في أجواء الحرب والجوع والشتاء,, وفي طريق الهجرة من غروزني,, المدينة الشيشانية التي استباحها الروس,, وغيبت ملامحها قذائف المدفعية وقنابل الطائرات,, يروي الشيشانيون قصص المأساة والمعاناة. البعثة الإعلامية المرافقة لوفد اللجنة السعودية المشتركة زارت مواقع اللاجئين على الحدود الانقوشية الشيشانية,, والتقت بالبؤساء والضعفاء,, وسجلت معهم قصص الالم والمعاناة في طريق الهجرة من غروزني,, التقيناهم في المخيمات,, وفي عربات القطارات المتهالكة، وفي المصانع المهجورة، وحظائر الحيوانات التي اصبحت لهم سكنا ومأوى,, ارتال من البشر يتزاحمون بحثاً عن الدفء وهرباً من زمهرير الشتاء,, يركضون لقطرة الماء النظيف,, ويتلهفون للقمة طعام تسد جوع اطفالهم,, براءة الاطفال تشع من عيونهم الحيرى,, والامراض بدأت تتفشى بينهم,, اطفال يموتون,, وآخرون في الطريق الى الموت سائرون,, ايتام يتكدسون على سرير واحد,, والأم بجانبهم تشعل ناراً,, لتدفئهم,, ولتطبخ عليها لقمة تسكت بها صرير أمعائهم,, اما الغد فمتروك لخالقهم. النساء يروين مآسيهن والدموع في أعينهن,, حتى المترجم توقف عن الكلام وأجهش بالبكاء,. قلنا لإحداهن: هذا ابنك؟ قالت نعم: وأين الآخر؟ مات في الطريق من البرد هل له إخوة آخرون؟ نعم: ثالث آخر يرقد في المستشفى,, مصاب بمرض السل, كيف هربتم من غروزني؟ كنت اعلم ان هناك ممرات آمنة ستفتحها القوات الروسية للخروج من غروزني,, جمعت اطفالي,, واتجهنا للخروج عبر هذه الممرات,, بدأ الروس يطلقون القذائف على الأرتال البشرية المهاجرة,, اتجهنا الى المنحدرات على جانب الطريق,, وأصيب الكثير منهم,, عندما عدنا الى سيارتنا التي تركناها اثناء اختبائنا في المنحدرات,,وجدنا ان ممن كانوا معنا في طريق الهجرة اصابتهم قذائف المدرعات والطائرات فقطعتهم أشلاءً واصبحوا قطعاً بشرية تناثرت على جانبي طريق القافلة المهاجرة. امرأة اخرى تروي لنا أنها فرت من بيتها بعدما هدمته القوات الروسية,, وخلفت وراءها في الطريق ابنها الذي لم تستطع ان تحمله معها,, كل ما تعلم عنه انها تركته جريحاً هناك,, في غروزني,, لكي تنجو بحياة البقية من اطفالها,, وهي الآن تسكن في عربة قطار صغيرة تضم ثلاثة عشر فرداً من اسرتها وأسرة حميها. عجوز تبلغ الستين من العمر روت لنا أنها وسكان قريتها مكثوا أشهراً في أقبية بيوتهم,, أشاع الجنود الروس أن الحرب انتهت,,وأن الحياة آمنة في القرية,, فخرج الناس,, عندها أطلق الجنود الروس قذائف البندقية الحاقدة فحصدوا معظمهم,, وقتل أخو العجوز,, وابنه,, وطلبوا من عمها الإسراع بدفنه حتى لا يراه مراسلو الإعلام,, وجرحت ابنتها جرحاً غائراً لا تزال تعاني منه. ام لسبعة ايتام,, طلبت منا أن نرى مسكنها,, غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها عشرة امتار,, يتقاطر سقفها بماء من اثر الجليد المتراكم على سطحها,, وعبر ثقوب جدرانها يتسلل زمهرير الشتاء,, اولادها السبعة ينامون على فراش واحد,, جارتها ليست أقل بؤساً منها,, اخذتنا الى غرفة صغيرة في مصنع قديم متهالك,, وعلى سريرها طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات,, مصابة بمرض السل,, لها أخوان يرقدان في المستشفى,, وأخ صغير غيّبه المرض ورحل عن الدنيا. قصص الموت,, والجوع,, والفقر,, والمرض,, اوراق متناثرة بين هؤلاء البشر الذين فرقتهم الحرب في الشيشان,, كل واحد منهم تتجسد فيه المأساة,, وكل امرأة كتاب تقرأ في صفحاته البؤس والشقاء,, لو تحدثنا مع كل واحد منهم لملأنا الاوراق,, وفي الجعبة مآس واوجاع نحتفظ بها حتى يحين وقتها,. لم تنته قصص الهجرة المريرة,, والتشرد المخيف,, ولكن احضان الخيرين تزهر بالحب,, وتعشب بمعنى الاخوة الإسلامية. تأخذ خيط الحديث عن المأساة عجوز انقوشية تتحدث وتصف ما جرى لإخوانها في الشيشان,, وتسجل شهادتها على بشاعة الإنسان,,وتكتب بعبرة عن كل قيمة انسانية,, تشاهد كل يوم ارتال المهجرين,, وحشودهم الرامقة للمجهول,, الشاردة في كل اتجاه,, الباحثة عن الدفء,, عن كلمة طيبة,, عن موقف صادق. في هذا الجو المشحون والحرب تزداد سعيراً,, يرى احد الانجوشيين المنظر الرهيب للزاحفين من الشيشانيين فيفتح لهم باب بيته,, ويستقبلهم بكل رحابة صدر وعددهم (20)لاجئاً,, ويستضيفهم لأكثر من شهر,, يأكلون ويشربون,, قام بذلك إعلانا للأخوة,, وتأكيداً للانتماء لهذا الدين. ولم تزل المأساة تتربص على كل شفاه الأنجوشيين,, فهذا احدهم,, تاجر كريم نبيل,, يستقبل في مصنعه اكثر من (200) لاجىء,, لا لشيء سوى انهم مسلمون,, يحتضنهم,, ويقدم لهم كل عون,. ويقدم لنا انجوشي آخر مثلاً رائعاً في كرمه وطيب اخلاقه,, هو بخير,, وله بيت كبير لم ينته من بنائه,, ولكنه بكل إنسانية وروعة يوقف البناء,, ويُسكن فيه اكثر من (150) لاجئاً شيشانياً,, ويزوّدهم بالمدافىء وكل مقومات الحياة,, يقدم كل ذلك بروح إسلامية,, وبكل رجولة وشهامة,, وبكل أريحية عُرف بها الانجوشيون. وليس التجار وحدهم من يتمثلون قيم المروءة والشهامة والكرم,, فهذه عجوز طاعنة في السن,,ولكن روحها وعزمها شاب قوي,, تستقبل في منزلها الصغير اللاجئين ويعيشون عندها شهراً,, تسعى الى راحتهم ما استطاعت الى ذلك سبيلا,. هذه المعاني تذكرنا بالهجرة من مكة الى المدينة,, بالمهاجرين والانصار,. الله أكبر,, انها روعة الانتماء لهذا الدين.