كانت وصايا أهل نجد في العادة,, وخلال أزمنة طويلة,, تدور في فلك الاضاحي غالبا حيث تقوم حياة أغلب السكان وخصوصا في القرى، على الفلاحة والزراعة,, ومن يملك في تلك الأزمان نخلا أو مزرعة تدر عليه سنويا ما يغذي أهله من التمر والقمح,, فإنه يعتبر ذا حظ عظيم,,! ولذلك تكون المحافظة على استمرارية العطاء والإنتاج لهذه النخيل، أو هذه المزارع التي ينشط حظها بنزول الغيث والتسابق الى حرثها وبذرها والاستدانة فيها حتى تؤتي ثمارها التي يأخذ الدائن منها نصيب الأسد. وتكون المحافظة شديدة على استمرارية هذه الأملاك عن طريق الايصاء فيها بعدد كبير من الاضاحي لمورثها الأول والأقارب الذين تشملهم وصيته. ويجعل الرجل وصيَّته في النخل الذي يملكه، أو حتى في الشقص منه، أو المزرعة، أو البيت وقفاً مؤبدا على الاشخاص الذين يذكرهم في وصيته ما تعاقبوا وما تناسلوا جيلا بعد جيل. ولعل السر والحكمة لأهل نجد في تركيز الكثير من وصاياهم على الأضاحي، ان الموصي يريد من الموصى لهم أن يحافظوا على هذه الأملاك باقية لهم ولذرياتهم، فلا يتصرفون فيها بداعي الفقر والحاجة الى بيعها أو رهنها أو هبتها الى غيرهم,, بل عليهم أن يرعوا هذه المصلحة التي يأكلون ثمرها وحبوبها، أو بيوتا يسكنونها، وبالتالي يلزمهم ان يذبحوا للموصي ومن معه في الوصية عددا من الأضاحي التي هي أيضا فرحة لهم ولعوائلهم ليأكلوا لحمها طريًّا وقديدا، بعد ان يطعموا منها الفقراء، ويهدوا للأقارب والجيران. وكان للحم في تلك الأزمنة شأن أيما شأن,,! وذلك لفقر الناس عامة إلا القلة القليلة,, فلا يستطيعون شراء اللحم الا على فترات متباعدة جدا، تعد بالشهور لا بالأيام والأسابيع، بل يقال: إن بعض البيوت لا تذوق اللحم الا في عيد الأضحى, فليتذكر المسرفون في الأعراس والمناسبات هذه الأيام ان النعمة لا تدوم! وان ابتذالهم للنعمة حري بالعقاب الدنيوي قبل الأخروي,. لهذا كانت العادة عند اهل نجد وربما عند غيرهم ان تكون الوصايا في الأغلب الأعم هي الأضاحي للسبب الذي قدمته,. ومع غلبة الوصايا بالأضاحي، فإن أهل نجد يوقفون في أملاكهم من نخيل ومزارع وبيوت أوقافا كثيرة على المساجد، وأئمتها ومؤذنيها، وعلى السُّرُجِ، وأدوات الوضوء، من دلاء، وأرشية، ومحَّالة، ومرو، ونحوها، وعلى افطار الصوام,, إلخ. أما الغريب في هذه العادة النجدية، فهي قَصرُ الأضاحي على الأموات فقط,,! ولا تجد من يضحي عن نفسه وأهله الأحياء الا نادرا. بل لو ذبح أحدهم أضحية عنه وعن اهل بيته الأحياء لقالوا له: فأل الله ولا فالك تفاول علينا بالموت ؟ وذلك لما وقر في أذهانهم بأن الأضحية خاصة بالميت حيث استحكمت فيهم هذه العادة,, والعلماء عفا الله عنهم ورحمهم لم يرشدوا العامة الى ان سنية الأضحية هي في حق الأحياء آكد منها في حق الأموات اقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ولعل المناسبة تدعوني الى ذكر الصيغة المعتادة غالبا في كتابة الوصية كما اطلعت على بعضها وهي كالآتي: يوصي فلان وهو صحيح شحيح بعد ما شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن عيسى عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها الى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور بثلث ماله في النخل الفلاني أو المزرعة الفلانية او البيت لوالديه، ويسميهم، ولزوجته فلانة,, وكذا وكذا الاضاحي من الأقارب الأموات، او المسجد كذا ولإمامه ومؤذنه، وللصوام، والسرج والدلاء وغيرها,, ثم يورد كاتب الوصية وبإذن الموصي الآية الكريمة فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم والذين يوردون هذه الآية في وصاياهم، هم الذين يخافون على ورثتهم من التصرفات الحمقى في أملاك مورثيهم، من بيع، او رهن او نحو ذلك. أما اليوم فقد تعطلت منافع هذه الوصايا والأوقاف فالنخيل والمزارع في القرى والمدن لم تعد ذات جدوى، وأصبحت الأضاحي تبرعا من الأحياء للأموات ونسأل الله برحمته ان يتقبلها عن الأحياء والأموات. واليقين ان الذي يصل ثوابه من الأحياء الى الاموات هي الأشياء الثلاثة التي وردت في الحديث الصحيح إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، او علم ينتفع به، او ولد صالح يدعو له نسأل الله ان يرشدنا الى كل خير ويجنبنا كل شر. وكل عيد وأنتم بخير.