وحتى تتحقق الآثار الحسنة، المرجوة من الولد، يسير التوجيه التربوي معه تدريجياً حسب نمو مداركه، ولكن يجب على ولاة أمره، أن يتعهدوه في هذه المراحل، خطوة خطوة، مراقبة وتوجيهاً، على أن يكون الأبوان حريصين على تهيئة الجو المناسب له: عاطفياً وتآلفاً.. ويكون تعاملهما معه: ليناً من دون ضعف، وشدة من غير عنف.. في مقاربة للآية الكريمة: {المّالٍ وّالًبّنٍونّ زٌينّةٍ الحّيّاةٌ الدٍَنًيّا وّالًبّاقٌيّاتٍ الصَّالٌحّاتٍ خّيًرِ عٌندّ رّبٌَكّ ثّوّابْا وّخّيًرِ أّمّلاْ} [الكهف 46]، وفي حيطة من دلالة الآية الكريمة: {يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا إنَّ مٌنً أّزًوّاجٌكٍمً وأّوًلادٌكٍمً عّدٍوَْا لَّكٍمً فّاحًذّرٍوهٍمً وإن تّعًفٍوا وتّصًفّحٍوا وتّغًفٌرٍوا فّإنَّ اللَّهّ غّفٍورِ رَّحٌيمِ} *التغابن 14*، فالولد قد يكون فتنة لوالديه، وقد يكون عدواً، وقد يكون عاقاً بهما، وقد يكون باراً صالحاً، وكل هذا وما ينشأ عليه من خصال للتربية وحسن المتابعة، والاهتمام والملاحظة من الأبوين دور مهم في استقامته وصلاحه، أو اعوجاجه وفساده، فلا ينبغي للأبوين أن يعينا أولادهما على التمرد، والانسياق في دروب المنحدرات الرديئة، نتيجة غفلتهما عن تصرفات أولادهما وإهمالهما لهم: ليذهبوا حيث شاؤوا، وليخالطوا من لم يعرف بحسن السلوك والاستقامة. ومتى بان للوالدين، ما يريب من الولد: تمرداً على المدرسة، وتباعداً عن البيت، وغياباً فوق المألوف، ورفقاء مشبوهين، فإن دورهما تدارك الأمر قبل استفحاله، ومصارحة هذا الولد، بما يجعله يعدل عن اعوجاجه، فإن رأى الأب أن الأمر لا تحسن فيه، وإنما يزداد متانة وصلة بقرناء السوء.. فأمامه سلطة الدولة، حسب صلاحية العمل، لتعينه في إصلاح، ما أفسده الآخرون، قبل استفحال الأمر، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه ، والمدرسة والجامعة دورهما كبير في التربية، وهما جزء من الدولة وعليهما ثقل كبير في التربية والتوجيه. فالدولة تحرص على استقامة وصلاح كل شاب، مثلما يحرص الآباء عليه، فهو من المجتمع والدولة ترعى المجتمع كله، وتبذل الكثير في سلامة فكر الشباب، وحمايتهم من المؤثرات الوافدة، وهذا من ترابط المجتمع، وتآلف المؤمنين، الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر». ولا يتم شعور الأبوين نحو أولادهما، وحرصهما على المتابعة والرعاية، إذا كان بينهما تنافر ومباعدة، لأن جو المنزل، لابد أن تسوده المودة والرحمة، والانسجام الذي ذكره الله في هذه الآية الكريمة: {وّمٌنً آيّاتٌهٌ أّنً خّلّقّ لّكٍم مٌَنً أّنفٍسٌكٍمً أّزًوّاجْا لٌَتّسًكٍنٍوا إلّيًهّا وّجّعّلّ بّيًنّكٍم مَّوّدَّةْ وّرّحًمّةْ إنَّ فٌي ذّلٌكّ لآيّاتُ لٌَقّوًمُ يّتّفّكَّرٍونّ} [الروم 21]. فانعكاس السكن وراحة النفس، والمودة والرحمة، التي يجب أن تكون ركيزة متينة بين الزوجين، والعش الذي يترعرع فيه الأولاد، كل هذا له دور كبير في الأولاد خلقاً وسمتاً، واستجابة ونجابة، لأن ذلك مما يشعر الأولاد بالطمأنينة وهدوء المشاعر، وعلى النقيض يبث في الأولاد الضجر والرغبة في البحث عما يحقق في الأولاد، ما كان مفقوداً في حياتهم المنزلية، مما يتيح فرصة للأيدي الآثمة بالتقاط هؤلاء الأولاد، ليحسنوا لهم ما كان قبيحاً، وليوغروا صدورهم على العلماء وولاة الأمر، مستغلين جهلهم، وقصر نظرهم للأمور، وحداثة أسنانهم. ولا يظن بعض الناس، أن دور الأبوين ينتهي عند حد معين، بل لابد من الاهتمام والمراقبة، وحث الولد على الجليس الصالح، وتحذيره من قرناء السوء، ومراقبة سيرته، ومن يخالل ومستوياتهم وأفكارهم، أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم : «كل راع مسؤول عن رعيته».. فالأب راع ومسؤول عن رعيته وهم أولاده وأهل بيته، والمسؤولية تحتم عليه الاهتمام بهذه الرعية، ومراقبة أعمالهم وتصرفاتهم، والتقويم من سيرتهم، والاستعانة على ما أعياه، فهم بمن يشاء قريب أو ولي أمر بحسب الموقف.. وتطبيق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأولاد ترغيباً وترهيباً حيث يقول: «مثل الجليس الصالح كمثل حامل المسك، إما أن يحذيك، أو تجد منه ريحاً طيباً، ومثل جليس السوء كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحاً خبيثا».. وانعكاس الصحبة على الأولاد من هذا التوجيه الكريم، يحسن بالوالدين تجسيمه أمام الأولاد، بأشياء محسوسة، تقرب المعقول بالمحسوس، وما بانت نتائجه: في المجتمع الحاضر، أوالبعيد والنصوص الشرعية، وأقوال أهل العلم كثيرة في حسن التوجيه والرعاية، فقد كان هذا من الأولويات التي يحرص عليها في تربية الأبناء وحسن الاهتمام بهم، لأنهم رجال المستقبل وعدة الأمة، فعلى الآباء أولاً، ثم المدارس ثانياً أن يراعوا هذه الأمانة: توجيها ومتابعة، ودعاء مع الله سبحانه للأبناء بالصلاح وحسن الاستقامة، وأن يجنبهم الله المزالق والهفوات التي تسير بهم في طريق الردى، ولو لزم الأمر القسوة عليهم، كما قال الشاعر: فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم ولا يغيب عن أذهان الأبوين: أثر القسوة إذا لم ينفع اللين على الأولاد، وأثر الدعاء الموجه من قلب أب مشفقٍ: لأن من الدعوات المستجابة: دعوة الوالد لولده، أو على ولده.. لأنها لم تصدر هذه الدعوة له في حالة الصلاح والاستقامة الا عن رضا ومودة، فكانت دعوة حرية بالاستجابة لصدورها عن قلب يتمنى لهذا الابن لبرِّه واحسانه بأبيه، فدعا له بالخير والاحسان. وبعكس ذلك الولد المتمرد العاق، الذي أعيا والده نصحه وتأديباً، فسار في درب يحزن والده وولاة الأمر الذين أمر الله بطاعتهم، فكانت الدعوة من والده كلها حرقة وألماً، ورغبة في التخلص منه، فكانت حرية بالاجابة. وأذكر في هذا موقفاً، لأحد الآباء الذي رأى من ابنه تمرداً وانحرافاً، ولما نهاه أبوه عن هذا الدرب، سفه والده وتلفظ عليه بكلام يرضي من غره، ويغضب والديه، ومن شدة ما في قلب الأب من ألم على هذا الابن الذي خرج من المنزل لشأنه فقام الأب وتوضأ، وصلَّى ركعتين دعا فيهما على هذا الولد بالا يرده الله إليه، وبعد ساعات جاءه الخبر بالهاتف بأن ابنه في المستشفى بعد حادث أليم أودى بحياته.. فهل يراعي الأبناء هذا الجانب، وهل يتابع الآباء أولادهم: استقامة وأدباً، وصحبة وفكراً قبل أن يغلوا ويتطرفوا، ومن ثم ينقادوا إلى الإرهاب وترويع الآخرين والإفساد.. ذلك ما نرجوه. نجا من القتل ذكر محمد بن عبدوس في كتاب الوزارة: إن إبراهيم بن ذكوان الحراني الأعور الكاتب، صحب طاق الحراني، ببغداد كان خاصاً بالمهدى، وقال: إن المهدي أنفذ موسى ابنه إلى جرجان، فأنفذ معه إبراهيم الحراني، فخص ابراهيم بموسى، ولطف موضعه منه. فاتصل بالمهدي عنه أشياء تزيّد فيها أعداؤه وكثروا، فكتب المهدى إلى ابنه موسى «الهادي» في حمله إليه، فضنّ به، ودافع عنه. فكتب إليه المهدي: إن لم تحمله خلعتك من العهد، وأسقطت منزلتك، فلم يجد موسى من حمله بداً، وحمله مع بعض خدمه مرفهاً مكرَّماً، وقال للخادم:إذا دنوت من أمير المؤمنين في محله، فقيّد إبراهيم واحمله في محمل، بغير غطاء ولا وطاء، وألبسه جبّة صوف، وأدخله إليه بهذه الصورة، فامتثل الخادم ما أمر به في ذلك، واتفق أنه ورد إلى العسكر - الموضع الذي عسكر فيه المهدي - والمهدي يريد الركوب إلى الصيد، وهو «إذ ذاك - بموضع الروذبار، فبصر بالموكب، فسأل: فقيل خادم موسى ومعه إبراهيم الحراني. فقال: وما حاجتي بالصيد، وهل صيد أطيب من صيد إبراهيم الحراني؟ قال ابراهيم فأدنيت منه، وهو على ظهر فرسه، فقال: ابراهيم؟ قلت لبيك يا أمير المؤمنين.. فقال: لا لبيك.. والله لأقتلنك، ثم والله لأقتلنَّك، ثم والله لأقتلنك.. امض يا خادم به إلى المضرب - يعني الخيمة العظيمة - فحملت وقد يئست من الفرج ومن نفسي، ففزعت إلى الله تعالى بالدعاء.. وانصرف المهدي فأكل «اللوزينج» المسموم المشهور خبره، فمات من وقته، وتخلصت من القتل بفضل الله... واللوزينج نوع من الحلوى يحبّه ملوك بني العباس. وذكر محمد بن عبدوس بعد هذا: أن الهادي لما بلغه موت المهدي، خرج من جرجان إلى بغداد، على دواب البريد، وما سُمِع بخليفة ركب دوابّ البريد غيره، فدخل بغداد والربيع مولى المنصور على الوزارة، كما كان يتقلدها للمهدي، فصرفه وقلّد إبراهيم بن ذكوان والحراني الوزارة، وأنجاه الله من القتل. [3:326].