أ.د. سليمان بن عبدالله العقيل* يمر المجتمع السعودي بذكرى طيبة، فيها تتداعى المعاني والذكريات المحفزة للعقل والمنطق والمصلحة الحياتية للمجتمع، وذلك بقراءتها واستخلاص مجموعة من المؤشرات والعبر والمعاني والشعور بالعزة والوحدة، وتلمّس الأوضاع الاجتماعية للمجتمع مع مقارنتها بالتاريخ والمحيط العربي والدولي. فحينما يشعر الفرد بعدم الرضى، فهو الرضى بذاته؛ لأنه يبحث عن الكمال، فالكمال قيمة مطلقة لا تنطبق على البشر مطلقا. وفي هذه الأيام نتحدث عن الوحدة والخصوصية والانتماء والهوية، وكل هذه المصطلحات تصب في مصب واحد، هو البحث في التكامل الاجتماعي. ولذا فإن البحث في التكامل الاجتماعي هو البحث في الذات المجتمعية ومعطياتها (الدينية والتاريخية والاجتماعية والثقافية) المنتجة لمجموعة المفاهيم السابقة، والتي يؤكد عليه ويتغنى بها محبو الوطن والموالون له والمضمرون الخير له والمدافعون عنها بدون سابق إخطار، لأن ذلك جزء من المواطن والحفاظ على الأمن الاجتماعي والاستقرار والتنمية المجتمعية لصالح الجميع. إن الأدوات التي حاولنا بها قراءة هذا الموضوع المهم في هذا الظرف الزماني من تاريخ مجتمعنا هي: الاستقراء، الاستدلال، القياس، الحدس، الخبرة الشخصية أو الذاتية. التكامل الاجتماعي يرى بعض علماء الاجتماع في مجال التكامل الاجتماعي التالي: (1) أن لكل مجتمع بناء اجتماعيا مستقرا نسبياً من العناصر، (2) تتكامل عناصر البناء الاجتماعي وتندمج بدرجة ملموسة في كل مجتمع، (3) لكل عنصر من عناصر المجتمع وظيفة تمثل إسهاماً في استمرارية المجتمع بوصفه نسقاً، (4) يستند كل بناء اجتماعي وظيفي على إجماع قيمي بين أعضائه. فالقيم والمعايير الاجتماعية تعمل أيضا كوسائط للتبادل ولذلك فهي توسع من دائرة التفاعل الاجتماعي ومن بناء العلاقات الاجتماعية عبر المكان والزمان الاجتماعي، وحينما تتوسط القيم المشتركة والأنماط المعيارية وتضفي الشرعية عليها فإنها بذلك تتخذ وضعا مؤسسياً، وتستمر عبر الأجيال وعبر القرون في بعض الأحيان إذا توفرت الشروط اللازمة لذلك عبر المؤسسات الاجتماعية الرسمية وغير الرسمية. أدرك الملك عبدالعزيز مؤسس هذا الكيان الشامخ المملكة العربية السعودية منذ وقت مبكر وهو المعروف ببعد النظر والرؤية المستقبلية الثاقبة للأمور، أدرك أن هذا البلد لم يعد مجموعة من القبائل المتفرقة المعزولة عن العالم الخارجي وأنه ليس في صالحه أن يظل معزولاً، وأنه ليس بإمكانه ذلك لو أراد. ولذلك فقد بدأ الخطوات العملية لتجسيد تلك الرؤية الثاقبة التي تنطلق من فلسفة واضحة وبسيطة تتمثل في إمكانية التقدم مع الحفاظ على الدين. هذا النهج التحديثي المنطلق من الخصوصية التاريخية استمر في المراحل التاريخية اللاحقة على يد أبنائه الملوك سعود وفيصل وخالد (رحمهم الله) ومازال قائماً في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز (حفظه الله) بحيث يشترط في أي مشروع تنموي عدم تعارضه مع الدين والعادات والتقاليد. ولأن الوطن (المجتمع) كان في حالة انتقالية أو حالة تشكل تتنازعه قوتان تقليدية آخذة في التواري ممثلة بالقبيلة لصالح قوة حديثة نسبياً وقوية ممثلة بالدولة، فكان من الحكمة أن تحسب الخطوات وأن يؤخذ بالاعتبار الوضع الاجتماعي والثقافي عند وضع السياسات وتنفيذها لتحديث ذلك المجتمع. ومع ذلك فقد كان هناك بعض العقبات التي اعترضت طريق التحديث تم التعامل معها بعقلانية وواقعية فتم التغلب عليها دون دفع أثمان باهظة، لأن القيادة كانت واعية للخصوصية التاريخية للمجتمع السعودي. الثوابت والمتغيرات وعندما نقول الخصوصية التاريخية فإننا نعني بذلك الدين الإسلامي كمكون عميق للشخصية السعودية، والقبيلة كمكون اجتماعي يفرض أيضاً بعض القيم العربية التي تشبع بها الإنسان السعودي، مما شكل هوية متميزة لا يمكن القفز عليها عند وضع أي خطط تحديثية، ولذلك كان التحديث متميزاً كما سنرى، في إحداث خصوصيات للمجتمع السعودي تميزه عن غيره. ويرى بعض علماء الاجتماع أن لكل مجتمع هويته وخصوصيته الاجتماعية والتاريخية والثقافية، وأن حركة المجتمع المستمرة تعتمد على هذه الهوية الخصوصية، وأنها هي التي تميز كل مجتمع عن غيره من المجتمعات، رغم المشتركات الكبرى بين المجتمعات الإنسانية أو بني البشر، ولذلك فإن من أراد أن يلغي خصوصيات المجتمعات، لا يعرف حقيقة مجتمعه والثوابت والمتغيرات فيه، بل إن هناك نوعا من ضبابية الرؤيا حول وجوده والهدف منه أو حتى قوة انتمائه وولائه لمجتمعه ولدولته والإدارة الحاكمة فيه. ومن هنا يمكن القول إن الإسلام بتفسيره المتناسب مع ثقافة المجتمع وتاريخه وتوافق المجموعات الاجتماعية فيه عبر تاريخها واستمرار هذا التصور بشكل متصل وتوافق الأجيال على ذلك وعلى أنه المصدر الرئيس والمعين الذي لا ينضب، هو مصدر الهوية فيه، كما هو هوية لكثير من الدول الإسلامية، فهو دستور المجتمع السعودي ومصدر أحكامه، وقطب الرحى للحياة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والتفاعلات الاجتماعية عبر تاريخه وهي مستمرة في ذلك مع التغيرات الكبرى في العالم ودخول مفهوم العولمة والانفتاح المجتمعي عبر وسائل التقنية المتعددة والمتنوعة. كما أن الإسلام هو الدائرة الأشمل والأوسع في دوائر الهويات الفرعية وأهمها، وقد تجسد ذلك وظهر جلياً في توحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك عبدالعزيز (رحمه الله تعالى)، فقد لم به شمل الجزيرة العربية في وطن واحد بعد أن كانوا ينتمون لقبائل متفرقة لها أولوياتها ولها ثقافاتها الفرعية المختلفة، مضافاً إلى ذلك تلك التراكمات والتبعيات المختلفة مل الجهل والتخلف والفقر وضعف الموارد البشرية والاقتصادية وغيرها، وكذا تعدد الولاءات والانتماءات الخارجية، فأصبح المجتمع موحداً بفضل الفكرة التوحيدية، العقدية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، واستمر المجتمع متوحداً ومحافظاً على هذه الوحدة الوطنية ومدافعاً عنها بكل ما يملك من قوة من جميع أفراد المجتمعات والتجمعات البشرية والقبلية والفئات المجتمعية الأخرى بفوارقها المختلفة، وحتى لو نعق البعض حول هذه الوحدة وبث سمومه، أو نظر بعض ضيقي الأفق من خلال بعض الشقوق التي تحدثها المسيرة التنموية، أو الأخطاء التي يرتكبها بعض من يحسب على الإدارة العامة للمجتمع من بعض الانحرافات أو المفسدات وغير ذلك وتضخم، ويراد لها أن تكون قطب الرحى لفساد المجتمع، فكل هذه الهامشيات لا تؤثر في الحرص على الوحدة والتوحد والوطنية والتموطن والتنموية والنمو، ولا تؤثر في حب حكام هذه البلاد بدءاً من المؤسس واستمراراً بمن يحكم، فالتوحد والتمحور حول هؤلاء الحكام هو الهدف الأساس لكل صالح مخلص وكل من عرف وجرّب الفرقة والاختلاف ولكل من أيقن بالعيش بأمن وسلام واطمئنان وتنمية مستمرة وعيش رغيد. خصوصية المجتمع وبمناسبة اليوم الوطني المجيد، يظهر لنا أن نؤكد على مجموعة من خصوصيات المجتمع السعودي التي تميزه عن غيره، لأنها خصوصيات ممارسة في الواقع الاجتماعي وذات مدلولات اجتماعية وثقافية عميق، ومن هذه الخصوصيات: 1) الالتزام بالدين الإسلامي وتفعيلة في جميع وجوه الحياة، 2) الوحدة الوطنية والترابط الاجتماعي، 3) الأمن والاستقرار، 4) العلاقة القوية بين الحاكم والمحكوم في المجتمع، عمادها الحب والولاء والطاعة والشعور بالوحدة، 5) النمو والتطور السريع المتصل، بدون آثار جانبية، ومرجع ذلك تنمية المجتمع وانفتاحة وتحديثه وتطويره، وفي نفس الوقت الحفاظ على ثوابت المجتمع، 6) المحافظة على الشكل التقليدي للمجتمع والأسرة السعودية، رغم الكثير من التغيرات والمداخلات الثقافية علية، 7) استخدام معطيات التكنولوجيا والمنتجات الصناعية الحديثة في جميع أوجه الحياة الاجتماعية، مع عدم فقدان التقاليد والعادات الاجتماعية الأصيلة والموروثة ذات العناصر الدافعة للاكتشاف والاختراع والإبداع، 8) تكّون ثقافة وشخصية خاصة بالمجتمع السعودي تحدد ملامحه وتميزه عن غيره ويطلق عليها الثقافة السعودية، وهي هجين بين المعطيات الموروثة بأشكالها ومحتوياتها، وبين المعطيات الثقافية الحديثة التي جاءت مع الانفتاح والتغير والتحديث، 9) استمرار التزام المواطن بتلك الخصائص وتمريرها للجيل القادم عبر وسائل النقل المعرفي الرسمية وغير الرسمي، والوسائط الاجتماعية المختلفة. إن القراءة لواقع المجتمع السعودي، في هذه الذكرى الطيبة، عبارة عن إشارات لمفاهيم ثابتة ومعطيات متجددة تؤثر في المجتمع السعودي، من خلال التبني لمجوعة من البرامج والوسائل المختلفة والمتعددة للتوكيد على الثوابت وترسيخ الهوية والانتماء وبيان أوجه الخصوصية لهذا المجتمع ونقلها للأجيال القادمة، التي قد لا تعيش هذه المفاهيم في محيطها من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية والمجتمعية. حفظ الله وطننا وأدام علينا نعمة الأمن والأمان والاستقرار والعيش الرغيد، وحفظ الله لنا حكامنا وولاة أمرنا، فنحن والعاقلون يعرفون قدرهم، ويحبونهم طاعة لله تعالى. * أستاذ علم الاجتماع بجامعة الملك سعود