في يقيني واعتقادي أن أس مشاكلنا لا يكمن في الموارد المالية ولا الكوادر البشرية ولا التضاريس أو الطقس, ولكنه يكمن في العقلية التي تحكمنا وبالتالي تملي علينا تصرفاتنا وطريقة إبداء مشاعرنا وتعاملنا مع متغيرات الحياة اليومية وكذلك رؤيتنا للعالم من حولنا. وأكاد أقول إن هذا يتم بمعزل عن كل العوامل المذكورة أعلاه، بمعنى أنه بغض النظر عن الشهادة العلمية والقدرات الذهنية واليدوية للأفراد فإن العقلية هي هي! أي أن المرء قد يحصل على شهادة ما بجدارة ولكنالعقلية المسيطرة تجعله لا يترجم معرفته عملا, وفي دراسات عالمية لعلها تنسب إلى اليونيسكو أن 80% من أسباب فشل المشاريع في العالم النامي (ونحن ننتمي إليه بجدارة) يعود إلى فشل الإدارة, وفي هذا تأييد لزعمي، فكلما سألنا عن موظف وجدنا أنه في دورة في معهد الإدارة, والبلد مليئة بحملة الماجستير في شتى أنواع الإدارة ولكن الإدارة مازالت ترزح تحت روتين ثقيل وبيروقراطية متكلسة. لقد بدت الصورة جلية في رأسي وانفجر بركان الأسى يوم الأحد الماضي, وظللت مسكونا بهذا الهاجس واضحا ومسيطرا نتيجة موقف بسيط في شكله ولكنه قاس ومرعب في معناه, وقد أعدت الكتابة عدة مرات كي أوضح الصورة ولم أجد في النهاية مناصا من رسم توضيحي: دوار المطار القديم يمثل نقطة توزيع مشغولة طوال الوقت، ولحسن الحظ أن القاعدة الجوية تحتل جانبا من هذا الدوار وهذا ما يجعل ذلك الاتجاه مقفلا أو أقل اشغالا من باقي الجهات الأخرى, وفي عصر ذلك اليوم كانت شاحنة مكشوفة (تريلا) تابعة لشركة سمامة وتحمل لوحة معدنية رقم أأي 637 قادمة من الشمال في طريق الملك عبدالعزيز وتتجه إلى الغرب في طريق الخدمة الذي ينعطف وجوبا إلى الغرب, كانت الشاحنة محملة بصبات خرسانية وعند المعطف تماما سقطت منها عدة صبات (!!) فوقفت في منتصف الطريق وأتت سيارة ونش كبيرة لترفع الصبات وتعيدها إلى الشاحنة, هذا شيء قد يحدث في كل يوم وفي أي مكان ولكنه لا يمنع مساءلة سائق الشاحنة والشركة عن كيفية وضع الصبات فوقها وحجم الحمولة والتلف الذي تعرض له الطريق حيث ظهرت عدة شروخ واضحة في الإسفلت وفي نظري أن الشاحنة مسئولة تماما عن كل هذا, ليس هذا المهم، ولا أدري متى وقع الحادث، ولكن من سوء حظي أن أكون في ذلك المضيق في الساعة الخامسة مساء حيث كنت متجها إلى المستشفى العسكري, (الآن عزيزي القارئ أرجو الرجوع إلى الرسم): كانت أمامي حافلة ركاب أجرة وسيارة أخرى فقط، مما يعني أن غلق الطريق حدث للتو, وفي المقدمة سيارة جيب مرور على ما أظن - ولكن المؤكد أن رقم لوحتها (أأل 503) تقف بالعرض الموضع أبالرسم وجندي واقف يشير للسيارات بأن تعود القهقرى لأن الطريق مغلق! وكان الجندي الثاني يقف خلف الونش ليمنع السيارات من محاولة الدخول عبر الفرجة بين الونش الضخم والرصيف, كان المشهد مزرياً للغاية ومضحكاً مبكياً في الوقت ذاته, خلال دقائق ازدحم طريق الخدمة، صوت الفرامل يلعلع ببركات السائقين المسرعين، سيارات تعود إلى الوراء، وأخرى تعتلي الرصيف لتستدير عائدة، ركاب الحافلة ينزلون زرافات ووحدانا كلما وقفت حافلة أخرى أمام الإشارة في الطريق الرئيسي ويتجهون إليها، وسائق الحافلة يكاد يمزق هدومه على الرزق الذي طار فهو كمحموم المتنبيلا يطال له فيرعى، ولا هو في العليق، ولا اللجام . اتجهت بعض السيارات إلى الفتحة (ب) ولكنهم وجدوا الفتحة (ج) شبه مغلقة بفعل الشاحنة الواقفة, وهنا أشار الجندي 1 إلى الجندي 2 بأن يمنع السيارات من الدخول عبر الفتحة (ب) فحرك سيارة الجيب إلى هناك ووقف يمنع السيارات وكان أمامها خياران إما الاستسلام والوقوف حتى ينقضي الأمر مما قد ستدعي ساعات، أو يعودوا إلى الوراء ليخرجوا عبر الفتحة (أ), كانت مهزلة حقيقة، وعلى بعد عشرة أمتار كان الجانب الآخر من المهزلة, العمال الذين يربطون الصبات الساقطة بحبال الونش لا يعرفون عملهم, فكلما بدأ الونش بالرفع مالت الصبات وسقطت, هنا حدث أمر عجيب وأكاد أقسم أنه حدث ببركة دعاء الوالدين دون تدخل بشري, حرك سائق الشاحنة سيارته إلى الوراء قريباً من الونش مما ترك مساحة كافية أمام الفتحة (2) وهنا سمح الجندي 2 للسيارات المحصورة بالدخول عبر الفتحة (2) للخروج عبر (3) ومواصلة مشوارهم المقطوع. كنت قبل ذلك قد اتجهت إلى الجندي 2 أقترح عليه أن يتم إغلاق الطريق من عند الفتحة (1) لتخرج السيارات القادمة إلى الطريق السريع وليمنع السيارات القادمة من الطريق الرئيسي من الدخول, ولما كنت مرتدياً البنطلون والجاكيت وكان قد رآني أتحدث بالهاتف الجوال فقد سألني إذا ما كنت تبعهم أي تابع للشركة مالكة الحافلة, ولما أجبت بالنفي قال والله ظنيتك منهم، وعشان كذا خليتك ولم يعلق على اقتراحي، بل تطوع ليقدم حكمة جليلة ترا الفضولية شينة , لم أتوقع أنه يعنيني ولما استفسرت فأجاب بالإيجاب قلت له: ولكن قلة الدبرة أشين! لكن يصير خير وأشهد أنه كان مهذباً مؤدباً ولكنه كان عاجزاً فالموقف أكبر من قدراته, وطوال الوقت كنت أقول لنفسي هذا حادث بسيط، فكيف لو كان انهيار عمارة، أو زلزالا! والله وبالله كدت أبكي على حالنا, فقد تجلى كل شيء أمامي: البلاء في العقلية اللعينة, وهكذا تضيع الجهود، وهكذا يتم حل مشكلة باختلاق مشاكل أخرى, وكنت أدعو الله طوال ذلك الوقت ألا يقع حادث تصادم شنيع فكيف سيتم إنقاذ المصابين وكيف ستصل سيارة الإسعاف, لا أدري متى انتهى المعنيون من تلك المهمة العصيبة، ولكن من المؤكد أن الجندي 1 سيتصل برئيسة ليقول: الحمد لله طال عمرك، حلينا الإشكال، وتم رفع الصبات وسيرد الرئيس بقوله: الحمد لله عشتوا، ولكنه لن يسأل كيف تم ذلك! بادئ ذي بدء من لطف الله أن الصبات الساقطة على الأرض ماكانت لتسد الطريق أو تضيق من عرضه الذي يسمح بمرور سيارة واحدة فقط عند المنحنى, فكان يمكن تركها هناك حتى منتصف الليل عندما تخف حركة السير بدلاً من سد الطرق بكل من الشاحنة والونش. ثانياً، حتى يتم استجلاء الموقف كان الأولى إغلاق الفتحة 1 فلا يحدث احتجاز السيارات وتعطيل الناس وقطع الارزاق وارتباك المرور بسيارات قادمة وأخرى عائدة عكس الاتجاه في طريق الخدمة. ثالثاً، لماذا تبقى الشاحنة واقفة تسد الفتحة 3 لأكثر من ساعة. كان على رجل المرور أن يأمر الشاحنة بالابتعاد حال وصوله وبالتالي لن يحدث ازدحام ولا اختناق ولا حوادث ثانوية للسبب الأساسي. لو يسمع أولو أمر المرور والدفاع المدني رأيي لجعلت من هذا الموقف حالة دراسية (Case Study) فهي بسيطة ولكنها تكون صعبة في ظل عقليتنا المستحكمة. البلاء في العقلية، وهذا ما يجعلنا عصبيين ومندفعين, وهذا ما يجعل السائق يقف في الطريق السريع ويعود إلى الوراء ريوس لأنه فوت المخرج, وهذا ما يجعل السائق يعكس الاتجاه عشرات الأمتار ليقف أمام الدكان الذي يقصده أو يدخل في الشارع الذي يريده. وهذا ما يجعلنا نضع كل اللوم على ضعف الاقتصاد, فعندما تكون الفلوس كثيرة لا مشكلة إذا لم ينفع هذا جب غيره وإذا خرب مشروع فالحمد لله، خير الله واجد نسوي غيره . لو يسمع رأيي، لأوقفت التعليم والدورات لمدة عام وجعلته عاماً مكثفاً لتدريس المواطنين كافة التفكير العقلاني Rational Thinking ومبدأ حل المشاكل Solving problem ومهارات الاتصال Communication وكذلك كل المهارات البديهية المطلوبة. والله المستعان. fahads * suhuf.net.sa