ألقى معالي الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي سفير خادم الحرمين الشريفين في المملكة المتحدة وايرلندا في قاعة الشيخ عبدالعزيز بجامعة البحرين محاضرة بعنوان تجربة اليونسكو: دروس الفشل وفي بداية الحفل ألقى الدكتور محمد بن جاسم كلمة رحب فيها بمعالي الدكتور غازي القصيبي لتلبيته الدعوة وقدم نبذة عن حياة معاليه العلمية والعملية, وقد حضر المحاضرة كبار الشخصيات وعدد من السفراء والسيد/ يوسف أحمد الشيراوي وزير الصناعة سابقاً وقد شملت محاضرة الدكتور غازي القصيبي تجربته بخوض معركة اليونسكو. تعودنا، نحن العرب، في كثير من ادبياتنا السياسية أن نلقي اللوم، كله أو بعضه، على الآخرين أو على الظروف بعد كل هزيمة نمنى بها في الميدان السياسي الدولي, والحقيقة التي أراها واضحة وضوح الشمس هي انه عندما ينتصر طرف من الأطراف في أي معركة سواء كانت قتالا حربيا أو مباراة في كرة القدم فالسبب يعود إلى ان هذا الطرف جمع من مقومات النصر ما جعله يصبح الطرف الأقوى، مع التسليم بوجود حالات نادرة شاذة يمكن ان ينتصر فيها ضعيف وينهزم فيها قوي، والشاذ النادر لا حكم له, ان هزائم اليوم يمكن ان تتحول إلى انتصارات الغد بشرط ان نواجه انفسنا ونواجه الحقائق، فنسمي الانتصار انتصارا ونسمي الفشل فشلا، ثم ننطلق فنحلل أسباب الانتصار وعوامل الهزيمة, ومعركة اليونسكو التي شغلت الرأي العربي العام المثقف، ودارت رحاها أكثر من سنة، كانت حربا حامية الوطيس، متعددة الجبهات، خاضها اطرافها في العواصم ومواقع الإنترنت والأثير وأوراق الصحف، وانتهت بانتصار المرشح الياباني انتصارا نغالط انفسنا إذا لم نقل انه كان انتصارا كاسحا. والآن، بعد أن انتهت المعركة، وهدأ الغبار، يتعين علينا، نحن العرب، أن ننظر إلى ما كان لا بعين الاعتذار والتبرير، ولكن بمنظار التحليل والنقد، لنعرف لماذا انتصر من انتصر وانهزم من انهزم, من هنا، اثرت أن أكون صريحاً منذ البداية فاخترت لهذه الكلمة عنواناً يعترف، صراحة، بالحقيقة: دروس الفشل ولعل الأمانة تقتضي ان أضيف أني، بمفردي، أتحمل المسؤولية عن هذا الفشل, لقد اعطتني دولتي دعمها الكامل، وأعطاني الأشقاء العرب تأييدا منقطع النظير، ومع ذلك كنت المسؤول، إلى حد كبير، عن وضع إستراتيجية الحملة وتطبيقها, وإذا كان من طبيعة الأمور ان يعتبر المرشح المنتصر نفسه مسؤولا عن الانتصار، كليا أو جزئيا، فالعدالة تقتضي ان يتحمل المرشح المهزوم قسطه من المسؤولية، وهذا القسط، في حالتي يصل إلى حد تحمل العبء كله. على أنه ينبغي ان أسارع فأضيف أنني إذا كنت أؤمن بنقد الذات فإنني أبعد الناس عن الإيمان بجدوى جلد الذات, تمكن المرشح العربي من الوصول إلى المرتبة الثانية في سباق شرس خاضه 11 مرشحا، وذلك إنجاز لا يستهان به, وقد أشارت الصحف الرئيسية الصادرة في باريس ولندن إلى المرشح العربي باعتباره مرشحاً قوياً كان يمكن ان يفوز في السباق, وتمكن المرشح العربي أن يوصل إلى مسامع عواصم عالمية مؤثرة صوتا عربيا حضاريا منفتحا على العصر وعلى الآخرين, لو كنا خضنا المعركة بهدف تحقيق انتصارات إعلامية أو سياسية محدودة كهذه ما كان لنا ان نتحدث عن هزيمة، أما وقد خضناها لكي ننتصر فأي إنجاز دون الانتصار، مهما كان شأنه، يبقى فشلا لا ريب فيه ولاشك, وسأحاول هنا أن ازيح الأسباب عن خلفيات الفشل وأسبابه، أملا ان تنتج من هذه المحاولة دروس يستفيد منها العرب فيما يستقبلون من معارك مماثلة. تفرض علي الموضوعية أن أقول إني أصوّر الموقف كما بدا لي. وللموقف وجوه عديدة بعضها تكشّف لي، وبعضها لم يتكشّف. وأحسب ان الأيام القادمة ستأتينا بأسرار نجهلها اليوم، وأخشى أن بعض الأسرار قد لا ينكشف أبدا, والتحليل المبني على حقائق نسبية يظل، بالضرورة، تحليلا نسبيا قابلا للتغيير والتعديل مع ظهور حقائق جديدة أو تبين بطلان حقائق قديمة, وإذا تذكرنا ان التصويت كان سريا، وأن الغالبية الساحقة من الدول التي صوتت حرصت، ولا تزال، على الاحتفاظ بسرية مواقفها أدركنا اننا لا نستطيع الحديث، بثقة مطلقة، عن موقف أي دولة, إلا انني ازعم اننا نستطيع، بعد استقراء مجموعة من العوامل، الحديث عن مواقف مجموعة من الدول بقدر كبير من الصدق، إن الخطوط العامة العريضة في هذا البحث صحيحة في مجملها، دون ان يتعارض هذا مع كون بعض جزئياتها أو فرعياتها مجهولا أو مشمولا بالخطأ. سوف أبدأ بالطرف المنتصر وأحلل العوامل التي أدت إلى انتصاره, وأذهب إلى أننا نستطيع، بمفهوم المخالفة، ان نعتبر غياب هذه العوامل، أو بعضها، هو المسؤول عن انهزام المنهزمين, يمكن إيجاز هذه العوامل في ستة هي : التخطيط بعيد المدى، واستخدام كل الأسلحة في المعركة، والقراءة الصحيحة للواقع الدولي، والحيلولة دون ظهور خصم قوي واحد، والاعتماد على مصادر معلومات دقيقة، والتركيز على الهدف الرئيسي وعليه وحده, إلا أنه لا بد لنا قبل الإيغال في المناقشة أن نوضح خلفيات المعركة التي قد لا تكون واضحة في أذهان الذين كانوا بعيدين عن مسرح الأحداث. ينتخب المدير العام لليونسكو مرة كل ست سنوات، لفترة ولاية تستغرق ست سنوات، وتقبل التجديد لفترة مماثلة واحدة، ويتم الانتخاب على مرحلتين: الأولى، يختار فيها المجلس التنفيذي للمنظمة مرشحا واحدا من بين المرشحين المتقدمين، والثانية، ينصّب فيها المؤتمر العام للمنظمة هذا المرشح مديراً عاما, وإذا كان من الوارد نظريا ان يرفض المؤتمر العام ترشيح المجلس التنفيذي فإن هذا من الناحية العلمية لم يحدث قط وأستبعد أن يحدث أبداً, كان المجلس التنفيذي خلال المعركة الأخيرة مكونا من 58 عضوا ينقسمون إلى مجموعات إقليمية، المجموعة الآسيوية ولها 12 صوتا، والمجموعة الإفريقية ولها 14 صوتا، ومجموعة أوروبا الغربية ولها 9 أصوات، ومجموعة أوروبا الشرقية ولها 7 أصوات ، ومجموعة امريكا اللاتينية ولها 10 أصوات، والمجموعة العربية ولها 6 أصوات, إذا حظي أحد المرشحين ب 30 صوتا حاز على تزكية المجلس , أما المؤتمر العام فيعادل الجمعية العامة في الأممالمتحدة ويتكون من كل الدول الأعضاء في المنظمة، قرابة 190 عضواً. خاض المعركة 11 مرشحا هم المرشح الياباني، والمرشح العربي، والمرشح الهنغاري، والمرشح السيرلانكي، والمرشح الإندونيسي، والمرشحة الفلبينية، والمرشح الأسترالي، ومرشح ترنداد / توباجو، والمرشح الروماني، وبالإضافة إلى هؤلاء المرشحين الذين تقدمت دولهم رسميا بترشيحهم كان هناك مرشحان لم ترشحهما دولهما، وهما الدكتور إسماعيل سراج الدين، مصري الجنسية، وقد رشحته بوركينا فاسو والدانمارك، والمسيو دانييل جينكو، فرنسي الجنسية، وقد رشحته جورجيا، يتم الانتخاب، حسب أنظمة اليونسكو، في دورات خمس، على ان تحسم الدورة الخامسة الأمر, إلا أن الأمر قد حسم في المعركة الأخيرة في الدورة الثالثة، وقد يكون من المفيد ان نستعرض ماحصل في كل دورة. في الدورة الأولى حصل المرشح الياباني على 20 صوتا، والمرشح العربي على 9 أصوات، والدكتور إسماعيل سراج الدين على 7 أصوات، ومرشح استراليا على 7 أصوات، ومرشح تيرنداد/ توباجو على 4 أصوات، ومرشح سريلانكا على 4 أصوات، والمسيو دانييل جينيكو على صوتين، ومرشحة الفلبين على صوتين، ومرشح هنغاريا على صوتين، ومشرح اندونيسيا على صوت واحد، أما مرشح رومانيا فلم يفز بأي صوتقال فيما بعد: صفق لي الجميع ولم يصوّت لي أحد , بعد هذه الدورة انسحبت مرشحة الفلبين كما انسحب كل من مرشحي رومانيا وإندونيسيا وهنغاريا, في الدورة الثانية، حصل المرشح الياباني على 27 صوتا، والمرشح العربي على 10 أصوات، ومرشح تيرنداد/ توباجو على 6 أصوات، والمرشح الأسترالي على 6 أصوات، والمرشح السريلانكي على صوتين، والدكتور إسماعيل سراج الدين على 4 أصوات والمسيوجينكو على 3 أصوات, وفي أعقاب هذه الدورة انسحب كل من مرشح استراليا ومرشح سيريلانكا والمسيو جينكو, وفي الدورة الثالثة الحاسمة حصل المرشح الياباني على 34 صوتا، وحصل المرشح العربي على 13 صوتا، ومرشح تيرنداد/ توباجو على 8 أصوات، وحصل الدكتور سراج الدين على 3 أصوات, هكذا فاز المرشح الياباني الذي عيّنه المؤتمر العام، بعد ذلك ، رسميا مديرا عاما للمنظمة. بوسعنا أن نعود ، الآن، إلى العوامل التي أدت إلى فوز اليابان بشيء من التفصيل بادئين بالعامل الأول، التخطيط بعيد المدى. لا أزعم أني أعرف على وجه التحديد متى بدأت اليابان التخطيط للحصول على المنصب ولكني أعرف أنها بدأت قبل الآخرين بوقت طويل, ما لاجدال فيه هو ان اليابان اقترحت سنة 1991 تعديلا في ميثاق المنظمة تم بموجبه تحويل المجلس التنفيذي إلى مجلس يمثل الدول، والدول وحدها, وما لا جدال فيه هو ان اليابان لم تكن لتفوز بالسهولة التي فازت بها لولا هذا التعديل, ولإيضاح هذه المسألة لابد من شيء من الاستطراد التاريخي, منذ أن بدأت اليونسكو عملها عام 1946 وحتى عام 1954 كان أعضاء المجلس التنفيذي يختارون من بين الدول الأعضاء بصفتهم الشخصية, وبالنظر إلى مؤهلاتهم الذاتية، دون ان يكون لدولهم عليهم أي سلطان, في سنة 1954 عدل الميثاق بحيث أصبح أعضاء المجلس التنفيذي يمثلون دولهم مع بقائهم مختارين بصفتهم الشخصية, كان هذا الوضع لا يخلو من غموض: عضو المجلس التنفيذي يتم اختياره بصفة شخصية، ولكن هذا الاختيار لا يتم إلا بترشيح رسمي من دولته, وكان هذا الغموض. يساعد أعضاء المجلس التنفيذي على ممارسة مهامهم بقدر لا يستهان به من الاستقلالية وكان بعضهم يتباهى بأنه يخالف تعليمات دولته إذا لم ترق له, إلا ان التعديل الياباني ألغى الصفة الشخصية من التمثيل نهائيا، بحيث أصبح المجلس التنفيذي مكونا من دول تعين كل دولة موظفا يمثلها ولا يملك الخروج قيد شعرة عن تعليماتها, إذا لاحظنا ان هذا التعديل جاء بعده تعيين سفير ياباني جديد في فرنسا، أصبح فيما بعد مرشح اليابان للمنصب، جاز لنا ان نقول، بدون تجن كبير على الحقيقة، ان اليابان بدأت التفكير في المنصب مع بداية التسعينيات الميلادية. عندما بدأت حملتي قبل اكثر من سنة من الانتخابات كانت اليابان قد انتهت من ضمان أصوات كثيرة، لم نفلح في تغيير مواقفها, وإذا كان هذا شأننا وقد بدأنا مبكرين، فإن المرء لا يملك إلا أن يتساءل عن مدى جدية مرشحين لم يتقدموا إلا قبل الترشيح بأسابيع، وبعضهم بأيام, هناك، بكل تأكيد ، علامات استفهام تحوم حول الدوافع الحقيقية لعدد من المرشحين، وسوف اتطرق إلى رأيي في هذه الدوافع في حالات معينة، تاركا علامات الاستفهام دون إجابة في الحالات الأخرى انتظارا لما قد تأتي به الأيام من أخبار. والعامل الثاني هو ان اليابان دخلت المعركة كما لو كانت تخوض حربا حقيقية يعتمد عليها بقاؤها أو زوالها، ولم تنظر إلى الموضوع كما نظرت إليه بقية الدول باعتباره منافسة عادية على منصب دولي عادي, نقلت وكالات الأنباء في إبريل 1998 تصريحا لرئيس وزراء اليابان قال فيه بالحرف الواحدهذه حرب لا يمكن أن نخسرها بأي حال من الأحوال , وأضاف انه تولى إدارتها بنفسه لأنه أكثر مهارة في إدارة الحملات الانتخابية من موظفي وزارة الخارجية, والذين يعرفون التقاليد اليابانية التي لا ترحم الخاسر يدركون ان تصريحا من هذا النوع كان سيضع رئيس الوزراء الياباني في موقف حرج للغاية لو جاءت النتيجة عكس ما توقعه، وهذا اعتبار لا أعتقد انه غاب عن ذهن الرئيس الياباني غمضة عين. بالإضافة إلى هذا التصميم المذهل دخلت اليابان المعركة بترسانة هائلة من الأسلحة, اليابان هي المساهم الأكبر في ميزانية اليونسكو ويبلغ حجم مساهمتها قرابة 24% من الميزانية, واليابان تقدم العون الخارجي بسخاء يفوق سخاء أي دولة صناعية أخرى. عبر السنوات الخمس الماضية كان معدل ما تدفعه اليابان سنويا من هذا العون قرابة 8 بلايين دولار, وفي السنة التي سبقت انتخابات اليونسكو، كانت اليابان المانح الأول لقرابة 50 دولة، وثلث هذه الدول أعضاء في المجلس التنفيذي, بالإضافة إلى ذلك، هناك استثمارات يابانية ضخمة في مختلف أنحاء الدنيا، وهناك شركات يابانية عملاقة يتجاوز دخل بعضها السنوي دخل المملكة العربية السعودية. استخدمت اليابان ترسانتها الضخمة بفعالية منقطعة النظير. أبلغني عدد من ممثلي الدول النامية التي تتلقى العون من اليابان أنهم تلقوا إنذارا صريحا بوقف العون إذا لم تصوت هذه الدول لصالح المرشح الياباني, وأبلغني أكثر من مندوب دائم ان اليابان ابلغت دولته أنها ستنسحب من اليونسكو إذا لم يتم انتخاب مرشحها، وانسحابها يعني، ببساطة، إفلاس المنظمة، وكان ممثلو اليابان في كل مكان يطبقون المثل الإنجليزي الذي يقول لا تقبل بكلمة لا جوابا , حتى الدول التي أعلنت بوضوح انها تدعم مرشحا غير المرشح الياباني كانت تلقى ضغطا يوميا من اليابان لتعديل مواقفها. قال لي مندوب دولة غربية ان ممثل اليابان سيدفع به إلى الانهيار العصبي وهو يزوره بمعدل 3 مرات في الأ سبوع يطلب دعم دولته. وقال لي مندوب دولة غربية اخرى انه قال في مجلس خاص كلمة عابرة انتقدت المسلك الياباني في الحملة، وكانت النتيجة احتجاجا رسميا من اليابان، وتوبيخا للمندوب من حكومته, أقول ما أقوله عن أصدقائنا اليابانيين في مجال الإعجاب والاستحسان لا النقد والاستهجان, خاضت اليابان الحملة وشعارهافي الحب والحرب يجوز كل شيء وخضناها وشعارنا: شرف الوثبة أن ترضى العلا غلب الواثب أم لم يغلب الآن أتمنى، ولات حين التمني، لو اتبعنا الشعار الياباني وتركنا بيت الشعر الجميل لمعارك أخرى أقل ضراوة. لابد للمرء ان يتساءل عن السبب الذي يدفع القوة الاقتصادية الثانية او الثالثة في العالم إلى هذه الاستماتة العجيبة للحصول على وظيفة في منظمة دولية لا تتجاوز ميزانيتها السنوية 300 مليون دولار، منظمة تنفق معظم ميزانيتها على موظفيها، وتحلم بأمجاد ماضيها الغابر، والإجابة على هذا السؤال تكمن في إحساس اليابان العميق أنها لا تلقى ما تستحقه من تقدير في المجال الدولي, ليس لليابان مقعد دائم في مجلس الأمن، والبنك الدولي احتكار مؤبد لأمريكا، وصندوق النقد الدولي احتكار مؤبد لأوروبا, لم يبق أمام اليابان أي نافذة تطل منها على العمل الدولي سوى المنظمات الدولية الأخرى ومن هنا كان وجود مواطن ياباني على رأس إحدى المنظمات الدولية الرئيسية أولوية كبرى من أولويات السياسة اليابانية الخارجية. لم تكن الإستراتيجية اليابانية لتعمل بهذه الفعالية لولا أنها استندت إلى تحليل سليم للواقع الدولي ومستجداته, كانت اليابان تدرك انه بانتهاء الحرب الباردة، زالت معظم التحالفات التي نشأت في ظلها، ولم تعد الدول تتحرك إلا بدافع من مصالحها الوطنية الضيقة, وكانت اليابان تدرك ان التعديل الذي ادخلته على الميثاق قضى على العهد الذي كان بوسع أعضاء المجلس التنفيذي خلاله ان يتجاهلوا رغبات حكوماتهم, ولعل اليابان هي الدولة الوحيدة التي استطاعت ان تقرأ ما حدث في انتخابات اليونسكو التي جرت سنة 1987 قراءة صحيحة، وهذه النقطة من الأهمية والخطورة بحيث تحتاج إلى مزيد من الإيضاح. منذ أن بدأت اليونسكو عملها سنة 1946 وحتى سنة 1987 لم يكن هناك انتخاب حقيقي للمدير العام, كان هناك تشاور بين الدول الأعضاء ينتهي باتفاق حول شخصية معينة يزكيها المجلس التنفيذي ويعينها المؤتمر العام, حتى 1987 لم يعرض على المجلس التنفيذي سوى مرشح واحد يزكى بالإجماع, إلا أن الموقف تغير في انتخاب سنة 1987, كانت الولاياتالمتحدةوبريطانيا قد انسحبتا من المنظمة متذرعتين بانحياز اليونسكو إلى المعسكر السوفييتي، من جهة، وبالفساد الإداري المستشري في المنظمة، من جهة أخرى، كانت المنظمة تمر بظروف مالية وسياسية صعبة وتواجه مستقبلا شديد السواد, في هذه الأثناء كان المرشح الأقوى والأبرز هو المرشح الباكستاني, كان المأمول والمتوقع ألا يرشح أمبو، المدير العام وقتها، لفترة ولاية ثالثة، بعد أن أصبح شخصية مثيرة للجدل وكان من الواضح أن هناك تحفظات عليه من قوى مؤثرة عديدة. لم تتقدم أي دولة غربية بمرشح اقتناعا منها بأن الغرب أخذ نصيبه عبر أربعة مديرين سابقين, في هذه الظروف دخل البروفسور فيدريكو مايور، اسباني الجنسية، حلبة المنافسة دون ان ترشحه أي دولة, نجح مايور في خلق اهتمام كبير بشخصه عبر التأييد الذي حظي به من شخصيات عالمية حائزة على جائزة نوبل ومن مؤسسات فكرية معروفة وقد دفع هذا التأييد اسبانيا إلى ترشيحه، على مضض، في اخر لحظة, خلافا للتوقعات، وخلافا لتصريحاته المتكررة، أعلن امبو قبيل الانتخاب إعادة ترشيح نفسه, لا يصعب توقع المأساة التي حدثت, كان المرشح الباكستاني يملك تأييد مجموعة كبيرة من الدول لا تكفي للفوز، وكان الوضع نفسه ينطبق على المرشح الأفريقي، في دورة بعد دورة تبين للجميع انه لا المرشح الأفريقي سيتمكن من الفوز، ولا منافسه الآسيوي, انسحب المرشح الباكستاني ثم انسحب المرشح السنغالي، تاركين المجال لمايور. بدأ مايور بأصوات ستة ثم أخذ يتقدم في دورة بعد دورة مع تدهور حظوظ المرشحين الرئيسيين حتى ظفر بالمنصب في الدورة الخامسة. استطاعت اليابان ان تقرأ ماحدث في انتخاب سنة 1987 قراءة صحيحة, لم ينجح مايور بفضل مؤهلات شخصية أو تزكيات من علماء أو مؤسسات, نجح بفضل الانتحار المتبادل للمرشحين الافريقي والآسيوي, بدأ مايور مدعوما بالدول اللاتينية وحدها، وعندما تبين ان المتنافسين الرئيسيين لا يملكان أي أمل في الفوز، وقفت دول أوروبا وراءه، وتبعها عدد متزايد من الدول, هذه القراءة الصحيحة غابت عن معظم المرشحين الباقين، وأكاد أقول كلهم. استمعنا عبر الحملة الانتخابية إلى تصريح بعد تصريح من مرشح بعد مرشح يتوقع الفوز في الدورة الأخيرة كما فعل مايور, يقال ان الذين لا يتعلمون من التاريخ يحكم عليهم بتكريره, وأضيف ان الذين يتعلمون كل شيء من التاريخ لا يستطيعون التعامل مع حقائق اليوم فضلا عن مستجدات الغد, إن التاريخ يكرر نفسه، احيانا، ولكنه لا يكرر نفسه بكل التفاصيل أبداً. أدركت اليابان ان اللعبة لعبة دول، تخوضها دول بأسلحة الدول. وتحسمها دول بأصوات مبنية على مصالح دول، وأدركت ان شخصية المرشح، في هذه اللعبة، لا تهم في كثير أو قليل, حقيقة الأمر ان شخصيات المرشحين لم تشغل أحدا سوى المندوبين الدائمين والصحفيين, أعتقد ان الغالبية العظمى من الدول صوتت استجابة لمصالحها الوطنية دون أدنى اهتمام بشخصية المرشح أو مؤهلاته, بل انني أذهب ابعد من ذلك، فأقول ان الأغلبية العظمى من الدول اتخذت قرارها ضاربة باقتراحات المندوبين الدائمين عرض الحائط. إلا ان كل اسلحة اليابان لم تكن لتضمن لها الفوز لولا ان اليابان نجحت في منع ظهور خصم قوي واحد, بقدر ماكانت هناك دول محتاجة إلى اليابان، كانت هناك دول لا تريد شيئا من اليابان، ولا تستطيع اليابان ممارسة أي ضغط فعال عليها, هذه الدول كانت مستعدة للوقوف وراء أي خصم يستطيع الصمود في وجه المرشح الياباني, تنبهت اليابان إلى هذه النقطة وعالجتها بقدر كبير من الدهاء, كانت اليابان تعمل على مستويين يبدوان، في الظاهر، متناقضين وإن كانا، في الحقيقة، متكاملين, كانت اليابان، من جهة، تقول ان مرشحها هو الأقوى وانه سيفوز بلا جدال في الدورة الأولى, وكانت، من جهة أخرى، تظهر بمظهر الخصم الضعيف الذي لم يستطع الاعتماد حتى على قاعدته الإقليمية الآسيوية, كان وجود 3 مرشحين من القارة الآسيوية مرشح من اندونيسيا، ومرشح من سيريلانكا ومرشحة من الفلبين يثير الكثير من الاستغراب, سمعت هذا السؤال عبر الحملة عشرات المرات من عشرات الأشخاص: هل تملك اليابان أي فرصة للفوز إذا كانت عاجزة عن منع دول اسيوية تستلم منها مساعدات سنوية هائلة من الانسحاب لصالح مرشحها؟ ما كان يثير التساؤل أثناء المعركة أصبح واضحا كل الوضوح مع بداية الانتخابات, بعد الدورة الأولى انسحبت المرشحة الفلبينية تاركة صوتيها لليابان، وانسحب مرشح اندونيسيا بعد ان اعلن على الملأ في سابقة غير مألوفة في الاقتراع السري، انه سيصوت لصالح اليابان, وانسحب المرشح السيريلانكي بعد الدورة الثانية وذهبت اصواته إلى اليابان, ترشيح كل هؤلاء، إذن ، تم مباركة من اليابان، أو بتنسيق معها، أو ربما بتمويل مباشر منها, وسواء أمرت اليابان بالترشيحات فعلا، أو لم تأمر بها ولم تسؤها، فإن النتيجة، في النهاية، كانت لصالح اليابان وحدها. ضعف اليابان الوهمي هذا هو الذي شجع عددا من المرشحين على دخول الساحة متوقعين الفوز السهل على المرشح الضعيف. وهنا لا يمكن ان نغفل عاملا آخر ساعد في إيجاد الاقتناع بضعف اليابان ألا وهو موقف المدير العام وقتها, كان مايور، في قرارة نفسه، يطمع في التجديد أو التمديد وكان يعتقد أن وسيلته الوحيدة هي ان يكثر المرشحون بحيث يتعذر على أحد الحصول على غالبية الأصوات, أخبرني الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالي المصري ان الحكومة المصرية لم تفكر في ترشيح أحد للمنصب إلا بناء على اقتراح من مايور, والعلاقات الوطيدة التي تربط بين مايور ودول امريكاللاتينية تدفع إلى الاعتقاد ان ترنداد/ توباجو لم تكن لتتقدم بمرشحها لولا مباركة، واضحة أو ضمنية، من المدير العام, وكان كل مرشح جديد يدخل الساحة يعني ان تتبعثر الأصوات المناوئة لليابان وهذا ماحصل. الذين قالوا بعد انتهاء المعركة ان اليابان ضمنت الفوز منذ اللحظة الأولى وحتى اللحظة الأخيرة كانوا يتحدثون عما يجهلون, ان اليابان، بكل اسلحتها الفتاكة، كانت تدرك ان وجود خصم قوي واحد كان كفيلا بإيقاع الهزيمة بها, لنأخذ الدورة الأولى ولنستبعد المرشحين الآسيويين الثلاثة الذين قلنا انهم كانوا يعملون لصالح اليابان ولنأخذ بقية المرشحين, حصل مرشحون ستة على 31 صوتا، وهو عدد لو اجتمع لمرشح واحد لفاز على الفور. ولابد هنا ان نعترف أننا، في المعسكر العربي، لم نبذل جهدا كافيا لمنع ظهور مرشحين جدد، ولا جهدا كافيا في محاولة تنظيم صفوف المرشحين, كانت هناك بعض المحاولات، ولكنها لم تتسم بالدأب والمتابعة, كانت المشكلة التي تمنع نشوء جبهة واحدة تحول دون فوز المرشح الياباني هي رغبة كل مرشح ان يكون هو الفائز بعد إيقاف المرشح الياباني, سمعت عروضا عديدة بأن أكون نائب المدير العام لو انسحبت لصالح مرشح آخر، ولم أعرها أي اهتمام, أعتقد ان النزعة الأنانية المتأصلة في البشر لم تكن لتسمح بنشوء هذه الجبهة الواحدة, حققت استراتيجية اليابان ماحققته من نجاح لأنها كانت تستند إلى معلومات دقيقة بالغة الدقة, كل المرشحين الآخرين، بلا استثناء، كانوا يعملون في الظلام, لولا فقر المعلومات هذا لما صرح المرشح الاسترالي وهو وزير خارجية سابق وسياسي محنك، أكثر من مرة، أنه حصل على وعود تضمن فوزه, ولولا فقر المعلومات هذا لما قال الدكتور إسماعيل سراج الدين وهو رجل قضى حياته الوظيفية كلها في العمل الدولي لكل من يريد ان يستمع انه لا توجد لديه ذرة من الشك في فوزه, ولا أستثني نفسي من الوقوع في فخ المعلومات المغلوطة, كنت حريصا كل الحرص على استقاء أدق المعلومات من ادق المصادر، وكنت حريصا على تفسير الشك في غير صالحي، ومع ذلك جاءت النتيجة مفاجأة غير سارة, كنت بناء على حسابات اعتبرتها في وقتها صحيحة موثقة اتوقع ان تنتهي الدورة الأولى بعدد من الأصوات لصالحي لا يقل عن 15 صوتا, وكان هذا هو شعور عدد كبير من المراقبين الموضوعيين, ماحدث بالفعل يعني، باختصار شديد، اني اخطأت تقييم المواقف الحقيقية لعدد من الدول لا يقل عن ستة، وخطأ من هذا النوع، في لعبة بهذا المستوى، هو خطأ مميت، كما تبين بالفعل. ويقتضي الإنصاف ان اقرر ان الحصول على معلومات دقيقة كان شبيها بالبحث ليلا عن ذبابة صامتة في قاعة يسودها الظلام الدامس, حرصت كل دولة، تقريبا، على إخفاء موقفها الفعلي تحاشيا لإغضاب أي طرف من الأطراف, في بعض الدول كانت هناك ضبابية في الجو يستحيل معها لمن لا يملك آلة استخبارية هائلة ان يتبين ما يدور خلف الضباب, سأكتفي بإيراد بعض الأمثلة من تجربتي الشخصية للتدليل على صحة ما اقول, كنا إلى ما قبل الانتخابات بأيام معتمدين على تأييد دولة أكد لنا رئيس وزرائها المرة بعد المرة، انه يقف معنا, في اللحظة الأخيرة ابلغنا رئيس الوزراء، بحرج شديد، انه اكتشف انه سبق لرئيس الجمهورية ان التزم في وقت سابق كتابياً بالتصويت مع اليابان، وأبلغنا اعتذاره الحار, وكنا نعتمد على صوت دولة مؤثرة استنادا إلى تأكيد قاطع من وزير خارجيتها, اتضح بعد فوات الأوان ان وزير الخارجية، في التركيبة الحزبية لدولته، لا يملك من النفوذ ما يملكه وزير آخر اتخذ قرارا لصالح اليابان اضطرت حكومته إلى مجاراته, وهناك مثل ثالث لا يكاد يصدق: كان وزير خارجية دولة صديقة معنا في باريس اثناء الانتخابات يحشد الدعم لنا في الوقت الذي كان مندوب دولته الدائم، بتعليمات من رئيس الجمهورية، يصوت لصالح اليابان, كان وزراء الخارجية، في كثير من الحالات، آخر من يعلم, وكان معظم المندوبين الدائمين حتى اللحظة التي تلقوا فيها توجيهاتهم، آخر من يعلم. العباقرة الذين قالوا، بعد انتهاء كل شيء، انه كان علينا ان ننسحب مادمنا كنا نعلم اننا لن نفوز لم يتكرموا بإخبارنا عن الوسائل التي كان علينا اتباعها لمعرفة الحقائق التي تشير إلى عدم فوزنا، ونحن لسنا من السحرة، ولا نملك كرات بلورية. كان يمكن لليابان، رغم كل قوتها، أن تخسر لولا انها تجنبت بعثرة جهودها في مناوشات جانبية، الخطأ الذي وقع فيه كثير من المرشحين, كانت اليابان تركز مساعيها على الدول، وعلى الدول وحدها, لم يدل المرشح الياباني خلال الحملة بتصريح صحافي واحد، بينما كان بقية المرشحين يتحدثون طيلة الوقت, ولم ينطق المرشح الياباني بكلمة نابية واحدة بحق أي مرشح أو أي دولة في الوقت الذي كان فيه بعض المرشحين يعتبرون ان نجاحهم يعتمد على انتقاد المرشحين الآخرين أو دولهم, لم يكن للمرشح الياباني موقع على الانترنت، ولا حرص على الحصول على تزكيات من مؤتمرات أو مؤسسات أو أفراد, كان البيان اليتيم الذي أعده في بداية حملته معقما، ولا توجد فيه كلمة واحدة مثيرة للجدل، شأنه شأن أي بيان تعده لجنة. كنت منذ بداية الترشيح مقتنعا ان قرار الفوز يكمن في يد 58 دولة وان صناع القرار في هذه الدول لا يتجاوزون 300 فرد، على أكثر تقدير, كنت أرى، وأكرر، ان أي جهد لا يؤثر، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، على هؤلاء الأفراد هو جهد ضائع, رغم ذلك الاقتناع الراسخ وجدت نفسي مضطرا يوما بعد يوم إلى الانغماس في معارك جانبية، دفاعية أو هجومية، لم يكن لها أي أثر على صانعي القرار الحقيقيين. كان اكثر مافي التجربة ايلاما هو تلك الحرب بين بعض الصحف المصرية وبعض الصحف الخليجية دفاعا عن الدكتور سراج الدين أو عني، وأسوأ ما في الحملة انها ألحقت أبلغ الضرر بالمرشحين معا، فضلا عن ماتركته من رواسب سلبية في النفوس في البلدين الشقيقين. كان كل ما رددته وسائل الإعلام بأنواعها عن أي مرشح، سلبا أو إيجابا ، كلاما ضائعا في الهواء لم ينجح في ضمان صوت دولة واحدة, لا أنسى اني في بداية حملتي الانتخابية قابلت رئيس جمعية الصداقة الفرنسية/ السعودية، وهو سياسي محنك ووزير خارجية سابق، وسألته عن رأيه في إقامة محاضرات وندوات ومؤتمرات صحفية في باريس, ابتسم وقال:بوسعك ان تقابل من تشاء، وتقول ما تشاء، إلا ان القرار في النهاية سيتخذه رئيس الجمهورية بعد التشاور مع رئيس الوزراء , في كل دولة، لم يكن هناك سوى شخصين أو ثلاثة يملكون صنع القرار وكانت اليابان، الدولة الوحيدة التي جعلت التأثير على هؤلاء الأشخاص هدفها الأول والأخير. بقى سؤالان لابد من التعرض إليهما، لأنهما أثيرا، على نحو أو آخر، عدة مرات خلال الحملة الانتخابية وبعدها, أولهما، يتعلق بالموقف الأوروبي, بعبارة اكثر صراحة، هل كان هناك قرار استراتيجي غربي سري بدعم اليابان؟ لا أملك الحقائق الكافية لنقض هذا الرأي أو دعمه ولكن استقراء النتائج يقود إلى الشك في وجود مثل هذا الموقف الغربي السري, يبلغ أعضاء الكتلة الأوروبية الغربية في المجلس تسعة، هي بريطانياوفرنسا وبلجيكا والمانيا والنمسا وكندا والسويد وفنلندا ومالطا, باستثناء السويد التي اعلنت، صراحة، انها تؤيد الدكتور سراج الدين لم تعلن أي دولة في هذه الكتلة موقفها لا أثناء الحملة ولا بعدها, خلال الدورة الأولى للانتخابات توزعت أصوات الكتلة الغربية على النحو التالي: صوتان لليابان، 3 أصوات للمرشح الأسترالي، و 3أصوات للدكتور سراج الدين، وصوت واحد لي, بعد ان تبين ان المرشح الياباني يتقدم الصفوف انضمت 6 أصوات إليه، تاركة 3 أصوات موزعة بيني وبين الدكتور سراج الدين, من الواضح، إذن، ان غالبية الدول في هذه الكتلة آثرت التريث حتى ينجلي الموقف، وعندما انجلى عن مرشح هو الأقوى، راهنت مع المراهنين على الجواد الفائز. والسؤال الثاني يتعلق بمسألة حقوق الإنسان. بعبارة اكثر صراحة، هل يمكن لمرشح سعودي الجنسية ان يحظى بالمنصب رغم تحفظات منظمات حقوق الإنسان على بعض الممارسات في دولته؟ كنت في بداية كل لقاء مع كل مندوب غربي أسأله هذا السؤال، وكان الجواب، دوما، ان هذا لن يكون اعتبارا داخلا في الحساب, قال لي مندوب غربي بصراحة هناك أقل من 9 دول في المجلس تهتم بقضية حقوق الإنسان, لنفرض جدلا انك خسرتها, هذا لا يمنعك من الفوز إذا وقفت معك الدول الأخرى . لم اكن قط من انصار نظرية المؤامرة، ولا أريد أن أصبح من أنصارها، ولكن يصعب على المراقب الموضوعي ان ينكر ان إسرائيل لم تكن لتقبل بوصول أي مرشح عربي لهذا الموقع, وليس من قبيل المصادفة ان يكون معظم الذين اثاروا نقطة حقوق الإنسان كانوا إما صهاينة أو متعاطفين مع الصهيونية, لا نعتب على إسرائيل العدوة حين تتخذ موقفاعدائيا من مرشح عربي، ولكن نعتب على تلك الشريحة الصغيرة من المثقفين العرب الذين لم يستطيعوا التفرقة بين المكيدة الصهيونية والإيمان الفعلي بحقوق الإنسان, لا يخفى على أحد ان اليابان لا تزال تطبق عقوبة الإعدام, ولا يخفى على أحد ان الناشطين في حقل حقوق الإنسان لا يغفرون لأي دولة، كائنة ماكانت، تطبيق هذه العقوبة, لو كانت لقضية حقوق الإنسان الأهمية التي تصورها البعض لتلقت اليابان الكثير من الانتقاد اثناء الحملة, حقيقة الأمر ان أحدا لم يشر من قريب أو بعيد إلى عقوبة الإعدام في اليابان. يبقى السؤال الذي أحسبه على قدر كبير من الأهمية, ماذا كنت سوف أفعل لو قدر لي ان أخوض المعركة من جديد وأنا أعرف ما أعرف الآن؟ والجواب هو: عدم الاستسلام لإغراء المجاملات, كلفتنا المجاملات ثمنا باهظا، وكانت، في النهاية، سبباً رئيسياً في الهزيمة. سوف اكتفي بثلاثة أمثلة: جاملت مصر المملكة العربية السعودية حين أبلغتها انها ستؤيد المرشح السعودي دون ان تقوم في الوقت نفسه بالإيعاز لمواطنها المصري بالانسحاب, وجاملت المملكة العربية السعودية مصر حين قبلت منها هذا التأييد الذي يضر أكثر مما ينفع, لم تقف مصر وراء المرشح العربي، ولم ترم بكل ثقلها وراء المواطن المصري، فخسر المرشحان وخسرت الدولتان, كان الموقف يقتضي قرارا حاسما من الدولتين باختيار مرشح واحد حتى لو أدى الأمر إلى الاستعانة بالقرعة، إلا ان المجاملة حلت محل القرار الحاسم, والمثل الثاني يتعلق بموقف الكتلة الأفريقية ذات الوزن الكبير في المجلس, جاملت هذه الكتلة مصر فوعدتها بتأييد المواطن المصري. وجاملت هذه الكتلة المملكة العربية السعودية فوعدتها بتأييد المرشح العربي, في نهاية المطاف صوتت دولة أفريقية واحدة مع الدكتور سراج الدين وصوتت دولتان أفريقيتان معي، وذهبت بقية الأصوات الأفريقية لليابان, والمثل الثالث يتعلق بالموقف الفرنسي, كانت فرنسا أول دولة في العالم كله تفاتحها المملكة العربية السعودية بموضوع الترشيح, وكان الهدف الوحيد هو ان تترك لفرنسا فرصة الاعتراض، إن شاءت، على المرشح الذي لا يتكلم الفرنسية, لم يكن هناك أي فيتو فرنسي, على العكس، كان هناك ترحيب حار بالترشيح، يصحبه تحفظ منطقي هو ان فرنسا، باعتبارها دولة المقر، ستضطر إلى التزام الحياد التام بين المرشحين, قبل بدء الانتخابات بأسابيع قليلة صدر بيان فرنسي رسمي يوضح رغم ما فيه من الدبلوماسية والحديث عن شروط عديدة أخرى ان فرنسا لا تستطيع تأييد مرشح لا يتقن الفرنسية, كان هذا البيان صدمة مفاجئة، لا يعلم إلا الله مدى الأضرار التي لحقتنا بسببه, وهكذا نرى ان مجاملات الأشقاء للأشقاء، والأصدقاء للأصدقاء، كانت منطلقة من نوايا طيبة، إلا أن نتائجها كانت مؤذية على نحو يتيح لنا ان نسميها، دون مبالغة، المجاملات القاتلة والطريق نحو الجحيم - كما يقول المثل الغربي - معبد بالنوايا الحسنة. نصيحتي الوحيدة لأي مرشح عربي في أي معركة قادمة هي: اعتبر المجاملات خصمك الأول، والأخطر. بقيت كلمة أجلتها حتى النهاية، لا تقليلا من شأنها ولكن إبرازا لأهميتها، بحيث تكون مسك الختام. باستثناء الشقيقة مصر التي نقدر وضعها وظروفها، وقف العالم العربي بأكمله وراء المرشح العربي، على مستوى الحكومات والمجتمعات المدنية والمفكرين والأدباء، لعبت لجنة الدعم التي شكلها مجلس السفراء العرب لدى اليونسكو برئاسة الدكتور موسى جعفر سفير سلطنة عمان الشقيقة دورا مشكورا في دعم الترشيح وحشد التأييد, أما الدول العربية الأعضاء في المجلس التنفيذي وتضم - بالإضافة إلى المملكة العربية السعودية - لبنان والإمارات العربية المتحدة واليمن وليبيا، فقد وقفت مع المرشح في دورة بعد دورة، وصمدت في وجه ضغوط لا تكاد تصدق , هذا الإجماع العربي شبه الكامل هو أكثر الصفحات بياضا في كتاب التجربة, الكلمة الأخيرة، إذن، هي ان علينا رغم العقبات والصدمات ان نحافظ على إيماننا بالعروبة وبالتضامن العربي وبوحدة عربية قادمة - قصر الزمان أو طال وبهذا الإيمان، نستطيع ان نرى، وراء النفق المظلم شموسا مشرقة كثيرة مليئة بتحديات جميلة كبيرة.