من عظيم سلطانه انه رب العالمين، ومن عظيم كماله أن الدين له كله، وأن العلاقة بين الخالق والمخلوق هي علاقة فردية لا تقبل الوساطة ولا سلطة تنفيذية بينهما. وهنا تتجلى عظمة الدين وعالميته، إلا أن المتأمل للحراك القائم في كثير من الأوساط على الإطار الفلسفي المحرك للعولمة وما ترتب على ذلك من مواقف متباينة. فهناك المبشر بمستقبل أفضل للمنتج والمستهلك وهناك منفر مرجف يشعر أن في العولمة تهديداً لمكتسباته، بينما فريق ثالث ما زال لا يملك رؤية واضحة فقد توازنه وثقته في نفسه فأصبح مستهلكاً للخبر يعيش على هامش الحدث ينتظر السماء لتمطر ذهباً. وهنا نعيد طرح السؤال القديم المتجدد: هل العولمة مطلب إنساني؟ بعد أن تداخلت معطيات الواقع الراهن، وتماهت الظواهر الاجتماعية والنفسية والاقتصادية وبعد أن راحت الحروب تفعل فعلها في النظرة إلى هذه الظاهرة، التي حركت المشاعر والأفكار صوب موقف منها، فلم يعد من السهل أو من المقبول التفرج على هذه العولمة المقتحمة المسيطرة.. لم يعد في مكنتنا أن نغلق أنفسنا ونحن نجري، بإرادتنا أو بغيرها، داخل هذا الاستقطاب الذي يتحدانا. إن العالم كله، اليوم يتغير! وما دام الأمر كذلك، فإنه من المفيد لنا، أو من الحكمة أن نغير أنفسنا بأنفسنا بدلا من أن نتغير بإلحاقنا بالتبعية أو بتبعية العولمة .. ويدخل في نطاق هذا التغيير الذي نملكه محاسبة سيرتنا التاريخية ثقافياً، واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وقبل ذلك كله: وطنياً وقومياً.. إن التغيير باتجاه العولمة حين نملك إرادتنا ووعينا لا يعني الانصهار ولا الاندحار على المستويات المسبوقة الذكر، ولكنه يعني أن نكون معادلين لهذه القوة التي نريد من العالم أن يغدو نمطا واحداً.. لقد جربنا في ارجاء الوطن العربي أيديولوجيات كثيرة أخفقت في انتشالنا وتفاعلنا المثمر مع الحياة التي تزدهر، وازدادت الهوة بين المواطن والمثقف الذي يحمل أفكاره الهجينة، وبقيت حاجتنا إلى هذه العولمة في جميع الميادين دون أن نفكر بإعادة إنتاج حياتنا بما يلائم عصر العولمة، وغدت المثاقفة من جانب واحد، ومع أن مساحتنا المعرفية تمتد آلاف السنين في التاريخ، ومع أن أيديولوجيتنا في هذه المساحة أثبتت جدواها وقوتها وجدارتها أمام محن الزمن وتعاقب أيامه حيث كانت تحمل مشاعل النور، إلا أننا ركنا إلى أن أيديولوجيتنا نابعة من أرضنا، وعندما يقوم متنور عصري بإعادة النظر فيما تليها من غبش يحجب عنها القيمة العالمية، ويمنع جدلها الدائم مع الحياة في كل مكان ومع العولمة فانه يطبع بطابع الأخذ والرد والحوار وقبول الآخر بدلاً من الاستسلام له. أما المثقف الذي يود رد العولمة، ويهاجمها ويرفضها، وهو تابع، فبضاعته سوف ترد إليه، إننا يمكن أن نتصدى للعولمة، حين نتدخل فيها، ونحرك فضاءنا الإيديولوجي بشروطنا وتصحيحاتنا على كل المستويات. كما نعتقد في السابق أن العولمة ذات أنهج خفية، وهي تتسلل إلى مراجعنا وأفكارنا معا دون أن نشعر بها، إنها أشبه بحسب الاعتقاد السابق أيضاً بكائنات سرية لا ترى بالعين المجردة، تدمر كل شيء في طريقها حتى تعيش وأن مكوناتنا العربية والإسلامية مهددة بها، إن لم تكن قد تهددت فعلاً، لكن الأمر الذي لا مساحة فيه اليوم أن هذه العولمة عزت تتحرك باهاب واضح للعيان وهي تترجم كل من يقف في طريقها بمنطق حق القوة.. فماذا نفعل؟! ما الدواء!؟ هل نتملك، اليوم أن نضع شروطا لمقاربتها قبل أن نقع في دوامتها بغير إرادتنا شئنا أم أبينا!؟ لا نرغب في أن يكون الجواب تهوينا لأحوالنا اليوم، لكنني أمتلك الجرأة على أننا يمكن أن نملك شروطنا للتفاعل معها وأن نواجه أنفسنا بها، وأن نصمد أمام انجرافها في هذا الزمن الذي لم يعد أحد فيه بقادر على الهروب أو نفي ذاته أو كيانه. إن ثمة اشتراكات كثيرة تعدها العولمة من حسناتها موجودة لدينا، ونحن لا نود التقويم الآن ولعلنا لا نملكه فهي تدعي هذه الحسنات وتعلن تصديرها، منها مثلا حقوق الإنسان وحتى تفاخر علينا بحقوق الحيوان فهل هذه الدعوة أو هذا الإعلان الذي توده العولمة اتجاهاً عالمياً يضر بنا وبصالح شعوبنا، من يستفيد حقيقة من هذا الضاغط الإنساني الكوني، ومن يعده اختراقاً لمكونات قيمة في حياتنا لم تعد تخفى على أحد. إن إدراكنا لموقف اطراف القبول والرفض يجعلنا نصفق لذلك الإعلان، ونتبناه شرط أن تكون المبادرة من قبلنا وبأساليبنا المتاحة، وأن نضع هذه اللافتة المتعلقة بحقوق الإنسان على مؤسسات نصوغها صياغة تستفيء بتراثنا وبيئتنا فضلاً عن أن هذا التوجه من جوهر مقتضيات شرعنا وسلوكنا أيام الازدهار «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا» ولا فرق بين عربي وأعجمي ولا أبيض ولا أسود. إن فكرة السوق الحر والملتقيات الثقافية والفنية وامتزاج الحضارات وتقبل الوعاء الحضاري واللغوي لأكبر دليل على أفعال العولمة في الواقع العربي والإسلامي وأيضاً العصر الجاهلي. إن في القرآن الكريم والسنة النبوية من الكلمات المهاجرة ما يؤكد ذلك ويقبله. إن الديمقراطية وفصل السلطات وحرية التدين كانت وما زالت بضاعتنا عبر التاريخ. إن تنكبنا لهذه الحقائق أوقعنا في تبني منهجية الرفض وحساسية التلاقح واللجوء أحيانا للأساليب التوفيقية والتصالحية التي لا تحدد الموقف ولا تصوغ منهجاً للتعامل بينما يحدث توالد وتكامل الحضارات نحو نموذج موحد لقرية فضاؤها مفتوح لا يعترف بالحدود ولا يحمل الخصوصية ما لا تحتمل.. فأي شيء في هذا الإعلان الإنساني للعولمة حتى نخاف منه، حيث نفعل ما يعكس أصالتنا الإسلامية والإنسانية، حين نقترب منه بالحوار الجميل الذي يبين له ما خفي لديه عنا، وأن نماشي هذا الزمن العولمي الذي كان من المفترض أن يكون زمننا الكوني بما عمله من معطيات إنسانية على مختلف الأصعدة، غلفها صدأ تاريخنا المتخلف وأبرزتها العولمة تجاهر بها في وجوهنا وفي حياتنا وهي بضاعتنا ترد إلينا فنتهيبها بركودنا. ومثل هذا الإعلان ينسحب على بقية الإعلانات التي تشملها ظاهرة العولمة واختراقاتها السريعة والمندفعة، وعندئذ تغدو العولمة في هجمتها مقاربة لا مغالبة عندما نفهمها ونفهم ما لدينا ويحقق تحركنا الحضاري ما نصبو إليه، حين تغدو العولمة منبرا يوجهنا نحو حياة مكينة تمتلك أسباب بقائها، بدلا من حياة نعيشها نغرق فيها في الضلالة والتخلف ودفن الرأس في الرمال، إن من يعتقد أن هذه الشعوب العربية والإسلامية التي تخر رقابها سكاكين العجز، بمنأى عن التحرك، مخطئ على التأكيد، إنها شعوب تعيش يوميا هذه العولمة وتتفاعل معها، حتى وهي مكفوفة في الخارج، إلا أن داخلها يشهد تغيرات العالم عبر نوافذ إعلامية لا يستطيع أن يسدها فضاء وهي تؤكد حريته وإنسانيته وكم سيكون مفيدا أن نسعى إلى أن نعمل بكل الوسائل والقوانين والأنظمة التجديدية المتحركة حتى تتقارب هذه الشعوب بمشيئتنا وبخططنا وتطلعاتنا قبل فوات الأوان. مرة أخرى نعود لنؤكد أن ديننا الإسلامي دين عالمي لا يضيق بالعولمة بل يدعو إلى العالمية فالله رب العالمين ورسالة الإنسان إعمار الأرض ومقتضيات الواقع تحتم الانفتاح فالحكمة ضالة المؤمن، والله من وراء القصد.