طبول الحرب تُقرع مرة أخرى. منذ 11 أيلول سبتمبر تُظهر العولمة وجهاً صاخباً عنيفاً. أميركا تقود العولمة. العولمة الى أين تقود هذا العالم؟ يبدو موضوع "العولمة" وكأنما قد صار سؤالاً في الأيديولوجيا أكثر مما هو سؤال فكري وموضوعي، إذ لم يعد بإمكان أحد أن يتكلم عن العولمة اليوم إلا من باب إعلان موقفه منها، إما مدافعاً عنها - كما هو شأن غالبية المفكرين الغربيين، والأميركيين على وجه التخصيص - أو مديناً لها - كما هو شأن أي كاتب غير غربي- وهذا يكشف عن فرز المواقف بين معسكرين قد يكونان دخلا فكرياً في حرب باردة، لأن الحوار يدور في الحالين على نفي الهيمنة ومحاولة علمنة العولمة أو إظهارها، في الأقل، في صورة ليبرالية عقلانية، حين يكون المتحدث أميركياً، مثلاً، وفي المقابل يتهم غير الأميركيين العولمة بأنها مشروع في الهيمنة، حتى لتكون صيغة جديدة لنوع من الإمبريالية الجديدة. مع توسلها بأحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا والنظريات الاتصالية من تطور ودقة في التحكم. هذه صورة ذهنية آلت إليها الحوارات حول العولمة، ولا مفر لأي كاتب يكتب من أن يقع في أحد الاحتمالين. وما أود طرحه هنا هو الخروج من هذه الحرب الباردة الفكرية، لأطرح سؤال "مابعد العولمة"...؟! وسؤال ما بعد العولمة آت من افتراض أن العولمة هي مرحلة ظرفية لن يكتب لها الدوام، وهذا ما نزعمه هنا في هذه الورقة. أما لماذا نفترض زوال مرحلة العولمة، فهذا ما نخرج به من ملاحظة الخطابات التي دارت حول العولمة، أو ضدها، وكذا ردود الفعل لدى المجتمعات البشرية في الغرب والشرق معاً، وهي ردود فعل تجلب في تظاهرات واحتجاجات واعتصامات وإضرابات، في الكثير من دول الغرب، في كل مرة يعقد فيها مؤتمر من مؤتمرات العولمة وتحضر رموز العولمة السياسية والاقتصادية، وهذه كلها صورة أولية ومبدئية لا بد من أخذها في الحسبان عند تصور حال العولمة وقيمتها في رد فعل الناس. وإذا كان المتظاهرون هم من جماعات العمال والطلاب وأنصار البيئة وأصدقاء الأرض والمثقفين الأحرار، وذلك في الغرب ذاته، وفي مقابل ذلك تتعالى صيحات المجتمعات الأخرى من غير الغربية ضد العولمة. وهذا معناه نزع الجانب الإنساني عن العولمة ونسبتها إلى كل ما هو غير إنساني. والمهم من هذا هو أن نخلص إلى القول إن مشروعاً يعتمد في تكوينه على قوة أصحابه، وليس على منطق داخلي يؤسس له، فهو مشروع شمولي بالضرورة. وشمولية العولمة هي ماستقضي عليها أخيراً على أساس أن الفكر البشري أثبت مقدرته دوماً على رفض الشموليات في تاريخ البشرية كله، ومهما طال أمد الشمولية ومهما كان سندها قوياً، إلا أنها تصاب بالإنهاك أخيراً وتسقط. وهذا هو مصير العولمة بالضرورة، شرط أن نسلم بكونها شمولية، من حيث إنها تعتمد أول ما تعتمد على القوة الأميركية بصفتها قوة وحيدة أولاً، وقوة واثقة من نفسها ثقة عمياء ومطلقة ثانياً. وهذان وصفان يفضيان حتماً إلى فلسفة شمولية لأن القوي الواثق لا يرى غير ذاته، ولا شك أن أميركا اليوم لا ترى غير ذاتها كما لا شك أن العولمة صيغة ذهنية أميركية، وبما أنها كذلك فهي صيغة مضادة لكل ما هو غير أميركي، ولذا صارت "العولمة" قيمة سياسية واقتصادية وثقافية، وذات تصور كلي مطلق، ومن ليس معنا فهو ضدنا، كما هي كلمة جورج بوش، في حربه الكونية المعلنة الآن، وهي الحرب التي تكشف عن تطور خطير لمفهوم العولمة يربط ما بين السياسي والعقدي حتى لقد صارت السياسة الأميركية الحالية ضرباً من المعتقد الديني القطعي، غير العلماني وغير الديموقراطي، وهذا يعزز مفهوم شمولية المصطلح وتماديه في الشمولية مع مرور الزمن والحقب السياسية الأميركية، في مزيد من المحافظة والتشدد. وبما أننا لا نملك بشرياً قوة أخرى تنافس أميركا، وهذه حال البشرية اليوم، فإن قدر البشرية الظرفي هو أن تتحكم فيها الإرادة الأميركية وصيغتها الفلسفية الحالية، أقصد "العولمة". إذاً نحن أمام حل مفرد من مصدر مفرد، وصاحب الصيغة، وهو الأميركي، هو مبدع النص وهو مفسره ومالك تأويله ومالك تنفيذه، وهذا هو تاريخ اللحظة الراهنية ولا شك. ولكن السؤال هو: هل ستستمر هذه الحال؟! إن سؤالي يطمح لأن ينهل من تجارب التاريخ ويطمح لأن يستحضر هذه التجارب لكي تكون أساساً للتصور ومبنى للإجابة. والتاريخ كله يقول بأن الحل الكلي المفرد ينتهي إلى باب مسدود وينتكس ضد صاحبه. ولا شك أن الحرب ضد العولمة هي من داخل الشعوب الغربية ومن داخل المجتمع الأميركي بأكثر مما هي من الشعوب الأخرى، وما دامت الحرب من الداخل، وهي تقع خصوصاً من فئات الشباب والطلاب والنساء والعمال الذين صاروا في الهامش، ومعهم طلائع من المثقفين والمفكرين، وفي ذلك إعلان عن تزايد ضحايا العولمة من جهة، مثلما هو كشف عن واحدية العولمة وكونها صيغة مطلقة وشمولية كلية، لا تعددية. إن كنا غير قادرين عملياً على مواجهة العولمة، فإننا لن نعجز عن تصور زمن ما بعد العولمة، ولكن كيف ذلك، وهل هي دعوة للركون إلى الأحلام والأماني، أم هي دعوة للعمل وابتكار وسائل للمواجهة والتصدي وإنقاذ الإنسانية من هذه الديكتاتورية الجديدة المتغلفة بغلاف ثقافي وسياسي والمتسلحة بإجماع عالمي قسري وفرضي؟! لن يفوتنا أن يلاحظ أن مشروع أميركا في الحرب على الإرهاب هو مشروع يتسم بالآحادية واللامنطقية كما يعتمد على الرأي القطعي والحسم الذاتي، ويصر على فرض الرأي الواحد على الجميع ولا يتردد بأن يدعي أن هذا هو القرار العالمي الكلي، ويصف موقفه بالحضاري نافياً ذلك عن غيره وكم هي مضحكة فعلاً وسائل أميركا في الضغط على أعضاء مجلس الأمن وما صدر قرار إلا بعد ضغط قوي وطويل ومضن. ويصحب ذلك تسخير كامل للقوى العقلية والثقافية الأميركية - كما هو مكشوف في بيان المثقفين الأميركيين الستين الداعمين لفكرة الحرب - وتسخير القوى الإعلامية - كما هو مكشوف في خطاب أمهات الصحف الأميركية، ك"واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" و"لوس أنجليس تايمز" - وكذا أجهزة البث الصوتية والبصرية، ومقالات الرأي لأهل الرأي السياسي والإعلامي الأميركيين، ما يصنع إجماعاً أميركياً لدى أصحاب الرأي وأصحاب القرار في كل ما يذهبون إليه. وفي المقابل نجد الرأي المخالف لدى الأوروبيين، وهو ما عبر عنه بيان المثقفين الألمان، ويعبر عنه بعض مواقف السياسيين، ومقالات الرأي ومواقف المفكرين في أوروبا. وهذا الموقف الأوروبي يكشف من جهة عن رأي حر مضاد، لا سيما ان أوروبا ليست مستهدفة من الحرب الأميركية، كما يكشف عن أن المنطق الأميركي ليس مقنعاً في ذاته كخطاب برهاني، وأن ما يتكئ عليه التصور الأميركي ليس منطقياً وليس حوارياً، وبالتالي فهو تصور عقائدي وليس تصوراً فكرياً حراً. ومن جهة أخرى، فإن ما تجب ملاحظته أن أميركا تتعامل بقسوة مع الرأي المخالف، وقد تعرض المثقفون الألمان لهجمة شرسة رداً على بيانهم الاعتراضي وجاءهم رد حاد من المثقفين الستين الأميركيين، إضافة إلى حجب آراء الأميركيين المخالفين لقرار دولتهم والتعتم على احتجاجاتهم، ولقد صدرت بيانات لمثقفين أميركيين ولكنها لم تكن بذات صدى ولا بذات وقع، على نقيض ما كان لبيان الستين المؤيدين لقرار الحكومة. هذه صورة عن الحال الفكرية للمستند المنطقي الذي تبنى عليه خطط أميركا في حربها ضد الإرهاب، وهي خطط صارت اليوم بمثابة الخلاصة النهائية لفكرة العولمة. حتى لقد صارت الحرب ضد الارهاب والعولمة وجهين لعملة واحدة، وهذه العملة هي الدولار حتماً وليست اليورو ولا الين، بكل تأكيد. وبما أن العولمة والحرب على الإرهاب هما الآن وجهان لعملة واحدة، فالحرب على الإرهاب هي الأداة التي عبرها ينفذ كل خطط العولمة ويصمم كونياً، في كل شؤون البشر، السياسي منها والاقتصادي والثقافي، وما مثال الموقف من العراق إلا شاهد على ذلك، حيث تسعى أميركا لرسم مستقبل العراق على نموذجها هي، وبحسب مصلحتها الاقتصادية والسياسية، وهما مرتبطان بالضرورة بالوضع الثقافي والتصور الاجتماعي، مع تطلع أميركا أن يكون ذلك عينة لما تريده من الآخرين على غرار النسخة العراقية التي تريد أميركا صياغتها. كل هذا يجري بقرار فردي قوامه القوة والفردية. ويتوسل بالمادي والفكري لتحقيق المنجز عملياً وفكرياً. هذا هو التصور الذي لا يخفى على أحد، ولكن ما مصير هذا المشروع؟ لا شك في أن أميركا تملك القوة المادية مثلما تملك المعنوية في تحقيق مآربها، وفرض صيغتها الإمبريالية الجديدة في "العولمة" متوسلة بحجة الحرب على الإرهاب. وبذا تكون العولمة مشروع حرب ومشروع استعمار. ولكن مصير هذا هو ما يمكن أن نسميه بما بعد العولمة، وهي مرحلة آتية بالضرورة، ولن نختلف على ذلك إذا عرفنا كيف نتذكر التاريخ وسيرة القوى والأفكار. وستأتي التحركات من الداخل الأميركي، مثلما هي آتية من الخارج، وأخطر ما هو حادث في أميركا داخلياً الآن هو هجرة المصانع، وهجرة الأموال. وفي هجرة المصانع تتولد البطالة والحرمان، وتسفر الأنانية والفردية عن وجهها حيث تنتقل المصانع من المدن الأميركية متخلية عن المباني والبشر وتذهب إلى الدول الفقيرة طلباً لليد العاملة الرخيصة وللأنظمة المتسامحة والمتواطئة، وإن نفع هذا بعض المجتمعات الفقيرة ظاهرياً إلا أن ما يخلفه في المدن الأميركية بالغ الخطورة، ومن رأى مدينة ييل الأميركية سيرى مدينة أشباح بعد أن هجرتها المصانع وبقيت الأطلال مكانياً وبشرياً، ومن ثم بدأت تتكون طبقة من المحرومين والعاطلين، نتيجة لتواطؤ تام بين الحكومة ورؤوس الأموال، وهذا واحد من نتائج برنامج السوق الحرة، والشركات متعددة الجنسية، أو الشركات التي لا جنسية لها، حيث تكون فوق كل الأنظمة والتشريعات وغير قابلة للحد أو السيطرة. من هذه المفارقة ينشأ رفاه ذاتي طبقي ومن تحته حرمان جماعي طبقي أيضاً، وهذا واحد من نتائج العولمة السلبية على الداخل الأميركي، وهو داخل صار يعبر عن نفسه بالتظاهرات والاحتجاجات، وبدأ بسياتل ثم راح يتكرر في المدن الأميركية الأخرى وانتقل إلى أوروبا، وتعالت معه احتجاجات فكرية وإنسانية عالمية. وهذا مثال واحد داخلي، وتقاس عليه أمثلة أخرى كثيرة تتعلق بالتهميش وأشدها حجب الرأي المعارض وتجاهله. مع نشوء تيار يميني متطرف وديني وعقائدي، وهي سمات الرأي الواحد والشمولي. وكما هو الوضع في الداخل فإن السياسة الأميركية الخارجية، بصيغة العولمة ومنطقها الشمولي، صارت تتحدى كل قواعد المنطق الإنساني في التعايش المشترك، وأبرزها رفضها لمعاهدة كيوتو لحماية الأرض، وتحديها للشرط الإنساني في الوجود الحي حيث لا تعبأ في تلويث الأرض وإفساد الحياة الكونية، مثلما تتحدى الرغبة الإنسانية في العدالة ومحاسبة المجرمين، وترفض قوانين المحاسبة التي أجمعت عليها كل دول العالم ما عدا أميركا وربيبتها إسرائيل، إذ ترفض مبدأ محاسبة الطغاة ومجرمي الحرب إذا كانوا من رعاياها، وفي المقابل تلاحق البشر بمجرد الظن أو الوشاية. وهذا أمر صار موضع رفض متصاعد من كل قادة الفكر عالمياً مثلما هو موضع رفض من الضحايا أنفسهم. هذه صورة مختزلة للواقع البشري لحال العولمة اليوم، وهذا يكشف عن شيئين خطيرين فعلاً: أولهما: هو اختفاء القيمة الأخلاقية عن مفهومي العولمة والحرب على الإرهاب، وهذا خلل سيوجد أزمة من داخل الخطاب ذاته تجعله يفقد أسباب تماسكه مثلما سيفقد المقدرة على الدفاع عن مقولته وتبرير استمراريتها. وثانيهما: هو في اختفاء التوازن العالمي وانكفاء الكون البشري نحو قطب واحد، وهذا اختلال سيفقد العالم تركيبته التعادلية ذهنياً ومسلكياً، وسيخلق شمولية تضيع معها كل حدود التحكم، حتى ليصبح الأفراد أعداء ضروريين للأنظمة، بما أن الأنظمة لم تعد منصفة لهم ولا معبرة عنهم. من هذا ستنشأ ردود فعل متنوعة، بعضها عاقل ومقاوم، وبعضها عنيف وهجومي، وهي نتيجة حتمية لقيام فلسفة شمولية كلية مطلقة، هي العولمة ووجها الآخر الحرب ضد الإرهاب. إن الحرب ضد الإرهاب هي حرب ضد الذات، لأن كل ضربة تحدث رد فعل غير قابل للسيطرة، وكل ضربة إرهابية تدفع إلى مزيد من الحرب المضادة، وهكذا تدخل البشرية في دوامة لا تنتهي، ولن تخرج البشرية بحل لهذا كله إلا بأن تسأل نفسها ما الذي يجعل الإرهابي إرهابياً، وهذا سؤال لا تريد العولمة كفلسفة ونمط سلوكي أن تطرحه. والسؤال إلى متى تتجاهل أميركا، سياسيين ومفكرين، هذا السؤال عن الأسباب؟ إن قوة أميركا وتفردها الراهن تسمح لها بتجاهل هذا السبب وتتيح لها فرصة التحرك الواثق، غير أن هذا موقف لا يفضي إلى حل، وبما إنه كذلك فإن المشكلات ستستمر وستزداد ضراوة، سواء من داخل أميركا في احتجاجات الجماعات المهمشة التي تزداد تهميشاً وتتسع دائرة تذمرها فكرياً وسلوكياً، أو في خارج أميركا في مقاومة العالم لفكرة العولمة وثمنها الباهظ في حرب الإرهاب وجعل أي عدو لأميركا إرهابياً بالضرورة وتجب محاربته. إن مقاومة هذا من الداخل الأميركي وكذا في الخارج هي ما سيفضي إلى تجاوز مرحلة "العولمة" إلى "مابعد العولمة"، ولذا لا بد من مواجهة الجبروت الرمزي لخطاب العولمة وكسر نرجسيته المطلقة، هذه النرجسية التي جعلت جورج بوش لا يتردد في أن يعلن عن كراهيته الشخصية لرئيس كوريا الشمالية، وبما إنه يكرهه شخصياً فلا بد للعالم، كل العالم، أن يكره هذا النبوذ المطرود من رحمة السيد العم. على مدى عقد واحد تطورت مصطلحات جديدة للهيمنة ابتدأت بمصطلح "النظام العالمي الجديد" وهو المصطلح الذي تبناه جورج بوش الأب، وهو أشبه ما يكون بخطاب رسمي نرجسي مكتنز بنشوة النصر على الاتحاد السوفياتي والاشتراكية العالمية، وهو مصطلح يعلن التفرد والتفوق، وكانت فكرة "السوق الحرة" هي الرديف والخلاصة له، ثم جاء مصطلح "العولمة" مع كلينتون، كتطوير لذلك المصطلح وتوسيع لمجاله ليشمل نشر الفلسفة الأميركية البراغماتية ونمط الفكر الأميركي وكأنما هو صيغة ثقافية، ولكنه متلبس بالعصا والدوار الأميركي مع توسيع مفهوم السوق الحرة ليشمل الشركات متعددة الجنسية ويأخذ بشرط النموذجية الأميركية على غرار هوى السيد الجديد، ثم جاءت مرحلة بوش الابن، حيث دخل المصطلح في مرحلة جديدة ذات طابع عسكري، يفرض شروطه ونسقيته بالقوة، ويحقق متطلبات المصطلح بكل مراحله السابقة اقتصادياً وثقافياً عبر الفرض العسكري. لم يكن ظهور الابن بوش، بعد والده، ثم وراثة المصطلح مع وراثة السلطة، لم يكن ذلك مجرد حدث ديموقراطي قررته صدف الانتخابات، وإنما هو مؤشر رمزي للغة التاريخ ونسقيته المضمرة حيث تضخ دماً جديداً تحت الرمزية الاسمية ذاتها، فيأتي الابن حاملاً اسم أبيه بكامل شروط الاسم وتطابقه، ويحمل فكر الأب وعنجهيته بكامل سماتها، ويصنع لنفسه جواً بخلفية سلطوية وفكرية ويتمم شروط النسق المهيمن. وهكذا صار الابن حاملاً للرمزية وعلامة نسقية تتأكد معها وثوقية المصطلح، ولذا يرث الابن عن أبيه ليس الفكر والسلطة، وحسب، بل يرث الأعداء أنفسهم، وصدام حسين عدو الأب صار عدواً للابن بمقدار أشد، بينما كان الأمر أقل مع كلينتون، ومن هنا يجري تطوير المصطلح وإنضاجه من أجل إكمال الحبكة وضبط لعبة الهيمنة. وإذا ما كانت الهيمنة هي الهدف، وفي مقابل ذلك لا نرى في العالم اليوم أية قوة أخرى يمكنها أن تنافس أو تحد من مقدرات أميركا، فإن العالم محكوم عليه في هذا العقد أن يمر بهذا المختنق التاريخي، وليس من حل سوى السعي إلى تقليل نسبة الخسائر الكونية، والسعي لتهدئة المارد الأميركي، وإن كنا نعي أن أثماناً كبيرة ستدفعها البشرية، ولا شك في ذلك، إلا أن ما يمكن عمله هو محاولة تقليل حجم الثمن حيث لا يكون مدمراً تدميراً لا تمكن معالجته في المستقبل، ولنا ان ننظر إلى الأمر على أنه مأزق تاريخي نحتاج إلى قدر ضخم من الحكمة والكياسة كي نتجاوزه، والعالم يمر في عنق زجاجة، ولا شك، وهو سيمر ويعبر بلا شك أيضاً، لكن من المهم أن نؤمن أننا في عنق الزجاجة الآن، ونؤمن في المقابل أن البشرية ستتجاوز هذه المرحلة حتماً، ونؤمن أن زمن "ما بعد العولمة" آت ولا ريب، كما تنص عبرة التاريخ، ونهايات الحلول الشمولية، غير أن هذا لن يأتي بلا ثمن، والبشرية ستدفع ثمن المرحلة وستسدد فاتورة النمرود الأميركي، بالضرورة، وليس باليد غير العمل على تقليل نسبة المدفوع، ومن ثم التخطيط إلى ما بعد الغمة والتطلع إلى يوم يجري فيه تدجين الموحش، وهذا مشروع لخطط استراتيجية وفكرية واجتماعية بما إن العالم اليوم في حال طوارئ كونية، ولا بد من وضع خطط تليق بهذه الطوارئ وتتعامل مع شروطها، وهذا في عرفي هو ما يمكن عمله وتوقعه، خصوصاً من الأمم المغلوبة فعلاً وواقعاً، وهي الأمم التي تحتاج إلى رسم خطط تسميها خطط عبور "عنق الزجاجة" بما إن العالم محشور الآن في هذا العنق الخانق. أخيراً، لا بد أن أشير إلى أن العولمة ليست شراً خالصاً، وإن كانت شمولية وسلطوية في شكل صارخ ومستبد، ولقد يحق لنا أن نقول: رب ضارة نافعة، النفع وهو وإن كان نفعاً من نوع الكوميديا السوداء، أو التراجيديا التنبيهية، فإن العولمة كشفت عن خللين خطرين هما: أولاً - كشفت العولمة عن هشاشة الأنظمة المحلية، سواء منها الرسمي أو الشعبي، وهي أنظمة تقليدية في ثقافتها وفي نظام حياتها، تكلست على مر العقود، وأعطتها حقبة الحرب الباردة مجالاً للتنفس والدعة، والغفلة عن الذات الداخلية بسبب التركيز على لعبة التحالفات الخارجية، التي كانت بمثابة صفقة تاريخية: حالفني اسكت عنك، غير أنه تبين مع العولمة أن ذلك كان تنفساً اصطناعياً استفاد من انشغال القطبين المتحاربين ومن حاجة كل منهما لحليف، مهما كان شكل هذا الحليف، وصارت تلك الحاجة ذريعة للتغاضي ونسيان المشكلات الداخلية، ولما زالت الحاجة لمثل تلك التحالفات انكشفت الأغطية عن هشاشة صارت معها الأنظمة المحلية عاجزة عن المواجهة وغير مهيأة للتصدي والتحمل، حتى إن ذلك تبدى شعبياً مثلما تبدى رسمياً، ومع كل الغضب من سياسة أميركا، الا أن هذا الغضب لم يترجم ترجمة ثقافية أو شعبية في شكل احتجاجات قوية ومعبرة ومؤثرة، حتى لقد صرنا نعد مناسبات الاحتجاج وأشكالها عدا بسبب قلتها وضعفها وعدم توافقها مع حجم الغضب وحجم المأساة. على أن انكشاف الحال هذه مفيد من حيث فضح الداء وإزالة الأغطية عنه، ولا حل سوى إصلاح ذات البين داخلياً وخارجياً لبناء مجتمعات يمكنها الصمود من جهة وتقليل الخسائر من جهة أخرى والتوجه نحو المستقبل من جهة ثالثة. ثانياً - هو أن العولمة بما فيها من حس تسلطي وتفردي كشفت عن عجز مخيف للمشروع الفلسفي الإنساني، مذ قامت الفلسفة عبر التاريخ، ومسعاها لتحقيق مجتمع إنساني فاضل وعادل ومتوازن، ومع كل طموحات الفكر البشري وطروحاته الفلسفية فإن نهاية التاريخ صارت للقوى اليمينية المتطرفة ولقوى الهيمنة والتفرد وللشمولية الكونية اللاإنسانية. وهذا فشل ذريع للمطمح البشري بدت معه البشرية وكأنما عادت لشريعة الغاب الأولى وكأن رصيد الفلسفة والعقلانية تبخر في لحظة واحدة. وليس للبشرية اليوم إلا أن تقف وقفة واحدة من أجل استنهاض الضمير الثقافي العالمي وتصحيح مسار البشرية وإنقاذ الكون من ديكتاتورية مطلقة وتحكم سلطوي استعماري، وهذا هو المطلب الأول فكرياً وثقافياً لكل أمم الأرض من أجل عبور مرحلة العولمة، وإدخال البشرية لمرحلة جديدة تستعيد فيها توازنها وهذه هي مرحلة "ما بعد العولمة"، المرحلة التي يجب دفع عجلة التاريخ نحوها لتحقيق مخرج بشري من عنق الزجاجة الحالي. * كتبت هذه الورقة لندوة مؤسسة العويس الثقافية المنعقدة الأسبوع الفائت في الامارات ولظروف خاصة تعذر على الكاتب السفر للمشاركة.