أجمع عدد من أئمة وخطباء مساجد الجوف على جسامة مسؤولية الخطيب في التعريف بوسطية الإسلام وترسيخها لدى عامة المسلمين لإغلاق الباب أمام دعاوى التشدد والغلو التي تهدد صحة ووحدة الأمة، وتتنافى مع سماحة الإسلام ويسره. وطرح الأئمة والخطباء والدعاة وطلبة العلم بالجوف في هذا الملف رؤيتهم للوسائل التي يجب أن يعتمد عليها الخطيب في التعريف بوسطية الإسلام، وفي مقدمتها الاستدلال الواعي بآيات القرآن الكريم، وما ورد عن الرسول من أحاديث صحيحة، وسؤال العلماء فيما قد يشكل عليه حتى لا تزيغ الأفهام وتزل الأقدام. في البداية يقول الشيخ عبد العزيز بن عبد الكريم المسعر رئيس هيئة محافظة دومة الجندل: إن من دلائل العظمة والخلود والواقعية في التشريع أن جعل الله للمسلمين منبراً أسبوعياً منتظماً يتزودون منه بما يمسكهم بأصول الدين ويربطهم بعزائمه وأمهات مسائله، ولئن كانت الصلوات هي الوظيفة الأولى للمساجد فإن الوظيفة الثانية هي تعليم الناس أمور دينهم وارشادهم إلى طاعة الله ربهم واتباع رسولهم صلى الله عليه وسلم، ومن هذا المنطلق تأتي أهمية الخطيب ودوره في توعية المجتمع لتحقيق الوسطية والاعتدال في السلوك والمنهج وترسيخ مفهومها لدى الناس، وحتى يؤدي الخطيب رسالته على الوجه الذي يرام منه فإن عليه مسؤوليات وواجبات لابد له من مراعاتها والأخذ بها. ولعل من أهمها ما يلي: أولاً: المسؤولية العلمية والثقافية: فالأصل أن لا يرقى المنبر ويخطب خطبة الجمعة إلا من كان متسلحاً بسلاح العلم والمعرفة فإن القول بلا علم ذريعة الى ضلال عريض وفساد كبير. ثانياً: مسؤولية الاستيثاق والتثبت من الوقائع والأحداث والأخبار: فليس من خصائص المسلم فضلا عن خطيب الجمعة أن يكون إمعة ناشراً للأقاويل والشائعات والأخبار غير الموثقة قال تعالى:{وإذّا جّاءّهٍمً أّمًرِ مٌَنّ الأّمًنٌ أّوٌ الخّوًفٌ أّذّاعٍوا بٌهٌ ولّوً رّدٍَوهٍ إلّى الرَّسٍولٌ وإلّى" أٍوًلٌي الأّمًرٌ مٌنًهٍمً لّعّلٌمّهٍ الذٌينّ يّسًتّنبٌطٍونّهٍ}. ثالثاً: مسؤوليته تجاه وحدة الصف والكلمة: فمن أوجب واجبات الخطيب المحافظة على بيضة المسلمين من ان تستباح ويكون ذلك بالتكاتف والتعاون مع ولاة الأمر لمواجهة كل من تسول له نفسه شق الصف وتفريق الكلمة من خلال توعية الناس وتبصيرهم في خطب الجمعة. رابعاً: مسؤولية إحياء القيم والفضائل العظيمة: ومن مسؤوليات الخطيب توجيه الناس الى مكارم الأخلاق التي قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم:«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» فالواجب على الخطيب حث الناس على بر الوالدين وصلة الأرحام والتكافل وغيرها من خلال الخير وأوصاف عباد الرحمن. خامساً: مسؤوليته في تقدير المصلحة والمفسدة: فإن من فقه الخطيب تقدير المصلحة والمفسدة المترتبة على ما سوف يلقيه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الخطبة إنما تقال في مجتمع الناس ولهذا المجتمع مصالح عامة وحيوية فلابد إذاً من أن يراعي الخطيب هذه المصالح ويقدرها فلا يورد في خطبته ما يضر بهذه المصالح أو يفسدها. حماية من الزلل من ناحيته قال رئيس كتابة عدل سكاكا الشيخ عبدالحميد بن خالد الحميد: لاشك ان للخطيب دوراً كبيراً وأثراً بالغاً في بيئته ومجتمعه، فالخطيب بقوة ايمانه ورقة لسانه وتجرده يقتلع بإذن الله جذور الشر من النفوس ويبعث فيها الخشية وحب الحق، ويحمي من زلل الأقدام، وضلال الأفهام، ولهذا فإنه يتوجب على الخطباء أن يلتفتوا ويعتنوا بمسألة الوسطية والاعتدال وتحقيقهما وترسيخ مفهومها لدى الناس لمسيس الحاجة الى ذلك في هذه الأزمنة بالذات. وأول ما يجب على الخطيب القيام به في سبيل ذلك أن يكون قدوة في نفسه فيحقق الوسطية.. ويتمثل الاعتدال من خلال أقواله التي يلقيها على الناس وأفعاله التي يتعامل بها معهم، فلا يجافي التوسط والاعتدال في أحكامه على الناس ولا على الظواهر الاجتماعية ولا على أفراد المجتمع، حيث يتطلب لهم الأعذار ويلتمس لأخطائهم المسوغات ويأخذهم بالأرفق من حالهم ويتقبل الميسور من أخلاقهم ويرضى بظواهرهم ولا يتقصى عن سرائرهم أو يتتبع دخائلهم. ويضيف الشيخ الحميد: فإذا ما فعل الخطيب ذلك من دعوة للتوسط والاعتدال بلسان الحال، انتقل الى الدعوة لهما بلسان المقال فيبين للناس أن منهج الاسلام الصحيح يقوم على الوسطية والاعتدال فلا تفريط فيه أو تقصير، ولا إفراط أو غلو، فلقد ذم الله تعالى المفرطين المقصرين كما في قوله عزوجل {فّخّلّفّ مٌنً بّعًدٌهٌمً خّلًفِ أّضّاعٍوا الصَّلاةّ واتَّبّعٍوا الشَّهّوّاتٌ فّسّوًفّ يّلًقّوًنّ غّيَْا} كما ذم الغالين المجاوزين للحدود الشرعية بقوله سبحانه {تٌلًكّ حٍدٍودٍ اللَّهٌ فّلا تّعًتّدٍوهّا ومّن يّتّعّدَّ حٍدٍودّ اللَّهٌ فّأٍوًلّئٌكّ هٍمٍ الظَّالٌمٍونّ} فالواجب على الأمة المستضيئة بنور ربها وهدي كتابها أن تتلاقى على الطريق الوسط الذي لا عوج فيه ولا إفراط ولا تفريط {وإنَّكّ لّتّدًعٍوهٍمً إلّى" صٌرّاطُ مٍَسًتّقٌيمُ} كما يجب عليه أن يبين للناس آراء علماء الأمة في هذا الأمر وينقل لهم مقولاتهم فيه ودعوتهم له في مؤلفاتهم ومصنفاتهم. كما على الخطيب أيضا أن يبين للناس مساوئ مجانبة التوسط والاعتدال وأن ما حصل من انحرافات عقدية أو عملية من بعض الطوائف والأفراد خلال التاريخ الاسلامي بكامله إنما هو الثمرة المرة لمجافاة التوسط وترك الاعتدال. مسؤولية الأئمة من ناحيته يرى الشيخ عواد بن عبدالرحمن الرويلي إمام وخطيب جامع حي المطار بمحافظة القريات ان خطبة الجمعة تعد من أهم الوسائل التي يجب الاستفادة منها لتعليم الناس أحكام الدين وتبصيرهم بما يجب عليهم خصوصا في أحوال الفتن والاختلافات، ومما يجب على الخطيب في ذلك أن يبين وسطية الاسلام وأنه دين اعتدال لا غلو فيه ولا إفراط ولا تفريط وأن الله سبحانه وتعالى امتن على هذه الأمة الاسلامية فجعلها أمة وسطاً بين الأمم {وكّذّلٌكّ جّعّلًنّاكٍمً أٍمَّةْ وسّطْا} وامتن على أهل السنة فجعلهم وسطاً بين الفرق لا تكفير ولا ارجاء ولا تأليه ولا ادعاء عصمة لأحد، والخطيب الجيد هو الذي يعالج الأخطاء وما يحصل في الساحة من فتن وإفساد وإثارة وشائعات بالحكمة واللين مبينا وسطية الاسلام وعدم الغلو في الدين ويوضح اعتدال الاسلام في الأحداث التي تحصل للأمة سواء في المنهج أو السلوك ويخاطب الناس فيما يهمهم من أمور الدين والدنيا موضحاً خطر النميمة وإثارة الفتن. ويضيف الشيخ الرويلي: كما يجب عليه أن ينظر بالمصالح والمفاسد محارباً لكل الشائعات مقتفياً في ذلك حال السلف رحمهم الله ووسطيتهم واعتدالهم في السلوك والمنهج وأن يصدر الناس عن آراء العلماء الكبار الراسخين في العلم وأن يلتف الناس حولهم ويبين خطر الخروج عن فتاواهم مركزاً على آداب الحوار معهم ووضوح المطالب ومحذراً من التنطع في الدين والتشدق فيه وكثرة القيل والقال. كما يجب على الخطيب أن يبين الأفكار الهدامة والفرق المنحرفة التي تظهر في كل وقت خصوصاً ممن يدعون الاصلاح وهم يثيرون الفتن ويحذر منهم وأن يستشعر مسؤوليته في تربية الأجيال على طاعة الله ورسوله وطاعة ولي الأمر لحماية المجتمع من تحديات العصر. مفهوم الوسطية ويرى الشيخ يوسف بن عبد العزيز المظهور امام وخطيب جامع عثمان بن عفان بسكاكا انه عند الحديث عن المفاهيم المتعلقة بقضايا الامة الجذرية لابد من الوقوف امام الماهية العلمية لها، ولذا لابد من تكوين مفهوم حول الوسطية، باعتبارها منهجا شرعيا بعث به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وجاء التأكيد عليه في شريعة الاسلام حيث يقول الحق تبارك وتعالى:{وكّذّلٌكّ جّعّلًنّاكٍمً أٍمَّةْ وسّطْا لٌَتّكٍونٍوا شٍهّدّّاءّّ عّلّى النَّاسٌ ويّكٍونّ الرَّسٍولٍ عّلّيًكٍمً شّهٌيدْا} [البقرة: 14] . كما يمكن تأسيس رؤية مناسبة لهذا المفهوم الشرعي الشمولي في العلم والتطبيق، من خلال التأمل في الحديث النبوي الذي رواه البخاري في كتاب «الايمان» من صحيحه حيث قال: «باب : الدين يسر»، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أحب الدين الى الله الحنيفية السمحة، ثم ساق بسنده عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ان هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين احد الا غلبه، فسددوا وقاربوا وابشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة. ويؤكد الشيخ المظهور اهمية استيعاب الائمة والخطباء هذا الخطاب النبوي الذي يمثل صياغة شرعية للوسطية فالدين يسر، واليسر هو الوسط، فالدين وسط، والامة وسط، كما نطق التنزيل. وارتكازاً على هذا الادراك لهذه الصياغة التقعيدية ندرك مدى الحاجة لدى عامة اهل الاسلام - ولا سيما في زماننا هذا - الى تحقيق الوسطية والاعتدال في السلوك والمنهج، بل وفي سائر المجالات، ولاشك ان اخواننا فرسان المنابر والدعاة الى الله - وفقهم الله - يدركون حجم الخسائر التي نجنيها بسبب الصلف في المواقف، او الشطط في الرؤى، في تضخيم خارجي مقصود، ليوصم الاسلام ومن انتسب اليه بالغلو والتطرف في وقت قل فيه النصفة، وهذا كله يلقي على كواهل الخطباء، ودعاة الاصلاح المسؤولية الكبرى امام الله، ثم امام هذه الاجيال التي تنشد الخلاص لكشف وتحقيق منهج الوسطية المتألق، وكان الله في عون العاملين لدينهم ومجتمعاتهم وامتهم. تجمع عظيم ويتفق الشيخ حمدان بن محارب الوردي امام وخطيب جامع المشير بسكاكا مع الرأي السابق مؤكدا انه من نعم الله عز وجل على عباده ان جعل لهم مواسم يتدارسون فيها ما يهمهم في امر دينهم ودنياهم ومن هذه المواسم يوم الجمعة وهو تجمع عظيم للمسلمين. ويجتمعون فيه ليسمعوا ما يلقيه على اسماعهم هذا الخطيب حيث إن الشارع جمع له هذه الجموع وامرهم بالاستماع والانصات له ولهذا يجب على الخطيب ان يهتم بهذه الخطبة ويعد لها الاعداد الجيد متمشيا مع الاصول الشرعية التي امر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم فيأتي الى الناس هادئا مطمئنا خاصة في ايام الفتن يدعو الى اجتماع الكلمة وحسن الظن بالآخرين. خاصة من لهم مكانة في المجتمع من العلماء والامراء. ويلفت الشيخ الوردي الى اهمية الاستدلال بالنصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية التي تحث على ذلك وتأمر به وكذلك القصص المأثورة عن سلف هذه الامة ويحاول ان يترجم هذا المفهوم من خلال سيرته في المجتمع وكذلك ينوع في خطبه بين الخطب المنهجية والفقهية ويبتعد عن الاقوال الشاذة ويعتمد في النقل على كلام العلماء والمعروفين المشهورين مع الحذر من الانزلاق لدائرة السياسة في الخطب: فقد يصعب الولوج فيها لانها بحر لا ساحل له، وعلى الخطيب ان يكثر ايضا من تأصيل منهج الوسطية من خلال ما تقدم ويحاول قدر المستطاع ربط الناس بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وما ثبت عنه من معاملته وحسن سيرته وتعامله مع الصحابة رضي الله عنهم ثم تعامله مع اعدائه من الكفار في زمانه وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية ومصالحته مع اليهود في المدينة ومع المنافقين كذلك. ومن خلال ذلك يستطيع الخطيب ان يؤصل منهج الاعتدال في السلوك والمنهج للناس كافة. دروس وعبر أما الشيخ محمد بن مطغان الرويني الداعية بمحافظة القريات فيقول: انه مما يتوجب على خطيب الجمعة أولاً: ان يربط الناس بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والقصص الواردة فيهما وعن سلف هذه الامة. علما بأن القرآن الكريم والسنة النبوية وقصص وتراجم سلف الامة في القرون المفضلة كلها دروس وعبر ونماذج لتحقيق الوسطية في الامور كلها، هذه الوسطية القائمة على قواعد واسس وحوادث لا تتغير ولا تتبدل ولا تؤثر فيها المؤثرات مهما اختلفت الأزمنة والامكنة والاحوال، فهي وسطية في المعتقد، ووسطية في العبادة، ووسطية في الاخلاق والسلوك، ووسطية في المعاملات والاحوال، وتتمثل تلك الوسطية في اروع صورها في شخص النبي صلى الله عليه وسلم وفي سنته وسيرته وكيف كان مع ربه ومع الناس، اسوة حسنة في كل ذلك يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «والله اني لأتقاكم لله واخشاكم له واني اقوم وانام واصوم وافطر واتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» سنته متمثلة فيما اخبر عنه من الوسطية وتتجلى تلك الوسطية في اخلاق صحابته الكرام. ويشير الشيخ الرويني الى كثرة النصوص من الكتاب والسنة التي يجب ان يستند اليها الخطيب لأنها في قوتها ومتانتها سداً منيعاً بين الامة والافراط والتفريط، فلا افراط في الحق يغلو حتى يزيد على الحد ولا تفريط فيه حتى ينقلب الى الضد، والحسنة بين سيئتين، وكل شيء زاد عن حده انقلب الى ضده، ومن استعجل شيئا قبل اوانه عوقب بحرمانه، تلك قواعد شريعتنا وتلك نصوص كتاب ربنا وهذه سنة نبينا كل ذلك كالمحجة البيضاء لا يزيغ عنها الا هالك، الاموال والاعراض والانفس كلها محرمة بل كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه والحلال بين والحرام بين وبينهما امور متشابهات، ومن القرآن آيات محكمات وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، واي فتنة اعظم من افتراق المسلمين وانصداع صفهم ووقوع الخلاف بينهم حتى يرفع بعضهم على بعض سلاحه بدل ان يحمل هم اصلاحه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار» الحرص على الدنيا والحرص على الحياة والحرص على الانتصار حتى ولو لم يكن على حق كل ذلك فتن تدفع بصاحبها في سجن من الهم، وداء من الغم لا يرفع حتى يصدق صاحبه في التوبة والاوبة، وما نزل داء الا بذنب وما رفع الا بتوبة {إلاَّ مّن تّابّ وآمّنّ وعّمٌلّ عّمّلاْ صّالٌحْا فّأٍوًلّئٌكّ يٍبّدٌَلٍ اللَّهٍ سّيٌَئّاتٌهٌمً حّسّنّاتُ وكّانّ اللَّهٍ غّفٍورْا رَّحٌيمْا} . ومسؤولية الامام والخطيب في ترسيخ الوسطية تكون بتقديم سيرة الرسول واصحابه الكرام ومنهج السلف الصالح. الوسطية في اللغة من جانبه يقول الشيخ عيسى بن ابراهيم الدريوش امام وخطيب جامع الدريوش بدومة الجندل: الوسطية في اللغة: قال صاحب لسان العرب «الوسط بسكون السين ظرف لا اسم، جاء على وزن نظيره في المعنى بين» تقول: جلس وسط القوم أي بينهم، وقال ابن بري: وسط بالفتح اسما لما بين طرفي الشيء وهو منه ومن ذلك قولك: (قبضت وسط الحبل) وقيل تأتي بالفتح صفة بمعنى (خيار وأفضل وأجود). قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله أي عدلاً خياراً. ومن هنا يتبين لنا أن القرآن الكريم أنزله الله للناس نوراً يستضيئون بأحكامه ليقوموا على الصراط المستقيم والنهج الصحيح لذلك جاء البيان في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم على توضيح منهج الوسطية والدلالة على طريقها، وهذا هو منهج الإسلام في تقرير الوسطية، ولأنه ما يعوق هذه الأمة في زماننا أن تصل إلى ما وصل إليه سلفنا الصالح إلا أنها تبعثر السير في العمل بالوسطية التي يريدها الإسلام فيصلاً في الاعتقاد والعبادات والتفكير والشعور والتنظيم والأخلاق والارتباطات والعلاقات ومن هنا كان الدور على الخطباء والدعاة وغيرهم أن يبذلوا شيئاً من العلم للناس في بيان الوسطية في الإسلام ويرسخوا هذا المفهوم الشرعي ليتحقق الخير الذي أراده الإسلام لهذه الأمة، فعليهم أن يبذلوا شيئاً من العلم ليتحقق الخير لهذه الأمة لأن الوسطية منهج علم وحياة فلا بد من بذل الجهود من قبل خطباء المساجد وطلاب العلم في بحث منهج الوسطية في الإسلام وبذل الوسع في ذلك وإقامة المحاضرات لبيان أهمية الوسطية في الإسلام وأثرها النير والإيجابي في حياة المجتمعات والعمل على ممارسة النهج من قبلهم ليرى الناس القدوة الصالحة في الوسطية فيتأثروا ويقتدوا حتى لا يتصور الناس أن منهج الوسطية في الإسلام يعني التساهل أو التنازع واتباع الرغبات والميل إلى الشهوات ولا يعني الغلو التطرف بل الوسطية والاعتدال في أخذ الدين وأوامره وتطبيقها بين الإفراط والتفريط وبين الغلو في الدين والجفاء عنه، وما زال دور الخطباء هو الدور المحوري الناجح في علاج الغلو والجفاء وطواهرهما فالمنابر من الوسائل المهمة في مجتمع اليوم، بل هي مكان إعلامي للتوجيه والتعديل الصحيح حتى توظف التوظيف الأمثل من قبل روادها فيقوم الخطيب بتقدير مسؤوليته والاهتمام بالأمانة الملقاة على عاتقه وتجاه الأمة فيعمل على إحياء رسالته لتنمية الوسطية والاعتدال وبيان ذلك للناس ليقموموا بالقسط. ويطرح الشيخ الدريويش عدة وسائل للعلاج والوقاية من خطر الغلو فيقول: إن من أبرز وسائل وأسباب دفع الغلو ومنعه والعمل على زرع جوانب الوقاية من تلك الظواهر هو عن طريق الخطبة أو الحكمة أو المقالة ونحو ذلك. - العمل على حرص الخطباء على الاهتمام ببيان المصطلح الشرعي ضد تيار الانحراف عن المنهج وذلك بتوضيح العقيدة الصحيحة ومنهج الوسطية. - العمل على توثيق الصلة بكتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومعرفة الأحكام الفقهية الضرورية التي تشتد الحاجة إليها في خطبة الجمعة. تنوير الشباب بمخاطر ومنحدرات الغلو واجب من الواجبات على الخطباء لأن المنبر رأس في الإعلام والتوجيه ولأنه من وسائل تصحيح الأفكار المنحرفة والأهداف الخاطئة. فالخطباء طريق لدلالة الناس إلى الخير والعدل فعليهم أن يقوموا بواجبهم الذي لا أراه إلا تكليفاً بمهمة توضيح رسالة الإسلام. نقد هادف أما الشيخ سعد بن خميس الشراري إمام وخطيب جامع أبي أيوب الأنصاري بسكاكا فيقول: إن الحديث حول دور الخطيب في ترسيخ مفهوم الوسطية لا ينفصل عن دوره في نشر الوعي والعلم والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويتأكد هذا الدور بصورة أكبر في زمن الفتن والجهل واختلاط الأمور كما انتشر في هذا الزمن. ويمكن الإشارة إلى بعض ما يستطيعه الخطيب حيال هذا الموضوع في نقاط أهمها: - رد الناس للأصول الشرعية في هذا الموضوع من خلال النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الواضحة البينة. - توجيه الناس إلى القراءة في تفسير هذه الآيات وشرح هذه الأحاديث من خلال الكتب المعتمدة في التفسير وأمهات الكتب الحديثية. - البيان للأضرار والمخاطر المترتبة على ترك الوسطية وما يجره ذلك من ويلات على المجتمع المسلم. - استغلال الأحداث والمناسبات المرتبطة بهذا الموضوع والحديث فيها. - فتح المجال للعامة والخاصة لطرح ما يجول في أفكارهم من استفسارات حول هذا الموضوع والإجابة على ذلك. - ربط العامة بأهل العلم وبفتاواهم في ذلك من خلال قراءة فتاوى أهل العلم على الناس وسؤال أهل العلم حول ما يحتاجه المسلم والعمل بما يقتضيه الجواب. وسطية العقيدة السلوك ويرى الشيخ عبدالهادي بن محمد الفهيقي إمام وخطيب جامع الشيخ محمد بن إبراهيم أن من أعظم ما يتميز به أهل السنة والجماعة أنهم أمة وسط كما وصفهم الله عزَّ وجلَّ بقوله:{وكّذّلٌكّ جّعّلًنّاكٍمً أٍمَّةْ وسّطْا} فأهل السنة والجماعة اتصفوا بهذه الصفة بين الأمم التي تجنح إلى اللغو الضار والأمم تميل إلى التفريط المهلك فكذلك أهل السنة والجماعة متوسطون بين فرق الأمة التي انحرفت عن الصراط المستقيم. وتتجلى وسطية الأمة في شتى الأمور سواء في العقيدة والأحكام والسلوك والأخلاق وغير ذلك، فإذا أدرك الخطيب هذه الأمور وتأمل ما تعيشه الأمة الإسلامية في هذا الزمان من تخبط تحتم عليه أن يقرر منهج الوسطية وكيف أن الأمة الإسلامية وصلت إلى ما وصلت إليه من ازدهار وقوة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد صحابته من بعده، وذلك من خلال أن يبين خطيب الجمعة معنى الوسطية في الإسلام وأن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد تركنا على المحجة البيضاء، من خلال حديثه عن الفرق التي أخذت بطرفي الأمور في مسائل الإيمان وغيرها من المسائل التي غلا فيها طوائف وفرط فيها طوائف أخرى. كذلك على الخطيب أن يقرر خطر الغلو من خلال تاريخ الأمة وأثره على ضعف الأمة وتفرقها بدءاً من الخوارج وأن ديننا الإسلامي ليس فيه غلو بل هو وسط بين الأديان. وعلى الخطيب أن يبين مصدر التلقي للمسلمين الذي هو الكتاب والسنة والأدلة التي قررها علماء الأمة وأن يأخذ هذا الدين من مصدره ومن أشكل عليه شيء في دينه فعليه سؤال أهل العلم. ويضيف الشيخ الفهيقي: وعلى الخطيب أيضاً أن يركز على قضية العقل ومنهج أهل السنة والجماعة فيه وضبطه بضابط الشرع، وترك من آلة العقل وجعله مشرعاً فما تخبطت الفرق إلا بعد أن قاسوا الشرع بالعقل فما قبله العقل أخذوا به وما لم تقبله عقولهم تركوه والعياذ بالله ويجب على الخطيب ألا ينشغل في تنميق الكلمات الرنانة فتغلب على خطبته ففي الآيات والأحاديث وأقوال السلف ما يغني عن ذلك. وسيلة تربوية ومن جانبه يقول الشيخ تراك هليل السمرين إمام وخطيب جامع الكواكبة بسكاكا: تعد خطبة الجمعة من أهم الوسائل التربوية والأساليب الدعوية التي فرضتها الشريعة، وهي تمثل الوجبة الإيمانية الأسبوعية التي يتزود بها المسلم، ليمارس حياته العامة والخاصة مستنيراً بهدي الإسلام وتعاليمه العظيمة، والخطيب الناجح هو الذي يتلمس قضايا مجتمعه ويعالجها في هذه الخطبة مشخصاً الداء والدواء، ومن القضايا المهمة التي ينبغي التركيز عليها في هذه الآونة الوسطية والاعتدال في السلوك والمنهج، إذ إن هذه الأمة الإسلامية أمة وسط كما قال الله تعالى:{وكّذّلٌكّ جّعّلًنّاكٍمً أٍمَّةْ وسّطْا}، والوسط هنا كما قال أهل التفسير هو الخيار والأجود، ووسطيتها تشمل المنهج والسلوك، فقد خصها الله بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب، فلا رهبانية في الإسلام، ولا حرج في الدين، ووسطية هذه الأمة تشمل جميع أمور الدين، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر كما قال ذلك بعض أهل العلم. ويطرح الشيخ السمرين بعض الوسائل التي تعين الخطيب على ترسيخ مفهوم الوسطية في الإسلام ومنها الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللذين لم يتركا في سبيل الهداية قولاً لقائل ولا مجالاً لمشرع يشرع في دين الله ما لم يأذن به الله. والالتزام بالمنهج السلفي الصحيح الذي يدعو إلى اجتماع الكلمة ويحذر من الفرقة والاختلاف. والأخذ عن العلماء الثقات المشهود لهم بالتقى والصلاح، والرجوع إليهم فيما أشكل واستجد من الأحداث. ثم التحذير من المذاهب المنحرفة التي تدعو إلى إثارة الفتن في أوساط المجتمع.. وليعلم كل خطيب أنه في خطبته يوقع عن الله ويتحدث باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه فلا بد من الفهم مما ينقل، والتثبت حتى لا تزال الفهوم وتزل المعهاد الأقدام.