قبل عشرين سنة تخرجت من الثانوية وهي عدد السنوات التي غير فيها مهاتير محمد بحكمة سياساته مجتمع ماليزيا من مجتمع ساكن «ستاتيكي» الى مجتمع متحرك «ديناميكي» ومن مجتمع مستهلك الى مجتمع منتج!.«فنعم القيادة».. وقد كنت آنذاك أصارع جملة من الخيارات التي سوف تحدد مستقبل حياتي العلمية والعملية!. فكان القرار ان اخترت «علم الاجتماع» الذي قوبل بمعارضات شتى على مستويات مختلفة منها ما يقول بأن العلم غربي ومنها ما يقول بأننا لسنا بحاجة الى ما تحب الخوض فيه ومنها ما يرى بأن مستقبل هذا التخصص مظلم ومنها ما يقول بأن الشرع قد كفانا ما أنت بصدد تعلمه وتعليمه.وقد كنت أقول في نفسي ابتداء أوليست هذه المادة تدرس في مجتمعنا؟ أو ليس من الأولى أن نحمل نحن أبناء الوطن مسؤولية تعليمها لنجعلها تتجاوب مع طموحاتنا وتعالج مشكلاتنا إن أمكن.. أو نترك أجيالنا عرضة لأفكار يرى بأنها غير مناسبة!.. الى متى يزدحم الطلاب على تخصصات فيها ما يكفيها!!!. فأغلقت نوافذ الاستماع وعقدت العزم متخذاً وسيلة الاقناع.وذلك ما يوهن العزائم إذ نحن نستمع لما يوهن وربما نتجاوب معه تبريراً أو تكاسلاً أو هروباً من الاستعداد لتحمل المسؤولية.. وأيام كنت صغيراً كتبت متأثراً أن من يقفون أمام علوم التنمية والاجتماع إنما يقفون ضد تطورهم وتقدمهم وذلك مالا يستطيعون ايقافه.. فإما أن تسيّرك المركبة أو تسيرها أنت!.!.. وطبيعة المجتمعات أن تتكاثر وتتقدم إما الى الأمام وإما الى الخلف.. وهنا ما نحتاج اليه من المتخصصين في قراءة «المتغيرات الاجتماعية» ووضع «الخلطة المناسبة التي تتجاوب وتتفاعل مع كل ذلك»... ولعلي لا أفشي سراً إن قلت: إن من كان يقف أمام أهمية علوم المجتمع ينادي اليوم.. بأن اليوم هو يومها!.. وذلك ما نسمعه ونعتز به على مستويات مختلفة. وعلماء المجتمع والمختصون بدراسته - وهذه حقيقة - لهم اليد الطولى في تنمية وتقدم بلاد الغرب.وألتمس العذر أحيانا لذلك.. ذلك أننا قبل عقدين من الزمن لم تكن الدنيا لنا مفتوحة كما هي اليوم.. وكان هناك من البساطة في التناولات والتعاملات ما غيره نموذج الحياة اليوم من الانكشاف والتعقيد.إن المشكلة التي أرى أننا نغفل عنها كثيراً وتلك التي تخلق لنا المشكلات هي أننا لا نفطن الشيء إلا بعد حدوثه.. وذلك ما يخلق الحرج والغلط والعشوائية في التعامل على مختلف المستويات.ولذلك فالحاجة الى قراءة المستقبليات بل وضع البدائل والخيارات المثلى للتعامل معها هو الذي يجعل من المسير متعة ذلك أنك تعلم أين تقف ومتى تسير! وكيف!. وإذا ما غابت هذه المعاني سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي فإن الاحتقان الاجتماعي الذي يفرزه أو تفرزه ردود فعل «اللحظة» دائماً ما يعمد الى المسكنات في التهدئة وتلك لا تعني المعالجة - في عرف الاجتماع الطبي - وإنما انسحاب معامل الألم من الخارج الى الداخل ليولد بعد فترة ورما «غير حميد» تستحيل معه المعالجات والمسكنات.. وذلك أنه يعيش «حالة ممات»!... إن التجديد والابداع دائما ينطلق من التفكير فيما لم يفكر به الناس ولذلك فالانتاج من الابداع والمبدعون هم أولئك الناس الذين يهيئون لمجتمعاتهم بل للبشرية ما يجعل حياتهم أكثر سعادة وأمناً. إن التربية على التقليدية وعلى الاجماع في الأمور كلها هي نوع من «الانتحار الاجتماعي» الذي يربي في نفسية المجتمع الاتكالية وانتظار الأوامر حتى يبدأ العمل!... إننا إذا كنا نعترف وتلك حقيقة بأن بيوتنا القديمة أصبحت شكلا من التراث نظراً لما طرأ من المتغيرات والمستجدات في علوم وهندسة العمران فإن الذي يجب أن لا يخفى بأن للبشر هندسة وعمراناً.. وذلك ما أكد عليه من سبق غيره في ذلك فكان علماً في الشرق والغرب تعلمنا - مع بالغ الأسف - نظرياته في فصول جامعات أمريكا من خلال مقدمته الشهيرة في «علم العمران البشري».. إذ يقول في حاجة وأهمية علم المجتمع بل ضرورة وجود علم خاص بالعمران البشري وما يطرأ عليه بقوله: «واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة،.. وكأنه علم مستنبط النشأة ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة» ثم يقول:«وهذا الفن الذي لاح لنا النظر فيه نجد منه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم مثل ما يذكره الحكماء والعلماء.. من أن البشر متعاونون في وجودهم فيحتاجون الى الحاكم والوازع.. ولكنهم لم يستوفوه - يعني العلم - ونحن الآن نبين ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق.. وتدفع بها الأوهام.. إلخ «المقدمة 63-66»... إن مما يجب أن يقرأ في متغيراتنا الاجتماعية المتسارعة ان مجتمعاتنا تمر بمتغيرات بل قفزات اجتماعية تحدث خللاً في عمل «الميكنة الاجتماعية». وما لم يكن هناك من الأنشطة و«التروس» و«الممأسسة» في المجتمع لتساعد على أداء المجتمع ووظائفه كما نحب! فإن العطب والنصب وبالتالي الانكماش والتحلل هو النتيجة الطبيعية لكل ذلك.ان مما يميز علم الاجتماع والمهتمين فيه هو انه.. انهم لا يقرأ - يقرؤون» ظاهرة اجتماعية أيا كانت في معزل عن غيرها من مكونات المجتمع ذاته.. وذلك ما يشبهه احيانا فلاسفة العلم من ان المجتمع كالكائن البشري يمكن ان يمرض بسهولة وان يقاوم وبقوة وذلك حسب مكونات الجسد ذاته واستعداداته لأي من الصحة والمرض!. واليوم يتعدى الامر الى النظر في تأثيرات المجتمع العالمي على المحلي ذلك اننا جزء من شبكة عالمية.. ان أي قراءة أو تحليل للظاهرة الاقتصادية أو السياسية أو العمالة أو البطالة أو غيرها لا يمكن ان تعني أي مصداقية ما لم يعرف المحلل أو المعالج أو المخطط لتركيبة المجتمع وطبيعة ثقافته وذهنيته واثره على الظاهرة محل الدراسة والتحليل.ان ما نلاحظه كدارسين للمجتمع ومحللين لطبيعة علاقاته ان انظمة المجتمع ومؤسساته حينما تعمل منفردة ومعزولة عن غيرها فلا يمكن ان تؤدي دورها المنشود ذلك ان «التفاعل» عادة ما ينتج «التكامل» وذلك ما ينقص كثيراً من مشروعاتنا الاجتماعية.. اذ تجد على مستوى المؤسسة الواحدة «هذا يمهد الطريق وذاك يحفره» وربما في اليوم نفسه.فكيف نجعل من الفرد ان يتفاعل اجتماعياً مع النظام والمشاريع في الوقت الذي لا تتكامل أو تتعاضد الانظمة أو المشاريع مع نفسها.والبعد الارقى من ذلك هو كيف نجعل من الفرد/ المجتمع جزءاً من هذه المعادلة من اجل ان يشعر بأنه هو الذي بناها بيده وبالتالي هو الذي سيرعاها.. ان من المظاهر التي تحكي ذلك انني اشاهد شوارع تغلق أو توضع عليها الحواجز الاسمنتية، ثم اشاهد احيانا في ساعة من ليل أو نهار من يقوم من أبناء المجتمع بإزاحتها.. ولسنا نشك بأن من وضعها قد يريد خيراً لكن التفاعل حتى مع الخير يجب ان يشعر الانسان انه جزء من تركيبته وفي صالحه وبالتالي التفاعل معه دونما حاجة الى اكراه أو «اجبار». ان اعظم تكريم للانسان هو اشعاره بالوجود وبالتالي فتجسيد هذا المعنى بكل معانيه وبمختلف قنواته هو الحل الامثل والانجع لدفع العملية التنموية لتسير طوعا مدفوعة من كل جانب.. لا جانب النظام فقط بل الانتظام كذلك.إن بناء معرفة علمية تساعد في فهم وتفسير وتفعيل المجتمع واجزاءه وعلاقاته وامكانية التنبؤ بما يمكن ان تكون عليه مادة علم الاجتماع ومحتوى اهميته وذلك ما نقصد اليه في اهمية الاتجاه الى الاجماع على الحاجة الى مادة علوم الاجتماع وصياغتها كمادة تبدأ مع صفوف المراحل الاولى لتحرك في مشاعر اجيالنا البناء الاجتماعي والانتماء الاجتماعي بل فهم المجتمع وطبيعة مكوناته وعلاقاته لكي ينشأ الطالب متشرباً معنى المجتمع وعضويته وفي ذلك تجتمع له وفيه معاني البناء والحماية والوقاية فلا يكون عرضة للعناصر الخارجة أو الدخيلة على المجتمع وامنه واستقراره ونمائه.. واذا كان المخططون للعلوم يرون اهمية ان تتناسب موادنا مع سوق العمل، فإن سوق المشكلات اليوم لا يقل أهمية عن ذلك.. وفي ذلك تتكامل العلوم التي تبني للانسان وتعمر الانسان ليكون راقياً وسعيداً في مبناه ومعناه. وفي الأخير:«إذا لم يكن المجتمع جزءاً من أي عملية فيه فهو في