تبدأ (أم سعود) قبل أيام عيد الأضحى المبارك من كل عام بتنفيذ ما في ذمتها من "وصايا الأضاحي" بعد أن جمعت أجار "سبل جدها" في حي دخنة وسط الرياض، لتتفاجأ أن هناك عجزاً بين ما جمعته من مبلغ زهيد وبين قيمة الأضاحي في الوقت الحالي، لتلجأ بعد ذلك إلى أبنائها لسد العجز، ثم تسير معهم في رحلة البحث عن "الوصايا" في سوق الماشية، وتحددهم بالاسم هذا لأبوي، وهذا لأمي، وهذا لجدي، وهذا لأبو جدي،..وهكذا يستمر العمل بهذه "الوصايا" جيلاً بعد جيل، لتبقى مسؤولية حمل الأمانة كبيرة، حيث تمسك البعض بهذه الأمانة وآخرون لم يستطيعوا الالتزام بها.. وفي مقابل قصة (أم سعود) ظهر جيل آخر غير مهتم بقيمة هذه "الوصايا"، أو على أقل تقدير غير قادر على تحمل مسؤولية الحفاظ عليها مدة طويلة من الزمن، فذلك الشاب المولع بالطرب بعثه والده يوم العيد لشراء "وصية جده" من السوق، واثناء عودته وهو يجرها خلفه..سمع مجموعة من شباب المدينة يؤدون لحناً شجياً للشاعر محمد بن لعبون: لفتت الغزلان وبطون السلق ما كشف غراتهن كود البريق فربط "الوصية" بجذع شجرة وانطلق لينضم مشاركا في احد الصفوف بعد أن طوح شماغه وعقاله، وعندما فرغوا من سامريتهم تلك، سأل الحاضرين ترى لمن القصيدة؟ قالوا للشاعر محمد بن لعبون، فسأل مرة أخرى هل هو حي أم ميت؟، قالوا بل متوفى -رحمه الله-، ثم انطلق إلى "وصية جده" ووجهها نحو القبلة، وكبر، ثم جر السكين على حلقها مردداً: اللهم انها للشاعر محمد بن لعبون، متناسياً وصية جده..!، وقبل هذا والده الذي ينتظره!. نصف حمار وثلث بقرة! لقد بلغت الاضحية أو "الوصية" في نظر الأجيال الماضية أعلى درجات البر بالميت، نتج عنها ذلك الكم الهائل من (الوصايا)؛ حتى لا تكاد أي وصية تكتب الا وجاءت الاضحية في مقدمة الوصايا، يأتي بعدها (عشاء الوالدين) في رمضان، والحجة، ثم زيت أو "فتيلة" سراج المسجد، وكان الموصي لا يقصر الاضحية على نفسه بل له ولوالديه وبعض اقاربه، وكثير من تلك "الوصايا" لا تستند إلى عين ثابتة يصرف من ريعها أو مصدر آمن على مدى الحياة، ولكن الطريف أن البعض أوقف (نصف حماره)، أو (ثلث بقرته) بعد وفاته ليصرف منها في اعمال البر ويضحى منها له ولوالديه كل عام، وذلك لأن الحمار والبقرة كانتا تمثلان مصدر دخل في نقل البضائع وبيع الحليب، ولكن قد يفنى الحمار ومثله البقرة وتبقى الوصية تنتقل من جيل إلى جيل حتى اجتمع على بعض الاشخاص من ذوي الدخل المحدود عشرات الوصايا تتضمن كل واحدة أضحية أو أكثر مما أثقلتهم مادياً. الحياة تغيرت واتفق كل من بدر محمد الحربي وأبو ثامر وسعود المصلح على ان اسرهم تعاني فعلا من تنفيذ وصايا اضاحي لا يوجد لها مصدر أو لا يكفي المصدر قيمة الاضاحي الموصى بها سنويا، بسبب تآكل هذه المصادر مع الارتفاع الكبير لقيمة الاضاحي عاما بعد آخر، ويشير أحدهم ويعمل موظفا براتب لايتجاوز 5000 ريال ان لديه اربع وصايا بعضها شفهي ولا يوجد لها مصادر كافية مما يجعله يدفع أكثر من نصف راتبه في ظروف حرجة جدا مع اقتراب عيد الاضحى وأخلَّ ذلك بمصاريف اسرته واحتياجات العيد وهو يؤديها منفردة كما قال تقديرا لقيمة ومعزة الموصين والموصى لهم حتى لو كان في ذلك رخصة متمثلة في افتقاد أو عدم كفاية المصدر. ويذكر سعود وهو العائل لوالده ووالدته والموظف الوحيد في الاسرة أن تجذر بعض العادات والمفاهيم في اذهان بعض كبار السن من غير المتعلمين المتمسكين ب (فتاوى المجالس) تجعله يستلم قائمة تحتوي عدداً من الاضاحي من والده ووالدته المسنين تتجاوز خمس ضحايا سنويا لأقارب لهم ضمنهم اخوال واعمام متوفون يلبيها من باب البر بهما وتقديرا لمشاعرهم؛ حتى وان اثقلت مصاريفه وأخلت بالتزاماته ويزيد من ذلك اصرار والده ان تكون بعض الضحايا بمواصفات (الكبشين الاقرنين) أو الاملحين التي وردت في النص النبوي الكريم، والتي يبدأ أقلها من 2000 ريال ولا يكفي راتبه الذي لا يتجاوز 4800 ريال لهذه المطالب، مما يضطره سنويا إلى الاقتراض من بعض معارفه. وقال ان الاضحية تغيرت بتغير ظروف الزمان فالأضحية التي كان قيمتها 3 ريالات أو صاع ملح وقت كتابة الوصية قبل ثلاثة أو اربعة قرون تصل حاليا إلى آلاف الريالات، مقدماً تساؤلاً مهماً لماذا لايتولى علماؤنا والاقتصاديون لدينا خطة لتوجية المجتمع إلى البدائل الاخرى المتمثلة بالذبح خارج المملكة عن طريق المؤسسات الخيرية للحفاظ على استقرار الاسعار وحجم الثروة الحيوانية ولأن في الخارج فقراء معدمين محتاجين فعلا إلى من يمد لهم يد المساعدة؟ تجربة ناجحة الشيخ عبدالعزيز بن فهد الحمد الفهيد، والاستاذ عبدالله بن عبد الرحمن الفهيد، والاستاذ نايف بن صالح الفهيد من الاسر الكبيرة المرتبطة بوصايا الجد السادس أو السابع التي كتب بعضها منذ ما يقارب 200 عام، الا انهم بقوا كنموذج للاسر المتحضرة التي تتعامل مع الوصايا بما فيها الاضاحي وفق معايير معينة قائمة على بعد النظر وتحقيق العدالة وابراء الذمة والاسرة مجتمعة تنفذ شراء الوصايا يتطلب الالتزام بمواصفات الموصي وصايا اضاحٍ تصل سنويا إلى هامش المئات من الاضاحي لكنها توزع وفق قائمة مجدولة حسب التفرع الاسري، فالاسرة كلها ممكن ان تكون مرتبطة بوصايا الجد السابع مثلا (جد كل الاسرة ) ويرتبط ايضا كل فرع بالاجداد الآخرين.. السادس والخامس وهكذا. ويشير الاستاذ عبدالله أن تعدد مرات الادوار يرتبط بعدد الورثة فيقول بالنسبة لنا فقد تم جدولة الادوار بين اربعة بيوت لمدة عشر سنوات تتنقل بينهم سنويا وقد تصل في بعض السنوات إلى 14 أضحية عند أحدهم وقد يكون أحد الورثة في بريدة مثلا وآخر في الأسياح وثالث في الرياض وهي فرصة أن يصل ثوابها إلى العديد من المحتاجين في اماكن متفرقة. أحكام وصايا الأضاحي وأوضح رئيس المحكمة العامة في الأسياح الشيخ عبدالله بن محمد العميريني جملة من الأحكام الخاصة بالأضحية و"الوصايا"، وهي كما يلي: - حكم الأضحية: أجمع العلماء على مشروعيتها والصحيح أنها سنة مؤكدة على كل قادر من المسلمين، ومن لم يضح فإن النبي صلى الله عليه وسلم كفاه ذلك وضحى عن أمته، وهي عبادة قديمة تعبدالله بها الأمم قبلنا وهي سنة أبينا إبراهيم عليه السلام حين فدى الله ابنه بذبح عظيم. - الأصل أن الأضحية للحي كما ورد في السنة فقد جاء في فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عنه وعن أهل بيته وقد خاطب الأحياء بمشروعية الأضحية، وأما الأموات فيجوز أن يضحى عنهم. - ذكرالشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله أن الأضحية عن الأموات ثلاثة أقسام، هي: الأول:أن يضحي عنهم تبعاً للأحياء مثل أن يضحي الرجل عنه وعن أهل بيته وينوي بهم الأحياء والأموات،(وهذا جائز). الثاني:أن يضحي عن الأموات بمقتضى وصاياهم تنفيذاً لها (وهذا واجب إلا إن عجز عن ذلك). الثالث: أن يضحي عن الأموات تبرعاً مستقلين عن الأحياء ( بأن يذبح لأبيه أضحية مستقلة أو لأمه أضحية مستقلة) فهذه جائزة، وقد نص فقهاء الحنابلة على أن ثوابها يصل إلى الميت وينتفع به قياساً على الصدقة عنه. ولكن لا نرى أن تخصيص الميت بالأضحية من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يضح عن أحد من أمواته بخصوصه، ولم يرد عن أصحابه في عهده أن أحداً منهم ضحى عن أحد من أمواته. ونرى أيضاً من الخطأ ما يفعله بعض من الناس يضحون عن أمواتهم تبرعاً، أو بمقتضى وصاياهم ولا يضحون عن أنفسهم وأهليهم، ولو علموا أن الرجل إذا ضحى من ماله عن نفسه وأهله شمل أهله الأحياء والأموات لما عدلوا عنه إلى عملهم ذلك. - الأصل أن الأضحية عن الحي وأهل بيته الأحياء، وأما عن الميت فإذا أوصى الموصي قبل وفاته بأضحية له أو له ولغيره وذلك من ثلث ماله أو ريع وقفه فإنه يلزم الوصي والوكيل تنفيذ الوصية حسب مانص عليه الموصي، ولا يصرف ذلك بالصدقة بثمنها، وإذا كان ريع الوصية لا يكفي لعدد الأضاحي التي أوصى بها الموصي كأن يوصي بثلاث أضاحٍ لثلاثة أشخاص فإن كان الريع لايكفي إلا لأضحية واحدة فينظر في وصية الموصي فإن كان في الوصية ما يدل على الترتيب فيضحى عن الأول فقط، وإن لم يكن فيها ما يدل على الترتيب فيضحى جانب من وصية أبن فهيد -رحمه الله- بواحدة وتنوى عن الجميع لأن مراد الموصي أن تنفذ الوصية، وإنما عددها الموصي ظناً منه وبناء على كفاية الريع فإذا لم يكف الريع فإن الوصية لاتعطل، وإن لم يكف الريع ولا لأضحية واحدة فإن أمكن جمع ريع وصايا غيره معه وإلا أبقى الثمن حتى يكتمل، وليعلم عرفاً أن وصايا أهل نجد بالأضحية إذا أطلقوها ولم يحددوا فإن الأصل أنها على الدوام إلا أن يجعلوها مرة واحدة. - إذا نص الموصي على الأضحية فلا يجوز للوصي العدول إلى التصدق بثمنها، لأن ذلك عمل بخلاف نص الموصي ونص الموصي يجب العمل به، وأما إذا لم يكن هناك وصية بذلك فهل الأفضل الأضحية عن الميت أم الصدقة بثمنها؟ ذهب كثير من العلماء إلى أن ذبحها أفضل وهو اختيار ابن تيمية وذهب البعض على أن الصدقة بالثمن أفضل لأن التضحية عن الميت لم يكن معروفاً، ومن المحققين من ذكر أنه في البلد الذي تكثر فيه الذبائح ويكون الناس في غنى عن اللحم، يكون في هذه الحالة التصدق بثمن الأضحية عن الميت أفضل.. لأن الناس كلهم عندهم لحوم، وكلهم مستغنون يوم العيد وفي اليومين التاليين له، ولكن لعل أكثرهم بحاجة إلى دراهم يشتري بها ثوبًا لابنته، أو لعبة، أو حلوى لأطفاله أو غير ذلك، فهم في حاجة إلى من يوسع عليهم في هذه الأيام المباركة. - إن بعض الأفعال التي يفعلها بعض العامة من لطخ الجباه بدم الأضحية أو إهراق الماء على الأضحية عند الذبح أو أن الإمام بعد صلاة العيد وقبل الذبح للأضحية يتوضأ لذلك باعتقاد أن ذلك فيه فضل وسنة لا يجوز لأنه لم يرد دليل على ذلك، كما أن من الاعتقادات الخاطئة أن يعتقد بعض العوام سنية الذبح عن الميت في السنة التي يموت فيها وهو ما يسمى (الحفرة) فهذا لا يجوز وإذا اعتقدوا أن ذبحها يوسع عليه في حفرته أو يؤنسه فقد أخطأوا في هذا الاعتقاد، بخلاف مالو وقع ذلك بدون قصد فلا بأس.