بالمسجد ويدعى المطوع محمد بن سنان وهو من اليمنيين المقيمين بالرياض، ويدعون بالمهاجرين من اليمن بعد محاولة ثورة بن الوزير في اليمن عام 1948م وعندما فشلت هاجروا للمملكة وبقوا بالرياض ينزلون بالقرب من مسجد الشيخ بدخنة. يذهب الفتى للمدرسة الكتاب من الصباح بعد شروق الشمس وحتى قرب أذان الظهر ويعود بعدها إلى العصر، حيث كان يتعلم الفاتحة وقصار السور، وكان والده يطالبه بقراءة ما يحفظه يومياً، حيث كان يرافقه للمسجد ويطلب منه الصلاة بجواره، وبعد أن يؤدي مع والده صلاة السنة قبل صلاة الفرض كان يطلب منه أن يأخذ المصحف ليقرأ ما يحفظ من القرآن، وبعد صلاة الفجر يعطيه والده ربع ريال ليشتري خبزاً من الخباز الأفغاني حجي روز الذي يقع مخبزه في الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد بجوار ميدان دخنة وكان وقتها خبزة التميس بقرش واحد فيشتري خمس خبزات بربع الريال ويفطرون بها مع الشاي، اعتاد ان يلبس ثوبه ويعتمر سدرية صغيرة فوقها في الشتاء والسدرية تشبه الفانلة من الصوف بدون أكمام وهذه لا يلبسها إلا الغرباء من غير أبناء الرياض وكان لا يعرف الغرباء في الرياض إلا من القصيم ففوجئ بتحرش أبناء الرياض به لمجرد لبسه السدرية ويلحقه بعض الفتيان إذا كان لوحده ويصفقون خلفه ويرددون قصيمن خبزه وبياله أي أنهم لم يتعودوا على أكل الفول كأبناء المدينة، فيكتفون بالفطور بالخبز والشاهي فقط، تجنب بعد ذلك لبس السدرية حتى لا يعرف أنه من الغرباء فيهان. يحضر الخبز عند شروق الشمس إذ إنه ينتظر دوره لدى الخباز، وبعد وصوله للمنزل يكون والده قد حضر أو كاد,, إذ إنه يجلس بعد صلاة الفجر يتلو القرآن حتى تطلع الشمس وترتفع قدر رمح فيصلي ركعتي الضحى فيعود للمنزل بمفرده إذا لم يكن معه أحد، يكون قد أعد الشاي وجلست والدته وضرتها مع أخته بالمجلس المجاور لمدخل المنزل الذي يشب فيه الحطب لإعداد القهوة والشاي، يبدأ والده بسماع ما حفظه في مدرسة ابن سنان من قصار السور بالقراءة بالجزو أولاً ثم بالحفظ، وعندما أخذ الجزوجزء عم وأحس أن جزءاً منه ممزق أي أن الفتى كان يمسك بمنتصفه بإصبعه الكبرى الإبهام ويكثر مسكه فتعرق مما يعرضه للتمزق، وعندما سأله عن سبب تمزقه لم يستطع الإجابة لخوفه من والده فلم يتمالك والده إلا أن جذبه وأمسك بأذنه فقضمها ولم يدر الفتى إلا وأذنه مدماة فخرج لا يلوي إلى مدرسته الكتاب ووصل وهو يبكي إلى المطوعابن سنان وقد تبلل ثوبه بالدم وما أن رآه إلا وخفف عنه جزعه بعد معرفة السبب. كان لدى المطوع كرة من قماش يرميها في اتجاه الطالب المتكاسل أو الذي لا يرفع صوته بالقراءة فيمسكها من تقذف له ويعيدها للمطوع فيطلب من الطلاب القريبين منه بمسكه لتعليقه بالجحيشه البغيلة أو الفلقة وهما قطعتان من الخشب بينهما حبل يتلف على القدم فيعلق المخالف لتبقى قدماه في الأعلى وجسمه للأسفل فيضرب باطن قدمه بالعصا حتى يبكي, أما الذي يكون خطؤه محدوداً فيمكن الاكتفاء بضربه بالمسطعة وهي قطعة من الخشب لها رأس مسطح على شكل مربع لتضرب به كف المخطئ. عند إكمال أحد الطلاب القراءة بالمصحف من أوله إلى آخر يسمى خاتم القرآن فيدعو والده المطوع وجميع الطلاب لحضور حفل يقام بمنزلهم وله مراسم محددة، كما شارك الفتى بإحدى هذه المناسبات ويكون الطلاب على علم بأنهم مدعوون لحضور حفل ختمة فلان غداً، فيلبس الطلاب أفضل مالديهم من ملابس وعند تجمعهم من المطوع في المسجد حيث المدرسة يحضر الداعي مع والده أو أكبر إخوته وهو يركب حصاناً ويتقلد سيفاً، فيخرج المطوع يتبعه الطلاب متجهين إلى حي دخنة فشارع سلام وكان مضيفهم يسكن بالقرب من منفوحة، يبدأ المطوع يقرأ دعاء ختمة القرآن وهو يسير بجوار الطالب المحتفى به على حصانه والسيف بيده والطلاب من خلفه يرددون: آمين عند توقف المطوع عند كل قراءة دعاء، وهو يردده حتى وصولهم إلى المنزل المقام به الحفلة فيهتف الطلاب القرَّاية بصوت واحد اشتروه وإلا كسرنا عصه وفي العاير نلصه فيرد أهله عليهم شريناه,, شريناه, فيدخلون، حيث يستقبلهم والده وأعمامه ومجموعة من الأقارب وقد فرش وسط المنزل ويقدم لهم القهوة والشاي بعد أن يمتدح المطوع ابنهم فيقدم لهم الغداء وهو عبارة عن صحون كبيرة مليئة بالأرز واللحم فيودعون ليعودوا لمدرستهم مرة أخرى، أو يعتبر هذا اليوم رخصة عطلة لهم عن الدراسة, اعتاد الفتى أن يرى مجموعة من الأطفال يلعبون في الأسواق وبالذات لعبة الكعابه وكان كل واحد منهم لديه مجموعة من عظام كعوب الأغنام التي يجمعها الأطفال عند ذبحها فيختار الكعب الكبير ليكون هو الصول ويلمع بالقمورة الملونة ليكون ثقيلاً عن غيره، وتصف مجموعة منها على شكل خط مستقيم ويقف اللاعب على بعد معين منها ليرمي بالصول تجاهها فإذا أصاب هدفه أخذ ما أصاب وإذا لم يصب هدفه أخذ منه اللاعب الفائز بعدد ما أصاب، ويكون لها نظام معلوم يتفق عليه، والفتى يتحرق للعب معهم ولكنه يخاف منهم أو من والده أن يعرف فيضربه. ذات يوم خرج مع والده لصلاة العشاء وإذا بهم يرون ناراً مشتعلة وأصوات السيارات الكبيرة تنقل الماء وصياح الناس وعرف بالمسجد من حديث والده مع آخرين أن الحريق قد شب بالبطحاء حراج الكويتية حيث تكثر العشش وصنادق مجمع بها البضائع التي تباع هناك بعد جلبها من الكويت وقالوا: انه يكثر فيها شرب الدخان التتن ومعصية الله وأن الله انتقم منهم، وقيل ان النار بقيت مشتعلة إلى اليوم التالي حيث أتت على كل العشش والصناديق. وبعد أيام قليلة وهو يذهب مع والده لصلاة العصر وإذ بوالده على غيره عادته يبكي ويكثر من الدعاء، وما أن وصلوا للمسجد إلا ووجد مجموعة من المصلين وقد قاموا للسلام على والده وتعزيته وما هي إلا دقائق حيث أقبل الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي فقابله الجميع قبل إقامة الصلاة ومعهم والد الفتى حيث قدموا التعازي له، وبعد إتمام الصلاة أقيمت صلاة الميت غيابياً وعادا بعدها للمنزل وعرف من حديث بعض أقاربه مع والده أن الملك عبدالعزيز قد توفي بالطائف وأن جثمانه قد أحضر للرياض حيث دفن بعد الصلاة بمقبرة العود. وكان الجميع خائفين من أن يعود الاضطراب وقطع الطرق الذي كان سائداً قبل توحيد المملكة، وفرض النظام، ويذكر أحد أقاربه لوالده أنه رأى بدوياً يمشي يسأل الآخر لماذا لا تحمل سلاحك ترى عبدالعزيز مات فرد والده الله يكفينا شرهم. وبعد أيام انتقلوا لمنزل آخر أكبر من الأول وبه حوش للغنم، وقد اشتروا عدداً من الأغنام وبقرة ليستفيدوا من حليبها منايح واحضر أحد أقاربه حماراً ليبقى معها بالحوش حيث يحضر في الصباح ليشد عليه البردعة ويذهب به إلى المدي والذي يجمع به الماء يدخنة فيعبئ القرب بالماء ويحملها على حماره ليوصلها إلى البيوت التي تحتاج إليه والمتفق معه عليها سلفاً بمبلغ شهري ومعروف، يحضر حماره في المساء ويذهب هو لينام بالمسجد. ويذكر أنه كان هناك شخص مختل العقل أو هكذا خيل له يدعونه الملا ويصغرون اسمه بالمليلي كثيراً ما يأتي بلا موعد يدخل للمنزل دون استئذان إذا وجد الباب مفتوحاً دخل ولا يشعر به إلا وهو داخل المنزل أو حتى داخل الحوش وقت وجود الحمار وعند خروجه يسأل عن سبب مجيئه فيقول: إنه جاء ليطمئن على المطوع وقرَّايته يقصد الحمار والغنم وليسلم عليهم. وكان الفتى يتحرش به إما بسحب غترته من على رأسه أو يضحك عليه فيشكوه لوالده، إذا سأله والده ماذا عمل وش سوى ؟ . رد عليه ماذا ترك وش خلاَّ فيأخذ والده العصا ويضربه به بسبب اعتدائه على المليلي . يوجد بالحوش برج لقضاء الحاجة وهو ما يسمى هناك بالأدب وهو عبارة عن غرفة صغيرة مغلقة إلا من فتحة صغيرة في أعلاها يجلس عليها من يرغب في قضاء حاجته، ولها فتحة أخرى في إحدى زواياها من الأسفل يحضر أحدهم سنوياً ليحمل على حماره من الكنيف ما تجمع من بقايا الإنسان، وعرف إنه يذهب بها للمزارع لتسمد به أرضها.