لقد كتب الكاتبون عن الأحداث الإجرامية الإرهابية الأخيرة التي ابتليت بها بلادنا والتي حاول فيها فئة من الإرهابيين القتلة تدنيس معظم مناطق المملكة العربية السعودية وبث الرعب في نفوس أبنائها بدءاً من عاصمتنا الحبيبة «الرياض» التي طالتها التفجيرات الغادرة مرتين وأزهقت فيها نفوسا طاهرة بريئة مرورا ببقية مناطق المملكة التي لم يستثن منها حتى حرم الله في مكةالمكرمة مهبط الوحي وقبلة المسلمين، ولا مدينة رسول الله «طيبة الطيبة» التي تضم مسجده صلى الله عليه وسلم الذي تشد إليه الرحال. وكنت سأكتفي بمتابعة ذلك السيل الهادر من المقالات والأبحاث والدراسات التي أجمع أصحابها على شجب واستنكار وإدانة هذه الأعمال الجبانة والبراءة من مقترفيها.. وأسهب بعضها في توصيف العلة وذكر أسبابها وبعض وسائل علاجها وكانت تلك الأقلام تمثل سائر فئات المجتمع السعودي الذي يتميز بترابط أبنائه الشديد وبخاصة أثناء الأزمات حمى الله وطننا من شرورها. كنت سأكتفي بمتابعة ذلك لولا انني وجدت وكل حامل قلم مطالبا بالاسهام في انكار هذا المنكر وتعرية هذا الباطل وكشف اهداف هذه الشرذمة الضالة الخارجة على جماعة المسلمين والمحاربة لله ولرسوله.. والساعية في الأرض فسادا وافسادا.. المستحلة للدماء المعصومة العابثة بأمن الوطن. فمما لا شك فيه ان الصراع بين قوى الخير وقوى الشر قائم منذ الأزل، والخروج عن الجماعة قديم قدم وجود الجماعات البشرية، والخروج على جماعة المسلمين بدأ منذ فجر الإسلام، فالمنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتن المرتدين في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه استشهد بأيدي الغدر والخيانة الخارجة على اجماع المسلمين، وعثمان بن عفان رضي الله عنه سفك دمه ظلما وعدوانا بتلك الأيادي الآثمة الخارجة عن منهج الحق والهدى وعن اجماع المسلمين، وفي عهد الخليفة الراشد الرابع علي بن ابي طالب كرم الله وجهه ظهر الوجه الكالح لتلك الفئات الباغية الخارجة عن اجماع الأمة وبرزت قياداتهم وجموعهم بشكل علني، وعرفهم المجتمع الإسلامي بالخوارج حيث كانت لهم مع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه مواقف معروفة، بدأها بالحوار الذي أنقذ الله به بعض المفتونين منهم وكشف الله به سفاكي الدماء ومثيري الفتن وباذري الشقاق، وكانت للإمام علي معهم صدامات ومعارك انتصر في ختامها وحين هُنئ بالنصر قال للمهنئين: لم ننته بعد من هذه الفئات الضالة فمازالوا في أصلابنا وفي أرحام نسائنا، أو كما قال رضي الله عنه.. وقد رزقه الله الشهادة بتخطيط خبثائهم وتنفيذ وضعائهم، وهي الفئات نفسها التي أخبر عنها الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم بأنهم: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».. وأفراد هذه الفئات الضالة المضللة يتشكلون في مختلف العصور.. وتبتلى بهم أكثر المجتمعات، وتراهم أحيانا يلبسون مسوح التقوى، ويتظاهرون بالغيرة على القيم والمثل. والتقوى والقيم براء من فظائعهم: {ومٌنّ النَّاسٌ مّن يٍعًجٌبٍكّ قّوًلٍهٍ فٌي الحّيّاةٌ الدٍَنًيّا ويٍشًهٌدٍ اللَّهّ عّلّى" مّا فٌي قّلًبٌهٌ وهٍوّ أّلّدٍَ الخٌصّامٌ وإذّا تّوّلَّى" سّعّى" فٌي الأّرًضٌ لٌيٍفًسٌدّ فٌيهّا ويٍهًلٌكّ الحّرًثّ والنَّسًلّ واللَّهٍ لا يٍحٌبٍَ الفّسّادّ وإذّا قٌيلّ لّهٍ اتَّقٌ اللَّهّ أّخّذّتًهٍ العٌزَّةٍ بٌالإثًمٌ فّحّسًبٍهٍ جّهّنَّمٍ ولّبٌئًسّ المٌهّادٍ}، {قٍلً هّلً نٍنّبٌَئٍكٍم بٌالأّخًسّرٌينّ أّعًمّالاْ الذٌينّ ضّلَّ سّعًيٍهٍمً فٌي الحّيّاةٌ الدٍَنًيّا وهٍمً يّحًسّبٍونّ أّنَّهٍمً يٍحًسٌنٍونّ صٍنًعْا}، {أّفّمّن زٍيٌَنّ لّهٍ سٍوءٍ عّمّلٌهٌ فّرّآهٍ حّسّنْا} بل تجد لبعضهم ذرابة اللسان وقوة المنطق التي تمكنه من غمط الحق وتزيين الباطل تضليلا للبسطاء، ومحدودي الفكر وقليلي التجربة الذين تجرفهم تلك الأفكار المنحرفة فتقودهم إلى الانحراف المؤدي إلى الإرهاب، الذي يعتبره العقلاء من أشرس أنواع الشرور والآثام، وأشدها ضرراً على الإنسانية، فهو من ألد أعداء الأمن والاستقرار والسلام، لأنه اعتداء آثم على الأرواح البريئة المعصومة، وتدمير وسفك للدماء الطاهرة، ونشر للرعب بين الآمنين، وكل ذلك مما تحرمه الأديان السماوية، وتنفر منه الطبائع البشرية السوية، ولا يقره عقل ولا دين، وديننا الإسلامي دين الرحمة والتسامح والسلام ينكر هذه الجرائم الشنيعة ويحرمها على أتباعه في كل زمان ومكان، وظهور هذه الفئات الضالة في مجتمعنا السعودي المسلم في هذا العصر يأتي امتدادا لاسلافهم من خوارج العصور الإسلامية المختلفة، ولست مع من يتهم مناهجنا الدراسية التي خرجت فطاحل الرجال، ومازالت منهلا صافيا لا تكدره دعاوى المدعين.. ولست مع من يتهم جمعياتنا الخيرية ظلما وزورا ولا من يوجه اصابع الاتهام لمؤسساتنا الدينية التي تحرس الفضيلة وتحارب الرذائل بدعم سخي من دولتنا السعودية الراشدة التي قامت على نصرة الدين الإسلامي وعلى الأمر بالمعروف الذي يرسخ في نفوس المجتمع العقيدة الإسلامية الصافية، ويطهرهم من الشرور والآثام ويحميهم من مضلات الفتن ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وإذا كان الخوارج قد اتهموا الخليفة الراشد علي بن أبي طالب أحد العشرة المبشرين بالجنة بالكفر والارتداد وطالبوه بالتوبة.. فكيف نستغرب من خلفهم في عصرنا ان يكفروا علماءنا وحكامنا وعامتنا، ويستبيحوا الدماء والأعراض التي عصمها الله ظلما وبغيا وعدوانا.. لكن الذي نستغربه ان يمارس هذا الانحراف طغام من صغار السن الذين لفظتهم مدارسنا وضاقت بهم جامعاتنا، ونبذهم المجتمع في غفلة من أسرهم وذويهم فاحتضنهم اعداؤنا وعبأوا عقولهم الفارغة من كل خير وهدى وإنسانية.. وشحنوها بالباطل والزيغ والانحراف، وصوبوهم حرابا إلى صدور آبائهم واخوانهم واخواتهم وامهاتهم ومواطنيهم ومعاهديهم، ومجتمعهم الذي ينعم بالأمن والرخاء والاستقرار في ظل دولة قامت على العقيدة الإسلامية، فَطَبقَت الحكم بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأقامت لذلك محاكمها ومعاهدها وجامعاتها الإسلامية.. واستحقت شرف خدمة البيتين وكسبت ثقة المسلمين في جميع أصقاع الأرض الذين وجدوا فيها الناصر والمعين والمدافع عن حقوق الإسلام والمسلمين! نعم نستغرب خروج هذه الفئة الضالة المنحرفة في بلادنا التي تحكم بكتاب الله وسنة رسوله وتتشرف بخدمة الحرمين الشريفين وتقيم لكتاب الله مُجَمعا تصل طباعته وترجمات معانيه إلى أصقاع الأرض.. وتخص الحسبة بجهاز حكومي يندر مثيله في الأقطار الإسلامية وتساند الدعاة إلى الله في جميع أقطار المعمورة وقبل ذلك كله وبعد ذلك كله تطبق في نظام حكمها وفي محاكمها شريعة الله قولا وعملا، مع رفض تام للقوانين الوضعية أياً كان مصدرها، فلا حكم إلا لله الخالق البارئ المدبر لشؤون خلقه.. لكننا ونحن في قمة استغرابنا نرجع إلى ادراك حقيقة هذه الفرقة الضالة التي يتوقع ظهورها في المجتمعات الملتزمة وغير الملتزمة فالإرهاب ليس له دين ولا دولة ولا ملة.. ومرتكبوه موجودون في جميع الأديان وفي معظم المجتمعات البشرية والفتن والمحن ليس لها زمن ولا عصر محدد.. وقد تحصل بسبب غفلة عن طاعة.. أو قصور في عبادة لا يخلو منها مجتمع ولا يسلم منها جيل.. وقد تكون من أنواع الابتلاءات التي يطهر الله بها النفوس ويوقظ بها المجتمعات ومع ذلك فإننا لا نبرئ أنفسنا من القصور ولا ندعي لها الكمال لذلك فإننا مطالبون بتعزيز أدوارنا التربوية والاجتماعية والتوعوية فجميعنا مطالب بأداء الدور المطلوب منه في نشر الدين الصحيح، جميعنا عليه مسؤولية توضيح دين الله الحق الذي ينبذ الغلو ويحارب التطرف ويدعو إلى الوسطية، وكما ينبذ الغلو في الدين فإنه يحرم الانحراف بجميع اشكاله، ويدعو إلى الاستقامة: {قٍلً هّذٌهٌ سّبٌيلٌي أّدًعٍو إلّى اللَّهٌ عّلّى" بّصٌيرّةُ أّنّا ومّنٌ اتَّبّعّنٌي}. {قٍلً إنَّنٌي هّدّانٌي رّبٌَي إلّى" صٌرّاطُ مٍَسًتّقٌيمُ دٌينْا قٌيّمْا مٌَلَّةّ إبًرّاهٌيمّ حّنٌيفْا ومّا كّانّ مٌنّ المٍشًرٌكٌينّ}. شبابنا اليوم تتجاذبهم تيارات مختلفة، تيار أهل الزيغ والانحراف ويتولى تخريبه عصابات المخدرات، وقنوات فضائية ذات أرقام سرية ومشفرة إلى جانب مستنقعات الإنترنت، وتيار أهل الضلال والغلو والتكفير، وهؤلاء تولى أمرهم خفافيش الظلام ودعاة الفتنة إلى جانب مواقع من ماخورات الإنترنت يتلقون عنها التوجيهات المضللة والفتاوئ الآثمة بعد غسل أدمغتهم. والخوف كل الخوف على شباب الصحوة الحقيقيين الذين تغص بهم حلقات المساجد الآن وترى فيهم الأمة أملها، هؤلاء هم أمانة في أعناقنا، ومسؤوليتنا حمايتهم من دعاة الانحراف ومن دعاة الضلال، كما اننا جميعنا مسؤول عمن حوله ممن استرعاه الله أمرهم، فالأسرة الصغيرة في كل منزل مسؤولة عن رعاية أبنائها وتوجيههم التوجيه الإسلامي الصحيح، وعدم الانشغال عنهم بتراكم مشاكل الحياة مهما تعددت، أو تسليمهم لرفاق السوء، أو لما تبثه بعض القنوات الفضائية، أو لبعض مستنقعات «الإنترنت» دون رقابة من أبوين يفترض فيهما الاستقامة على دين الله والالتزام بمنهج الإسلام، حتى تحقق فيهما القدوة الحسنة فيستطيعان القيام بواجب الإشراف التربوي، الذي يحقق للطفل وللشاب التشرب بالمثل العليا والأخلاق الصالحة والقيم القويمة من خلال سلوك مكتسب يمنحه مناعة يقاوم بها معاول الهدم وتيارات الانحراف والغلو.. فلا تستطيع ان تجذبه إلى أوحال الفكر الضال أو السلوك المتطرف أو الاتجاهات الفاسدة. والمجتمع إذا صلحت وحدته الصغيرة: «الأسرة» ونهضت بواجباتها الدينية والتربوية والاجتماعية وفق تعاليم الدين الحنيف وحصنت أفرادها بسياج التقوى والإيمان أصبح مجتمعاً قوياً متماسكا يصعب اختراقه من ذوي الأفكار الضالة والسلوك المنحرف يأتي بعد ذلك دور المدرسة والجامعة، والمسجد، وعلماء الأمة، ومفكريها ووسائل إعلامها، فتحصين أبنائنا وبناتنا من كل فكر ضال دخيل ومن كل انحراف ليست مسؤولية خاصة بفرد أو جماعة أو جهة، إنها مسؤوليتنا جميعاً، وعلينا مسؤولية عظمى تجاه أجيالنا فالله الله ان يؤتى الإسلام من أي ثغرة يقوم على حراستها أحدنا.. والله الله في شباب الأمة الذين يتربص بهم المتربصون ويكادون يخطفونهم من بيننا، لنحصنهم من كل فكر ضال ومن كل سلوك منحرف ولنفتح لهم قلوبنا وعقولنا نجيب على تساؤلاتهم ونحاور عقولهم بصفاء ورحابة صدور وتسامح يقربهم إلينا ويحميهم من شر الأشرار ويحفظ لوطننا وحدته واستقراره التي لن نفرط فيها مهما أرجف المرجفون أو زايد المزايدون والله المستعان.